تضامنًا مع فلسطين.. نموذج محاكاة لقبة الصخرة ضمن مشروعات تخرج طلاب الآثار بالأقصر    بالصور.. استعدادات سوق الجمال لموسم عيد الأضحى    خبير اقتصادي: السوق المالي سيشهد صعودًا وبقوة الفترة المقبلة    مسؤول إسرائيلي: 10 فرق إطفاء تعمل في غابة بيريا بمنطقة الجليل الأعلى    أحمد موسى يوضح تفاصيل مذكرة التفاهم بشأن العمالة المصرية في قبرص    "تمزق من الدرجة الثانية".. طبيب الزمالك يكشف حجم إصابة فتوح والجزيري    أحمد جمال يكشف كواليس دهس مسن على صحراوي الفيوم: مش أنا    الهيئة الملكية لمدينة مكة المكرمة والمشاعر المقدسة تعلن عن خطتها لموسم الحج 1445ه    بحضور ابنته.. مهرجان جمعية الفيلم يحتفل بمئوية عبدالمنعم إبراهيم    قصواء الخلالي تطالب الحكومة بإيضاح كل الأمور حول زيادة فترة تخفيف أحمال الكهرباء    هيئة الدواء تنظم ندوة حول اعتماد المستحضرات الصيدلية من قبل الصحة العالمية    أحمد جمال يكشف حقيقة حادث اصطدامه برجل مسن    خارجية أمريكا: هناك من يعارض داخل حكومة إسرائيل صفقة إطلاق المحتجزين    اجتماع أيقونات عين الصيرة.. كيف روج تركي آل الشيخ ل«ولاد رزق 3»؟    تشكيل منتخب إيطاليا أمام تركيا استعدادًا لنهائيات يورو 2024    «القاهرة الإخبارية»: سلوفينيا تستعد للاعتراف بدولة فلسطين الشهر المقبل    عاجل| كبير مستشاري بايدن للشرق الأوسط يزور المنطقة الأسبوع الجاري    ديشامب يعلق على انتقال مبابى الى ريال مدريد ويشيد بقدرات نجولو كانتى    إصابة سيدتين وطفلة في حادث تصادم بالصحراوي الغربي شمال المنيا    موعد صيام العشر الأوائل من ذي الحجة 2024    الخارجية الأمريكية: وقف إطلاق النار في غزة مقترح إسرائيلي وليس أمريكيا    طريقة عمل قرع العسل، تحلية لذيذة ومن صنع يديك    محافظ دمياط تشهد افتتاح 6 مدارس بمركز فارسكور    الصحة توجه نصائح للحجاج لتجنب الإصابة بالأمراض    شقيق المواطن السعودي المفقود هتان شطا: «رفقاً بنا وبأمه وابنته»    حسام حسن: لم أكن أرغب في الأهلي وأرحب بالانتقال للزمالك    إجلاء مئات المواطنين هربا من ثوران بركان جبل كانلاون في الفلبين    القائد العام للقوات المسلحة يفتتح أعمال التطوير لأحد مراكز التدريب بإدارة التعليم والتدريب المهنى للقوات المسلحة    المؤتمر الطبي الأفريقي يناقش التجربة المصرية في زراعة الكبد    لاستكمال المنظومة الصحية.. جامعة سوهاج تتسلم أرض مستشفى الحروق    المنتج محمد فوزى عن الراحل محمود عبد العزيز: كان صديقا عزيزا وغاليا ولن يعوض    رسميًا.. طرح شيري تيجو 7 موديل 2025 المجمعة في مصر (أسعار ومواصفات)    وزير الخارجية الإيطالي: لم نأذن باستخدام أسلحتنا خارج الأراضي الأوكرانية    فليك يضع شرط حاسم للموافقة على بيع دي يونج    لحسم الصفقة .. الأهلي يتفاوض مع مدافع الدحيل حول الراتب السنوي    حكم صيام ثالث أيام عيد الأضحى.. محرم لهذا السبب    فرحات يشهد اجتماع مجلس الجامعات الأهلية بالعاصمة الإدارية الجديدة    التحفظ على المطرب أحمد جمال بعدما صدم شخص بسيارته بطريق الفيوم الصحراوى    ونش نقل أثاث.. محافظة الدقهلية تكشف أسباب انهيار عقار من 5 طوابق    عيد الأضحى 2024| ما الحكمة من مشروعية الأضحية؟    