وجوه عابسة ونساء يخلدن للراحة. عالم يتأرجح بين السكون والحركة، بين الثبات والمرور مرور الكرام، هدهدة المترو لا تخلو من صوت حشرجة خشنة. منذ اللحظات الأولى التى وضعن فيها تذكرة المترو داخل الماكينة لقراءة الشفرة والسماح لهن بالدخول والوجوم الذى ارتسم على الوجوه يروى بشكل أو بآخر ماذا حدث للمصريين، أو بالأخص للمصريات من رواد عربة السيدات بمترو الأنفاق خط المرج حلوان. أمور الحياة تستغرقهن لدرجة أنه لا أحد يلحظ وجود رجال فى تلك العربة المخصصة للسيداتى مبدئيا حتى الساعة التاسعة مساء. يصعد البعض على عجالة فلا ينتبهون إلى أنهم وقعوا فى مصيدة السيدات. «لو تنبه أحد من عناصر الأمن لوجود الرجال سيطالبهم بدفع عشرة جنيهات على سبيل الغرامة»! تعلو فى صوت السيدة نبرة فخر لا تخلو من التشفى، حيث تشعر السيدات بأنه فى وسط مجتمع ذكورى توجد مساحة مخصصة لهن. ولا يساورهن الخوف من رجوع فكرة الحرملك إلى الأذهان.. فهن لا ينظرن إلى وجودهن فى تلك العربة على أنه عودة إلى الوراء ولكن نوعا من «الصون والعفاف». «بدل ما اتحشر فى وسط الرجالة أثناء الزحمة»، تكرر أصوات السيدات الواهنة بشكل تلقائى هذه الجملة، ثم تنبرى كل منهن على طريقتها فى إيجاد تفسير يليق بها ملقية بالذنب كله على معشر الرجال فى العربات الأخرى: «عندما نصعد فى العربات المختلطة ينظرون إلينا على أننا ارتكبنا خطأ جسيما أو نسعى لجذب الانتباه... بالمختصر على أننى ست مش كويسة». و«بعضهم يوجهون اللوم إلينا قائلين: عندكن عربتان فى منتصف القطار، وتريدن المزيد؟» متهكمين بذلك على نظريات تمكين المرأة المطروحة عليهم من أعلى. فى الواقع كانت تلك العربتان المخصصتان للسيدات منذ عام1997 أى بعد عشر سنوات من إنشاء مترو الأنفاق دائما أبدا العربتان الأوليان فى مقدمة القطار. لكن منذ يناير 2008 انتقلتا إلى وسط القطار فى أعقاب حادث أليم وقع على خط المرج حلوان فى 20 ديسمبر 2007، توالت الاتهامات لعربات السيدات وأقرت التحقيقات الأولية أن المشادات فى عربة السيدات كانت وراء الحادث بشكل أو بآخر، صياحهن شتت انتباه السائق، بينما أرجع بعض شهود العيان الحادث إلى وجود خلل فى الفرامل. باعة وركاب: على الأرض آثار لكلمة سيدات وقد محتها الأقدام، فقط ظلت بعض الحروف وغالبا ما تكون تاء التأنيث لتشير لمكان الانتظار على الرصيف فى مواجهة عربات النساء. يفتح الباب فتتدفق الراكبات.. داخل النفق ندلف إلى مملكة الظلام.. من الخارج عبر النافذة تأتينا الصور سريعة ومتلاحقة، لافتات شركات الهواتف المحمولة تملأ الأبصار وتختلط أحيانا بإعلانات المقاهى الشعبية كقهوة «أبو تريكة» بالقرب من المرج (شمال شرق القاهرة 13 كم من وسط المدينة). والمرج بلا جدال هو أحد الأحياء التى تنامت واتسعت بعد وجود المترو.. الذى يبدأ شمالا من محطة المرج الجديدة باتجاه حلوان جنوبا. هنا تحديدا يظهر إبراهيم مقتحما عربة السيدات عبر الباب الموصد بعناية لكن الزجاج فى أعلى الباب