وانت السبب يابا.. تجربة إنسانية ثرية لنوارة نجم عن «الفاجومي»

مقاربة أدبية لأحمد فؤاد نجم كشاعر كبير ووالد يزدحم بالتناقضات
خليط مثير من الذكريات الطريفة والقاسية والعجيبة فى آنٍ واحد، تسردها الكاتبة نوارة نجم، عن والدها الشاعر الكبير الراحل أحمد فؤاد نجم، فى كتاب «وانت السبب يابا»، حيث المقاربة الأدبية المشوقة بين الصورة العائلية والإنسانية لنجم وبين صورته كشاعر كبير، مع إلقاء الضوء على التبيانات التى ظهرت مبكرا فى حياة نوّارة، ما بين العالم المرتب والمحسوب للأم الكاتبة صافى ناز كاظم، وبين عشوائية وعفوية عالم أحمد فؤاد نجم.
تمكنت نوارة نجم من أن تحشد أكبر قدر من التفاصيل الإنسانية والمشاعر الدافئة الحميمية فى كتابها الصادر عن دار الكرمة، والذى أبدعته ابنة الشاعر الأيقونى الكبير، ليكون أشبه ما يكون بسردية ترصد مجموعة من المشاهد الإنسانية التى تعكس تجارب عميقة لكل من ظهر فى الكتاب.
يشعر القارئ بمجرد الانغماس فى الكتاب، أنه أمام محاولة شديدة الصدق للبوح والتحرر من آلام الذكريات التى تثقل الروح، مع بعض من اللجوء إلى العتاب الحميمى بين الابنة وأبيها، الذى سرعان ما يتحول إلى محاولة ناجحة للتخلص من ألم أو غصة ومرارة فى حلق نوارة، جرى إفراغها على الورق، قبل أن نصل إلى يقين تام بمدى خصوصية العلاقة بين نوارة ووالدها أحمد فؤاد نجم وتفرد تلك العلاقة بكل ما شابها من شروخ.
ويتفق مع هذا المعنى، الكاتب والناقد الكبير محمود عبدالشكور، الذى ساق فى معرض تحليله للكتاب ما يؤكد على ذلك، حيث قال: قيمة الكتاب، الذى أراه من أفضل إصدارات 2023، تتجاوز تلك الرؤية السطحية التى تتسلى بمواقف الفاجومى الساخرة، لتكتشف ثراء مدهشا متعدد المصادر، لم تفرضه فقط شخصية نجم العجيبة، ولكن فرضه أيضا منهج الكتابة، ورغبة نوّارة نفسها بأن تتحرر بالفضفضة، وبمواجهة والدها على الورق، مثلما واجهته فى الحياة.
«إنها تحرّر نفسها، مثلما تحرّر صورة نجم العائلية من سطوة صورته كشاعر، ثم تبحث عن مصالحة مع الصورتين، ومصالحة أيضا مع ذاتها الحائرة بين عظمة الشاعر، وضعف وفوضوية الإنسان»، هكذا أضاف عبدالشكور الذى وصف الكتاب بأنه «سردية درامية»، ليس فقط لأن نجم شخصية درامية بامتياز، ولا بسبب بالتحولات والتقلبات فى حياة نجم وابنته معا، ولكن بالأساس بذلك الصراع الذى يعشش داخل نجم ونوّارة، مثلما يدور خارجهما، ومثلما يشتعل أحيانا أيضا بين الطرفين.
يخبرنا الكتاب بمقدار احتياج نوارة إلى والدها، إلى حث والدتها صافيناز كاظم لها على الدوام على أن تبحث عنه، فى منزل قديم يزدحم بأصدقاء نجم، فى السجن، فى أماكن كان يهرب إليها، إلا أن محاولاتها فى الطفولة والمراهقة كانت تنتهى إلى عدم توفيق فى بلوغ المراد من حيث الحصول على دعم الأب ودوره المؤثر.
ووسط ذلك لا تنسى نوارة نجم أن تعيد تذكير القارئ بالكلمات التى تدل على حالة من العشق غير المشروط بين فتاة ووالدها، وإن شاب وجوده التقصير بعض الشىء، ولكنه احتفظ بملسات حانية ودروس وغرس لقيم وذكريات لا يقدمها أى أب لابنته، حيث كان يحمل نجم قلبا مرهفًا محب لنوارة دون شك، لتكتمل تجربة إنسانية وثرية، تجذب القارئ بمجرد مطالعة غلاف الكتاب، حيث صورة بديعة لنوارة مع والدها.
الأسلوب السردى المتدفق الذى اختارته نوارة لأن يكون فى الأغلب الأعم منه ب«العامية السلسة»، جاء متناسبا تماما مع هذا القدر من فائض الذكريات والمواقف التى لم تفتقد إلى أبيات شعرية بديعة من أعمال الشاعر الكبير أحمد فؤاد نجم، حيث استخدمت الوعاء اللغوى الأقرب إلى القارئ لكل ترسل إليه كل ما تريد عن معانى الثورة والحب والوطن بشكل رائع ومؤثر.
أبرز ما يعكسه كتاب «وانت السبب يابا»، أن عددا من التناقضات التى كانت تظهر بوضوح بين نوارة ووالدها، لم تكن فقط تلك الفروق الفردية الإنسانية بسبب الظروف والتفاعلات العائلية، وإنما هى مرآة لتناقضات شكلت فجوة بين الأجيال التى عانت من تحولات وتفاعلات سياسية واجتماعية وثقافية مصرية صعبة وقاسية، وذلك كله بأسلوب لم يخل من السخرية الواضحة فى أسلوب الكاتبة نوارة نجم.
جاء الكتاب ليحمل بين طياته حكايات اتسمت بالصدق والبساطة والعمق الشديد فى آن واحد، هدفه التحرر من أعباء ذاتية لدى نوارة بخصوص والدها، الذى لم يفقد صورته أبدا كشاعر فذ وعملاق، أرادت ابنته أن تعقد على الورق مصالحة مع الماضى، وأبرز رموزه وأيقوناته فى ذهنها، أحمد فؤاد نجم الواد والشاعر الكبير.