رئيس جامعة المنوفية يهنئ الأقباط بعيد الميلاد المجيد    جامعة المنيا تحقق معدلات مُرتفعة في سرعة حسم الشكاوى    سعر الجنيه الإسترلينى فى بنك CIB ب مقابل الجنيه المصري    زراعة الإسكندرية: جار تشكيل لجان مرور لحصر أي مخالفين بزراعة الأرز    سكرتير عام مساعد البحيرة يتابع تنفيذ مشروعات مياه الشرب والصرف الصحي    وزير الري: نعمل على توفير حياة كريمة للمواطنين بالصعيد    الدكتورة رانيا المشاط وزيرة التعاون الدولي تُناقش آفاق التعاون مع وكالة تمويل الصادرات البريطانية    تفاصيل مشروعات الطرق والمرافق بتوسعات مدينتي سفنكس والشروق    رفع أطنان من المخلفات وصيانة أعمدة الإنارة في كفر الشيخ    مصادر العربية: وفد قطري يتوجه إلى القاهرة للمشاركة في مفاوضات اتفاق الهدنة بغزة    اندلاع نيران في خاركيف بأوكرانيا جراء هجمات روسية بعد منتصف الليل    عاجل| السيسي يعزي رئيس مجلس السيادة السوداني في وفاة نجله    كوريا الجنوبية: ارتفاع عدد الهاربين للبلاد من الشمال لأكثر من 34 ألفا    موعد بيرنلي أمام نيوكاسل يونايتد في الدوري الإنجليزي والقنوات الناقلة    الداخلية: ضبط عصابتين و171 سلاحا ناريا و298 كيلو مخدرات خلال يوم    عاجل.. حملات للمديريات التموين على الأسواق لتشديد الرقابة على المخابز والأسواق    إصابة 3 أفراد شرطة فى حادث تصادم سيارة "بوكس" بالدقهلية    شذوذ جنسي وشرب الحشيش.. ننشر اعترافات المتهم بذبح طفل شبرا الخيمة    التصريح بدفن طالبة سقطت من البلكونة أثناء نشر الغسيل بالجيزة    مستشار الرئيس: مصر في الطريق للقضاء على مسببات الإصابة بسرطان الكبد    الصحة السعودية تؤكد عدم تسجيل إصابات جديدة بالتسمم الغذائي    صافرة كينية تدير مواجهة نهضة بركان والزمالك في نهائي الكونفدرالية    عفروتو يرد على انتقادات «التقصير والكسل»    حملات لرفع الإشغالات وتكثيف صيانة المزروعات بالشروق    «الرعاية الصحية» تعلن خطة التأمين الطبي لاحتفالات عيد القيامة وشم النسيم    «الإسكان»: دفع العمل بالطرق والمرافق بالأراضي المضافة حديثاً لمدينتي سفنكس والشروق    عاجل| مصر تكثف أعمال الإسقاط الجوي اليومي للمساعدات الإنسانية والإغاثية على غزة    إندونيسيا: 106 زلازل ضربت إقليم "جاوة الغربية" الشهر الماضي    «أتوبيسات لنقل الركاب».. إيقاف حركة القطارات ببعض محطات مطروح بشكل مؤقت (تفاصيل)    "دفنوه على عتبة بيتهم".. أبوان يقيدان ابنهما ويعذبانه حتى الموت بالبحيرة    "تطبيق قانون المرور الجديد" زيادة أسعار اللوحات المعدنية وتعديلات أخرى    5 ملايين جنيه إيرادات أفلام موسم عيد الفطر أمس.. السرب في الصدارة    تامر حسني يوجه رسالة لأيتن عامر بعد غنائها معه في حفله الأخير: أجمل إحساس    طرح البوستر الرسمي لفيلم «بنقدر