قد تم تحطيمه ليتمكن الفتية من الهروب إلى مقر السيدات فارين من عناصر الأمن. يقفز كزورو (Zoro) لكن بدون قناع ممسكا بأحد مقابض اليد المثبتة فى السقف والتى تم استبدال جزء منها بعبوة مياه غازية من الصفيح زرقاء اللون. يتبادل إبراهيم 11 عاما بعض الكلمات المقتضبة مع رفيقه الأصغر إسلام... الذى سارع بدوره لجمع «باكيتات» النعناع التى وزعها على الراكبات فى انتظار إغرائهن بالشراء، ثم يرتب أوراقه المالية من فئة الخمسين قرشا مغادرا المترو مع صديقه إبراهيم باتجاه عزبة النخل، مقرهم الرسمى أمام عربات التوك توك المنتشرة وبائعى الملابس. حياة كاملة ومنظمة بالرغم من مظهرها الغوغائى تكونت حول المحطات، يسودها نوع من التعايش السلمى أو أحيانا اللاسلمى بين عناصرها المختلفة «أعمل فى عربة السيدات غالبا على الرغم من أنهن لا يشترين كثيرا.. لديهن مصروف محدود والنقود تكون مع الرجال... لكنها عربة تخلو من الضباط». إسلام وإبراهيم لا يخشيان العساكر ولكن الضباط من ذوى الرتب والبذل البيضاء شئ آخر. فالضباط كما تبادر دنيا ابنة الاثنى عشر عاما بالقول يسارعون بتغريمهم عشرة جنيهات أو بمصادرة ما يحملون من نقود حتى عندما تخبئها فى جواربها. هم أيضا يملكون سلطة إيداعهم الإصلاحية! أما العساكر فهم «غلابة زينا» كما يقول إسلام مستطردا: «بعضهم مثل العسكرى «معتمد» يأتى للعمل معنا بعد انتهاء فترة التجنيد ! علبة النعناع بها مكسب 14 جنيها والشيكولاتة 20 جنيها». من محطة إلى أخرى ومن عربة إلى أخرى، الأطفال الثلاثة يمازحون العسكر ويبادلونهم عبارة بأخرى، فهم أيضا من الصغار يقدرون ما يتعرض له هؤلاء الباعة – الأطفال من مخاطر وصعوبات. «نعمل سويا بين محطات المرج الجديدة وعزبة النخل فقط بين هذه المحطات الثلاث وإذا تخطيناها تعرضنا للعقاب والضرب من الباعة والصبية الأكبر فلكل منطقته! «ثم يضيف إسلام 9 سنوات» فىه ولاد يشربوا سجاير حشيش وراجل شيخ يعمل قلة أدب للولاد، بذقن وجلابية ويبيع قرآن فى المترو ويأخد الولاد على محطة الدمرداش. أعطينا له علقة!» الدفاع عن النفس باليد أو باللسان هو إحدى ضروريات ذلك العالم الذى يتطلب أيضا مهارة أخرى ليست باليسيرة وهى التعامل مع السيدات بالبيع أو الشراء.. فزبائن عربات السيدات غالبا ما يتأففن ويمتعضن من وجود هؤلاء الباعة. «إسدال للصلاة... شراب حنة أو شراب محجبات.. جرجير ال 5 حزمات ب 50 قرشا.. أقلام أو طبعا حلوى النعناع». يرمى الأطفال ببضاعتهم على أرجل الراكبات وملابسهن ويقع النعناع أحيانا فى مناطق حرجة فيضطر البائع إلى إيقاظ الزبونة لتأتى له بأنبوب النعناع من حيث وقع.. وغالبا ما تحتد العبارات ويحتدم النقاش! يحكى أحد الأطفال من الباعة الجائلين: «سقط النعناع على صدر إحدى المنتقبات فطلبت منها أن تأتى به فرفضت وقالت: مد يدك... رفضت وشتمتها». شك وتربص من نظرة عين: النظرات المتبادلة بين الراكبات والبائعين لا تخلو من تربص وأفكار مسبقة، ليست هناك مساحة كبيرة