محافظ كفرالشيخ يتفقد أعمال تطوير وتوسعة شارع صلاح سالم    رئيس جامعة حلوان يفتتح معرض الطلاب الوافدين بكلية التربية الفنية    محمد علي يوضح صلاة التوبة وهي سنة مهجورة    مدير صحة شمال سيناء يتفقد مستشفى نخل المركزي بوسط سيناء    «التعليم العالي»: التعاون بين البحث العلمي والقطاع الخاص ركيزة أساسية لتحقيق التقدم    ل أصحاب برج الجوزاء.. تعرف على الجانب المظلم للشخصية وطريقة التعامل معه    فيلم فاصل من اللحظات السعيدة يقترب من تحقيق 60 مليون جنيه بدور العرض    أول رد من الإفتاء على إعلانات ذبح الأضاحي والعقائق في دول إفريقية    «شعبة مواد البناء»: إعلان تشكيل حكومة جديدة أربك الأسواق.. ودفعنا لهذا القرار    تعليمات عاجلة من التعليم لطلاب الثانوية العامة 2024 (مستند)    26 مليون جنيه جحم الاتجار فى العملة بالسوق السوداء خلال 24 ساعة    ضبط 48 بندقية خلال حملات أمنية مكبرة ب3 محافظات    "تموين الإسكندرية" تعلن عن أسعار اللحوم في المجمعات الاستهلاكية لاستقبال عيد الأضحى    نائب رئيس "هيئة المجتمعات العمرانية" يتابع سير العمل بالشيخ زايد و6 أكتوبر    بملابس الإحرام، تعليم الأطفال مبادئ الحج بمسجد العزيز بالله في بني سويف (صور)    أخبار الأهلي: حارث يكشف كواليس مشادة أفشة ومارسيل كولر وتفاصيل جلسة بيبو    سيف جعفر: أتمنى تعاقد الزمالك مع الشيبي.. وشيكابالا من أفضل 3 أساطير في تاريخ النادي    علام والدرندلى يشهدان تدريبات المنتخب الأوليمبي    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الشوار
نشر في الشروق الجديد يوم 04 - 09 - 2023

تربيت فى منزل حيث توجد ماكينة «سنجر»، مختبئة تحت غطاء خشبى يشبه حقيبة السفر، وتستريح على منضدة خشبية مُصممة خصيصًا من أجلها، وتتوسط غرفة الجلوس وكأنها قطعة ديكور تُغطيها أمى أحيانًا بمفرش كبير مطرز بالخيوط الملونة على أشكال زهور وأوراق شجر.
لكن الماكينة لم تكن موجودة للزينة، بل كانت بمثابة الصديقة المؤتمنة لأمى، المخلصة التى لا تخيب أملها كلما أخرجتها من محبسها، ما عدا تلك المرات التى ينقطع فيها الخيط أو تنكسر الإبرة، فتعاتبها أمى برقة «ليه كده يا بنت الناس ما كنتى شغالة».
لم يكن مسموحا لى أو لأشقائى الاقتراب منها، إلا فى حالة حاجة أمى إلى المساعدة فى لضم الإبرة، وهى المرات التى نتسابق حتى نحصل على شرف تمرير الخيط من الثقب الضيق، ينحنى المختار منا ويحاول دس الخيط فى الثقب الضيق، وبعد أن ينجح فى المهمة، يحصل على المديح من أمى بجملتها «فالح/ ة يا خويا/ ياختى».
• • •
هكذا كانت أمى رسميا مُعلمة فى إحدى مدارس الثانوى التجارى، وبشكل احترافى مجانى «خيّاطة» لنا ولأفراد العائلة وقلة من الأصدقاء المقربين، تؤدى ما تفعله بمهارة وبمجانية، تقيس أبعادنا بالمازورة، وترسم الباترون على ورق الجرائد أو ورق الزبدة، وتقص القماش وتسرجه يدويا أولا، وعندما تتأكد من انضباط المقاسات على صاحبه، تحيكه على الماكينة، فيصدر ذلك الصوت المميز للموتور، مصحوبا بصوت دقات الإبرة التى تنغرز صعودا وهبوطا فى النسيج.
أخيرا تنحنى أمى برأسها على الماكينة وتقضم الخيط وترفع المنتج النهائى أمام عينيها تتأمل تفاصيله، وبمقص صغير تقضى على الخيوط الصغيرة التى لا تُرى بسهولة، وتقول لمن يراقبها «نظافة التفنيش هى اللى بتقول اللى عمل الحتة دى بيفهم ولا أى كلام».
فى ألبومات الصور التى تحتوى على صورنا منذ أن حملت بنا أمى، نظهر فى كل مراحل عمرنا نرتدى ملابسنا المنزلية والأخرى الخاصة بالخروج، كلها من تفصيل أمى، وعندما كبرنا وتمردنا سمحت لنا بالحصول على ملابسنا من المحلات، ولكن لأسباب مادية حينها عدنا إلى الملابس التفصيل.