ظروفك» وعرضه بالسينمات 22 مايو    برج «الحوت» تتضاعف حظوظه.. بشارات ل 5 أبراج فلكية اليوم السبت 4 مايو 2024    ما حكم الإحتفال بشم النسيم والتنزه في هذا اليوم؟.. «الإفتاء» تُجيب    إيرادات فيلم السرب على مدار 3 أيام عرض بالسينما 6 ملايين جنيه ( صور)    «القومي للمرأة» يشيد بترجمة أعمال درامية للغة الإشارة في موسم رمضان 2024    هل بها شبهة ربا؟.. الإفتاء توضح حكم شراء سيارة بالتقسيط من البنك    مصرع 14 شخصا إثر وقوع فيضان وانهيار أرضي بجزيرة سولاويسي الإندونيسية    محافظ الوادي الجديد يهنئ الأقباط بمناسبة عيد القيامة المجيد    الصحة توجه نصائح هامة لحماية المواطنين من الممارسات الغذائية الضارة    رئيس هيئة الدواء يشارك في اجتماع «الأطر التنظيمية بإفريقيا» بأمريكا    بايدن يتلقى رسالة من 86 نائبا أمريكيا بشأن غزة.. ماذا جاء فيها؟    محمود بسيوني حكما لمباراة الأهلي والجونة في الدوري    عمرو وردة يفسخ تعاقده مع بانسيرايكوس اليوناني    تشكيل أرسنال المتوقع أمام بورنموث| تروسارد يقود الهجوم    المطرب هيثم نبيل يكشف كواليس فيلم عيسى    إسماعيل يوسف: «كولر يستفز كهربا علشان يعمل مشكلة»    حفل ختام الانشطة بحضور قيادات التعليم ونقابة المعلمين في بني سويف    سبت النور.. طقوس الاحتفال بآخر أيام أسبوع الآلام    هبة عبدالحفيظ تكتب: واقعة الدكتور حسام موافي.. هل "الجنيه غلب الكارنيه"؟    عضو «تعليم النواب»: ملف التعليم المفتوح مهم ويتم مناقشته حاليا بمجلس النواب    دينا عمرو: فوز الأهلي بكأس السلة دافع قوي للتتويج بدوري السوبر    دعاء الفجر مكتوب مستجاب.. 9 أدعية تزيل الهموم وتجلب الخير    دعاء الستر وراحة البال .. اقرأ هذه الأدعية والسور    طبيب يكشف سبب الشعور بالرغبة في النوم أثناء العمل.. عادة خاطئة لا تفعلها    المفتي: تهنئة شركاء الوطن في أعيادهم ومناسباتهم من قبيل السلام والمحبة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



موت موظف مصري

يحكي أنطون تشيكوف كاتب روسيا العظيم عن ايفان ديمترتش تشرفياكوف الموظف الروسي الخائف الجبان عندما ذهب إلي رئيسه غير المباشر ليعيد الاعتذار له عن عطسة بللت قفاه
برغم جهل رئيسه به وذلك عندما تصادف وجلس بالمصادفة بالصف الذي خلفه بدار الأوبرا قبل يومين‏.‏
يا صاحب السعادة‏..‏ جئت بالأمس‏..‏ لا لكي أسخر منكم كما ظننتم سعادتكم‏..‏ بل لأعتذر لأنني كنت قد عطست فبللتكم‏..‏ ولكنه لم يدر بخاطري قط أن أسخر منكم وهل أجسر علي السخرية؟ فلو رحنا نسخر فلن يكون هناك احترام للرؤساء إذن‏.‏ فجأة زأر الجنرال وظل كيانه يهتز من الغضب‏:‏
اخرج من هنا‏!!‏
سأل تشرياكوف هامسا وهو يذوب رعبا‏:‏
ماذا؟
ردد رئيسه‏,‏ ودق بقدمه‏:‏
اخرج من هنا‏!!‏