لأى تسامح.. فدنيا، هى الأخرى قد ألقت بوابل من الشتائم على إحدى الراكبات لأنها لم تحترم وجودها على المقعد، طالبتها بالوقوف لكى تجلس هى.. رمقتها دنيا بنظرة ازدراء، فالبائعة الصغيرة ترتدى قميصا وبنطلونا ورديا وتغطيها عباءة سوداء حتى أخمص القدمين أما الراكبة فتنورتها القصيرة تكشف أكثر مما تستر! بين السيدات يستمر تبادل النظرات وأحيانا من خلف ستار النقاب تكون النظرات أكثر تركيزا وحدة، والصمت ليس دائما القاعدة الذهبية ففى بعض الأحيان يتسع الوقت للمضى قدما فى الحديث وللحديث شجون.. غير المحجبات لا يتحملن نظرات المحجبات الفاحصة والتى تضارى على حد قولهن تمحيص الرجال. «ألبس هذه الأكمام تحت ال تى شيرت حتى لا يقال إنى أظهر ذراعى عمدا» هكذا تقول منى الطالبة المسيحية ذات الثمانى عشرة ربيعا، مضيفة: «بين المحجبات أو الملتزمات كما يسمين أنفسهن من اتخذت القرار عن قناعة وأخرى تسعى إلى إخفاء عيب ما فى شكلها أو جسمها.. من يدرى ؟!» والشك يقابله شك. فإكرام هى الأخرى مثال للمرأة المنتقبة التى تخاف من التقرب لغير المحجبات تحسبا لنظرتهن لها على الرغم من أنها طبيبة متمرسة على التعاطى مع جميع الفئات والديانات: «أخشى أحيانا أن يصدوننى لخبرات سابقة لديهن... اعتقادا أننا لا نحبهن» حساسية التعامل توجد أحيانا حدودا فاصلة.. نوع من الشفرة التى يصعب حلها أو تجاوزها، ويعمل على تأجيج تلك الحساسية المد الدينى الذى نرى آثاره واضحة على ملصقات المترو. فعند تجاوز الباب تطالعنا مقولة: «لا تغفل الموت فأنت على ميعاد» أو «اتق الله حيثما كنت واتبع السيئة الحسنة تمحها» أو دعاء الركوب... أو حتى إعلان غريب عن فرد وتطويل الشعر بدون كيماويات للمحجبات فقط بضمان. هتافات الصامتين تلك من شعارات وملصقات تفضى بالكثير دون استطراد. فى كل نافذة من نوافذ المترو وجه مقابل وجه، حديث مقابل صمت.. ما بين موظفات يتحدثن عن الغلاء الفاحش مقابل ال 30% زيادة المرتبات وسيدات فضلن قراءة القرآن وتمتمة الأحاديث النبوية غير مرحبات بأى حوارات جانبية. يتحرك المترو بسرعة المدينة لاهثا مثلها. تتحرك النوافذ كمشهد يتلوه آخر، تلتصق المشاهد وتتداخل لتصنع شريطا حيا من الصور يصاحبها ضجيج رنات الهواتف المحمولة أو الأغنيات الخفيفة التى تعرضها شاشات التليفزيون فى المحطات الرسمية أو حتى صوت آذان العشاء. تطالعنا فجوات الجبل الضخمة لتذكرنا أننا وصلنا إلى محطة أسمنت طرة بالقرب من حلوان.. الطبيعة تصبح أكثر تقشفا وجفاء والساعة تجاوزت التاسعة مساء.. على الرغم من أن عربات النساء باتت فى هذه الساعة مفتوحة أمام الجميع إلا أن السيدات يشعرن أن لهن أولوية الوجود بداخلها. بالنسبة لهن هى مصدر شعور بالأمان. ليست بدعة مصرية: عربات السيدات فى مترو الأنفاق ليست حكرا على النساء المصريات، فبناء على شكاوى الجنس اللطيف لجأت العديد من الدول إلى تخصيص عربات للسيدات بوسائل المواصلات العامة خاصة المترو وذلك لحمايتهن من التحرشات