ولكن بالتأمل فى هذه الممارسة الآن وأنا أكتب، اتضح لى أن أمى كانت تحب تفصيل الملابس فكنت أنا وشقيقتى نحذو حذوها ونشاركها رحلة شراء الأقمشة وتفصيل الهدوم، ولكن على كل حال إن كانت الأسباب مادية أو تقليدا لأمى لا شعوريا، فإن تلك الرحلة التى تبدأ بشراء الأقمشة واختيار الموديل والتفاوض مع الترزى وأخيرا شراء الكُلف كانت بمثابة بهجة مُسلية خاصة لفتاة مثلى تحب محلات الأقمشة وألوانها المبهجة، وتلك الرائحة التى ترتبط بهذه الأماكن.
• • •
احترافية أمى جعلتها محل ثقة لعدد من بنات العائلة، أن تتولى هى مسئولية تفصيل ملابس «شوارهن» فى نهاية تسعينيات القرن الماضى، «الشوار» هذه الكلمة التى لا تبدو أنها متداولة كثيرا تعنى جهاز العروس، وتُستخدم تحديدا لوصف ملابسها وحاجاتها الشخصية.
قبل تلك الأعراس كان منزلنا يمتلئ بالنساء والأقمشة والكلف والمجلات، وتفننت أمى فى حياكة قمصان البيت تلك التى تشبه الفساتين، وتمنيت أن أحصل على شوارى أنا أيضًا من يد أمى.
ولأنى من مدينة المحلة الكبرى فقد تربيت على شراء الأقمشة خارج مواسم الأعياد، إلا أنه فى مواسم التخفيضات كانت أمى تشترى الأقمشة التى تناسب ذوقنا وتصلح لتكون جزءا من جهاز عرسنا فى المستقبل، ومثل كثير من الأمهات المصرية كانت أمى تشترى لنا ملابس جاهزة الصنع أيضا من قبيل تجهيزنا، وبدأت هذه الرحلة من الشراء منذ كنا فى مرحلة الثانوية العامة، نظرا إلى أن المجتمع لا يزال ينتظر من الفتاة أن تحصل على شهادتها الجامعية وتتزوج فى العام ذاته.
ولحسن حظى أنا وشقيقتى أتمت أمى جزءا كبيرا من ملابسنا المنزلية كعرائس ونحن فى منتصف دراستنا الجامعية، وتوقفت أمى بعدها فترة طويلة عن التفصيل لأسباب مرضية تحول دون جلوسها واستخدام الماكينة وقت طويل، إلا أنها لا تزال تهتم بمعالجة ملابسنا التى تحتاج إلى تدخل بسيط مثل تضييق خصر أو تقصير بنطلون.
وبسبب هذه النشأة صارت عملية تسوقى للملابس صعبة لأنى أبحث عن الأقمشة القطنية ولا أحب الألياف الصناعية، أتأكد من بطانة الملابس وكيفية حياكتها، لا تعجبنى الموديلات التى تجمع كل الأشياء فى قطعة واحدة، وغيرها من الملاحظات التى قد لا تلفت نظر الناس فى العادة.
• • •
مرت السنوات ولا تزال أمى مُخلصة إلى الماكينة السنجر من وقت إلى آخر، وأصرت على أن يحتوى جزء من شوارى أنا وشقيقتى على بعض القطع المُحاكة على الماكينة السنجر، اصطحبتنى إلى صديقتها وهى خياطة محترفة وتقول عنها أمى «دى بقى المعلمة الكبيرة».
كانت السيدة عن حق تستحق لقب المعلمة، فهى بالإضافة إلى مهارتها منقطعة النظير، لديها ذائقة فنية ممتازة ومُطلعة على أحدث الموديلات، ولكن أفضل ما يميزها هو «الفينش»، كانت تُخيط فى أعلى الفساتين والبلوزات والجواكت شارة زائفة تشتريها من محل الكُلف فتبدو الملابس التى حاكتها وكأنها ذات علامة تجارية، وعندما سألتها عن السبب، ضحكت وقالت لى «فى ناس بتنبسط أما تشوف حتة الماركة دى.. فنبسط الناس».
هذه القطعة الصغيرة المصنوعة من خيوط خشنة تسبب لى حكة فى عنقى، وعادة أتعامل معها بعنف وتكون سببا فى ثقب غالبية بلوزاتى لأنى أقطعها بقوة، متجاهلة نصيحة أمى أن أقصها بهدوء فلا تتمزق الملابس.
• • •
لم أتوقف تماما عن تفصيل الملابس خاصة بعد أن صارت غالبية ملابسنا نحن بنات وأبناء أرض القطن طويل التيلة من مصنوعات صينية، خامات رديئة وموديلات بدون ذوق، لذلك من وقت لآخر أتصل بأمى أسألها إن كانت تنوى زيارة الترزى الذى نتعامل معه منذ أكثر من عشرين عاما لأنى أرغب فى مرافقتها فقط لأستعيد ذكريات أوقات كان القطن المصرى والمنتج المحلى أفخر ما نحصل عليه.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.