وتمزق شيء ما في داخل تشرياكوف‏,‏ وتراجع إلي الباب وهو لا يري ولا يسمع شيئا‏,‏ وخرج وهو يجرجر ساقيه‏..‏ وعندما وصل بطريقة آلية إلي المنزل استلقي علي الكنبة دون أن يخلع حلته‏.‏ ومات‏.‏
أما عبدالستار حسن عبدالمعطي الموظف المصري فله حكاية أخري‏.‏
يعمل عبدالستار بمصلحة الضرائب العقارية بمحطة سعد زغلول كمدير مسئول عن الاستعلامات المكلفة بالإجابة عن استفسارات المواطنين عن قيمة الضريبة‏,‏ وعلي من تقع المالك أم المستأجر‏.‏
يبدأ عمله من الساعة الثامنة والنصف صباحا حتي الثانية بعد الظهر يحتل مقعده الجديد خلف المكتب المواجه للباب‏,‏ والذي يحمل علي سطحه يافطة خشبية صغيرة مكتوبا عليها عبدالستار حسن عبدالمعطي المدير المسئول يرتدي البذلة التي اعتاد المجئ بها منذ تولي منصبه الجديد منذ خمس سنوات برغم أن عمرها من عمر عمله بالمصلحة عندما عين بها وعمره تجاوز العشرين عاما بشهر‏,‏ عبدالستار رجل شديد الوقار قلما يتبادل النكات مع زملائه أو يتحدث معهم في أمور النساء والقفشات المرحة المتعلقة بهن‏.‏ لم يستجب لتلميحات اهتمام بعض زميلاته به‏,‏ وارتبط بابنة عمه من قريته بصعيد مصر رجل يحب أن يحترمه الجميع حتي لو استثقلوا ظله‏..‏ الاحترام فوق أي إعتبار‏.‏
يخرج مع حشود الموظفين متوجهين إلي محطة مترو الأنفاق يستقل المترو باتجاه المرج حيث يسكن بإحدي مناطقه العشوائية‏..‏ يذهب ويعود باشتراكه ومن سوء حظه أن موعد انتهائه قد أزف في الثالث والعشرين من شهر مايو ولم يكن في جيبه إلا ستة جنيهات بعد أن أنفق كل ما تبقي من مرتب الشهر علي حصص مراجعة مناهج الثانوية العامة لابنه الأوسط قبل امتحانه في الشهر القادم‏.‏
ماذا يفعل بستة جنيهات‏..‏ أيدفعها كلها أجرة للأيام الثلاثة الباقية علي قبض مرتبه ويقضي يومه دون سجائر أو شرب الشاي أو قراءة الجريدة في المصلحة؟‏!‏ هل سيستطيع إنجاز عمله دون أن تتخلل ذرات السجائر حواري صدره أو ينفث دخانها من حوله‏..‏ ودون احتساء الشاي وحل الكلمات المتقاطعة؟ هل يقدم علي إجازة ويجلس بالبيت ليستمتع بأشيائه الصغيرة تلك لكن ما قيمتها من دون عمل‏.‏
لماذا لا يفعل مثلما فعل معه الآخرون يمرون كثيرا من خلفه كلما مر دخولا أو خروجا دون أن يدفعوا التذكرة عبر الماكينة زوغانا أحرام عليه‏..‏ وحلال لهم؟
هل معقول موظف درجة أولي يفعل ما يفعله الأوباش والعامة؟ بل تزيد عنهم أنت تملك في جيبك ستة جنيهات‏..‏ والكثير منهم يملك أكثر منك؟ لا يدري بمنصبك أحد وسط العشرات والمئات المتحركة داخل المحطة لا أحد سواك وقلة من زملائك تستطيع أن تتجنبهم بأن تؤخر موعد انصرافك من المصلحة نصف ساعة‏.‏
أتعرض احترامك للخطر من أجل كوب من الشاي‏,‏ وسيجارتين‏,‏ وحل الكلمات المتقاطعة؟ وما قيمة حياة الموظف من دونها‏.‏