الجنسية واللفظية أثناء ساعات الذروة. ففى مدينة مكسيكو (عاصمة المكسيك) هنالك عربات مخصصة للسيدات فى المترو والحافلات ما بين الساعة 6 صباحا والتاسعة مساء، وهى عربات معروف عنها النظام والهدوء عادة. وفى اليابان خصصت أيضا عربات للنساء بناء على طلب من حزب Komei السياسى منذ عدة سنوات حيث عانت نساء طوكيو على سبيل المثال لا الحصر من 2201 حالة تحرش خلال عام 2004 فقط ووصلت قيمة كفالة التحرش إلى 5000 دولار. الهند ( فى مومباى) والبرازيل خصصتا أيضا مثل هذه العربات للسيدات وامتدت العدوى إلى أمريكا الشمالية حيث خصصت عربات للنساء فى مدينة نيويورك منذ قرابة سنتين على سبيل التجربة. أما فى السويد فجاء ذلك بناء على دعوة من الحركات النسوية المدافعة عن حقوق المرأة، وفى فرنسا تناضل نبيلة رمضانى رئيسة رابطة سيدات غاضبات منذ عام 2001 من أجل تخصيص بعض عربات القطار السريع فى المنطقة الباريسية للسيدات، ولكن ظلت دعوتها بدون أى صدى يذكر، فعدم الاختلاط يعتبر فى نظر الكثيرين نوعا من التفرقة العنصرية غير المستحبة وغير المفهومة على الإطلاق فى بلد مثل فرنسا. المترو.. بدايات: تاريخيا يعد الترام أول خدمة مواصلات عامة عرفتها القاهرة فى الفترة ما بين 1894 و1917. ففى ديسمبر 1894 حصل البارون إمبان الذى اشتهر فيما بعد بتشييده لضاحية مصر الجديدة على حق امتياز لإنشاء شبكة ترام فى القاهرة بعد أن تمكن من جمع رؤوس الأموال اللازمة من أوروبا التى كانت تعتبر السوق المصرىة سوقا جاذبة. الاتفاق المبدئى نص على إقامة ثمانية خطوط، ستة منها تنطلق من ميدان العتبة، وفى غضون سنتين تم استكمال شبكة تمتد على مسافة 22 كم تصل وسط القاهرة بباب اللوق وميدان محمد على من ناحية والقاهرة القديمة بباب اللوق والناصرية والفجالة والعباسية وباب الحديد وبولاق من ناحية أخرى. وعلى هذا النحو أصبح فى القاهرة عام 1917 «30 خط ترام » تربط أحياءها المختلفة بعضها ببعض. تلى هذه التجربة إنشاء مترو مصر الجديدة الذى يزيد عمره الآن على المائة عام، وقد أصبح معلما من معالم الحى أو «ديكورا» من الزمن الجميل لا تتعدى تذكرته ال 25 قرشا. مرت سنوات وتوالت الزيادات السكانية وأصبح من الضرورى أن يكون فى القاهرة وسيلة مواصلات جماعية وسريعة كما حدث فى مدن كبرى أخرى تنتمى للعالم الثالث كمكسيكو وساو باولو وكاركاس كالكوتا وسيول.. فكانت فكرة مترو الأنفاق الذى يسمح بنقل قرابة 3 ملايين شخص يوميا من مكان إلى آخر بأسعار لا تتعدى الجنيه الواحد. فوضعت خطة تمكن من تشييد 6 خطوط تغطى القاهرة الكبرى من منتصف الثمانينيات حتى عام 2022. ولكن هذه المدة قابلة بالطبع للزيادة نظرا لمشكلات التمويل وضخامة المشاريع. بدأ إنشاء أول خط مترو أنفاق فى القاهرة فى بداية الثمانينيات بمحاذاة الشاطئ الشرقى للنيل (من حلوان جنوبا إلى المرج شمالا) وقد تم تشغيل أول مرحلة من (حلوان رمسيس بطول 26 كم) عام 1987، ثم المرحلة الثانية (رمسيس المرج. 14 كم) عام 1989.