تأتى أحيانا رغبة قضاء الوقت مع فيلم لطيف بينما لا توجد أفكار تساعد على الاختيار، ولا طاقة للتجريب بشكل عشوائى. فى هذه الحالة ألجأ إلى اختيار فيلم أعرف أننى شاهدته من قبل وأحببته. وقبل أيام لجأت إلى الفيلم الشهير frida بطولة سلمى حايك عن حياة الفنانة التشكيلية المعروفة فريدا كالو. وكما توقعت ساهمت الفرجة فى تحسين المزاج بشكل كبير، غير أنه فعل ما تفعله الأعمال الفنية الجميلة، عندما تحرك ذهنك باتجاه التأملات والأسئلة التى فى الغالب لن تجد لها إجابات قاطعة. أعرف، مثلا، أننى أحب أعمال فريدا كالو، وأرى أنها فنانة كبيرة ومؤثرة، ولكن هل كانت فريدا ستجد الجماهيرية والاحتفاء ذاتهما لولا الدراما الكبيرة التى غلفت حياتها؟ علاقتها بزوجها الفنان المعروف فيجو ريفييرا والخيانات المتبادلة بينهما ثم علاقتها بتروتسكى، وقبل ذلك حكاية مرضها والحادث الذى تعرضت له ومقاومتها العجز بالرسم، وطريقة رسمها بينما هى مستلقية على سرير المرض تنظر فى مرآة معلقة فوقها. الحياة القصيرة الغنية بالأحداث، والتى عرفنا عنها أكثر بعد الفيلم فادح النجاح؟ على القياس نفسه، هل كان التاريخ سيهتم بسارتر وسيمون دى بوفوار بنفس الدرجة لو أقام كل منهما مشروعه الفكرى مستقلا دون علاقتهما الشهيرة والملتبسة؟ هل كانت ستكتمل أسطورة مارلين مونرو دون الشكل الدرامى الذى انتهت به حياتها مبكرا؟ هل كان العالم سيحتفى بشعر سيلفيا بلاث لولا قصة انتحارها بطريقة مسرحية داخل فرن البوتوجاز ثم تحولها لأيقونة الأذى الذكورى على يد زوجها الشاعر الإنجليزى تيد هيوز؟ هل كانت ستعيش ذكرى هيوز نفسه أو سيتغير تعامل التاريخ معها لو لم ترتبط سيرته بمأساة سيلفيا؟ ينسحب السؤال على عشرات وربما مئات الحكايات، وإن كانت خدمت إنتاج أصحابها وروجته أم ظلمته بالالتفات إلى الحكاية الشخصية. لطالما رأيت أن البعض لا يترك أجمل من حكاية يحكيها الجميع إلا هو. تشغلنى الفكرة، وأتصورها خسارة فادحة للمرء. كيف لأجمل حكاياتك أن تسرى بينما أنت لست هنا لتستمتع بحالتها؟ هكذا لا أرى فى كتابة بعضهم لسيرته الذاتية سوى محاولة لتمرير تلك الحكاية التى هى فى الغالب شائكة، ما يحيل إلى سؤال الصدق المطلق من عدمه فى كتابة السيرة، ذلك العنصر المفقود فى أغلب السير الذاتية، العربية خصوصا، والذى لا يقف عند سطحية فضح آخرين شاركوا الكاتب حياته، ولكن عند ما يتصوره الكاتب فضحًا لنفسه. ماذا لو أحب المرء فضائحه؟ ربما سيظل محافظًا على عدم إفشائها بالكامل مراعاة لشركائه فى الحياة، الذين هم بالتبعية أبطال حكايته. هل هناك حكاية ليست منقوصة؟ فى مناقشات كثيرة مع الأصدقاء حول مسألة التصنيف الأدبى عمومًا، وجنس السيرة الذاتية خصوصًا، يطرح السؤال نفسه دائمًا: ما الذى يمنع أن تُصنّف السيرة الذاتية رواية؟ هل هو خضوع لتقليدية ضرورة التصنيف؟ ماذا لو تغيرت الأسماء الحقيقية لأبطالها إلى أسماء مستعارة؟ أو لو قال الكاتب نفسه أنها «رواية»؟ بصراحة، لا يحدث شىء. الزمن ينتصر للكاتب طالما توفر شرط المتعة. مرور السنوات غالبًا ما يُخلّص الكتاب من تلقى المعارف وأصدقاء المقهى، ويتركه لمجرى القراءة الواسع الذى يصنعه قراء آخرون لا يعرفون من الكاتب سوى كتابه وليس شخصه، خصوصًا فيما يخص المجتمعات العربية. البعض يكتبنا بشكل أو بآخر، وأنت كلما انتهيت من سيرة أحدهم، ستكون قد عشت حياة أخرى، تجارب غير تجربتك. سترى أزمنة غير زمنك، وبلادًا غير بلدك. قد تتفاوت أهميتها بحسب صاحبها وتجربته الحياتية واشتباكها مع عالمه، لكنك تستطيع، وبضمير مرتاح، أن تقول إنك قد ذهبت جوّالًا فى الأماكن والأزمنة ورأيت. ذلك أن هناك من تضاعف حكاياتهم أعمارنا، وتمنحنا أكثر من حياة.