وفي الصباح داخل محطة المرج تردد أيحاول الإفلات من إحدي الماكينات كما خطط لنفسه بالبارحة‏..‏ لكن قد يلخم ويعرض نفسه للخطر‏..‏ أم يدفع جنيها أجرة الوصول إلي محطة سعد زغلول ويرتاح ومن محاسن الصدف أن وجد أحد الأشخاص الذين اعتادوا المرور من خلفه لحظة مروره منذ أسبوعين‏..‏ يمر هذه المرة باشتراكه فأسرع من ورائه بعد مروره همس له شيلني‏..‏ وأشيلك‏.‏
ظل ملاصقا له داخل المركبة لأنه يعرف أنه يتردد علي ديوان وزارة التربية والتعليم المجاور لعمله داعبه عبدالستار قائلا‏:‏
الحمدلله إن ربنا فتح عليك‏..‏ وأصبحت من المارين مرورا سليما‏.‏
قال الآخر باقتضاب‏:‏
يوم لك‏..‏ ويوم عليك‏.‏
ولم يفارقه حتي عبر في مزاملته حواجز الخروج الكهربائية بمحطة سعد أحضر الجريدة الحكومية من الجالس داخل محله قبيل سلم الخروج من المحطة أما السجائر فسيكيف نفسه علي التسع المتبقية في علبته‏..‏ سيجارة ثلاث مرات يوميا‏..‏ اثنتان بالمصلحة عقب حضوره وقبيل انصرفه‏,‏ والثالثة سيتركها حين عودته للمنزل‏.‏
بمجرد دخوله المصلحة طلب كوبا من الشاي‏..‏ مبكرا عن موعده المعتاد في طلبه‏.‏ كان يشعر أنه في احتياج شديد إلي رشف الشاي مع دخان التبغ‏.‏ أشعل سيجارة والتقط أنافسها بعمق‏.‏ هكذا تصبح الحسبة مضبوطة‏.‏ جنيهان في ثلاثة أيام تساوي بالضبط ما معك‏.‏
انتابه شعور مبهج‏..‏ شعور الفائز المنتصر وهو يحتسي كوب الشاي‏.‏ تصفح الجريدة الحكومية‏,‏ وأقدم علي حل الكلمات المتقاطعة‏,‏ وأنهاها في سرعة غير مسبوقة‏.‏
ظل في مكتبه بعد انصراف الموظفين بحجة أن لديه موعدا للقاء قريب له بعد نصف ساعة أمام محطة سعد‏.‏
علي مبعدة من ماكينات المترو وقف يراقب الساحة التي سيبدأ من خلالها هجومه علي احد مواقعها ليتخطي حاجزها الحديدي‏.‏ من سيصلح لأتبعه لحظة مروره‏.‏ هذا الصبي سيهابك عندما تكون خلفه‏,‏ ولن يفتح فاهه‏.‏ لكن أتنحط لهذه الدرجة؟‏.‏ أتخيف طفلا كالمجرمين العتاة لكي تعبر؟‏.‏ بدلا من أن تكون قدوة صالحة له تصير هزؤا أمامه‏.‏
هذه السيدة بجلبابها الأسود الممسك بجسدها أقل احتراما ولا تخشي تشوه صورتك كمدير إدارة أمامها‏..‏ لكن قد تفضحك‏,‏ وتلم الخلق عليك‏..‏ شوفوا الرجل الكبرة لاصق في‏..‏ وتفرج عليك الناس‏.‏ ألحق قوام بسرعة‏..‏ الرجل المسن لن يشعر بك إذا مررت خلفه‏,‏ وإذا شعر لن يتكلم‏,‏ وإذا تكلم لن يصل صوته لأحد‏.‏
اندفع من خلفه‏,‏ ومرا معا قبل أن تنغلق الماكينة ويتوقف عمودها المستعرض عن الدوران إلا بتذكرة جديدة‏.‏
التفت الرجل نحوه‏:‏
لماذا يا ابني؟‏!‏
آخر الشهر يا والدي‏.‏
تلقف أنفاسه عندما وجد الكهرباء منقطعة عن محطة مترو المرج والماكينات كلها مفتوحة‏.‏
لماذا يا بني
برغم أنها كلمة عتاب بسيطة قالها المسن إلا أنها سببت فورانا داخليا ظل يقلقه طيلة بقية يومه لا يشارك أحاديث زوجته وأبنائه بانتباه كاف‏.‏ الله يخرب بيت الدروس الخصوصية التي تسببت في الموقف الذي فيه‏.‏
في الصباح لمح أحد العابرين بعد أن وضع اشتراكه بالماكينة‏..‏ رفضته‏,‏ وصوتت عليه إما لعطب في الماكينة أو تلف في اشتراكه‏.‏ سمح له الموظف الواقف بالمرور من إحدي الماكينات المفتوحة التي يمر منها العابر دون اشتراك أو تذكرة‏.‏ إنها فرصتك يا عبد الستار‏..‏ ستمر دون أن تحتاج إلي الالتصاق بأحد‏.‏ عندما انشغل الموظف في تقليب كوب الشاي مر عبد الستار‏.‏
مسح عرقه الذي ند عن جبينه برغم برودة الجو‏.‏ الخروج من محطة سعد كان ميسرا نظرا لازدحام الموظفين وتعجلهم أثناء خروجهم بسبب تأخر المترو‏..‏ فتح العاملون البوابة الحديدية لينهوا علي ازدحامهم فمر من بينهم‏.‏
أثناء جلوسه خلف مكتبه أخذ يقلب موضوع زوغانه في ذهنه وكفاه خلف مؤخرة رأسه قبل أن يبدأ عمله‏,‏ ويحتسي كوب الشاي الغالي علي نفسه‏.‏ هل هناك خطط بديلة للإفلات أقل إحراجا‏.‏ آه لو كانت لديه طاقية الإخفاء‏..‏ أو كان من الابطال الرياضيين الذين يقفزون بالزانة أو يجيدون العدو عبر الحواجز‏.‏ هانت مضي يوم ونصف‏,‏ وبقي أمامك يوم ونصف‏.‏ لكن هل ستتحمل أعصابك نصف المدة الباقي‏.‏
قرر أن يقوم بإجازة اعتيادية باكرا‏,‏ ويتخلص من هم اليوم الباقي‏.‏ تعجب رؤساؤه من أن يقدم علي إجازة في غير أيام الصيف كما اعتاد أن يحصل علي أسبوع متصل ليذهب إلي المصيف مع أخيه الذي يملك شاليها بالإسكندرية‏.‏
وتمت الموافقة علي إجازته‏.‏ عندما حصل عليها شعر أن ثقلا قد انزاح من علي كاهله‏.‏ لم يبق أمامه إلا عودته اليوم إلي منزله‏,‏ ويرتاح‏.‏
أثناء سيره نحو محطة سعد فكر أن يستفيد من المبلغ المتوفر معه ويشتري تذكرة ليعود بها طالما أنه لن يتوجه بالغد إلي عمله‏..‏ لكنه عاد وحسبها من جديد‏..‏ في صباح بعد غد عليه أن يعود من جديد إليه قبل أن يقبض راتبه فطرد الفكرة من ذهنه‏..‏ شجعه نجاحه السابق في الإفلات من الماكينات الإلكترونية علي الاستمرار في اللعبة‏.‏
لشعوره أنه اقترب من حافة النهاية لم يستغرق وقته مفكرا‏..‏ من سأتبع لأنفذ معه نحو المحطة‏.‏ مضي نحو إحدي الماكينات‏,‏ وتبع خلف أول مار أمامه وكان رجلا غير مهندم الثياب يبدو عليه من سواد يديه أنه ميكانيكي أو سباك أو أي صانع يستخدم يديه‏.‏ يبدو أن الرجل وجدها فرصة ليهين أصحاب الياقات البيضاء‏.‏
أيه يا أستاذ‏..‏ ما الذي تفعله‏..‏ عيب عليك موظف محترم يفعل ما يفعله المتشردون‏.‏
تسمر عبد الستار في مكانه لا هو تقدم إلي داخل المحطة ولا هو تراجع‏.‏ جاءه موظف المحطة وضع كفه فوق كتفه‏:‏
تعال يا أستاذ‏.‏
مضي وراءه ذليلا‏.‏
أين تذكرتك؟
معي اشتراك
أين اشتراكك؟
تفضل
بيد مرتجفة قدم له الاشتراك وهو يردد كلمة لكن‏.‏
ما هذا تاريخ صلاحيته انتهي منذ يومين
كنت أنوي تجديده بعد يومين‏.‏
ولماذا بعد يومين‏..‏ لماذا لا يكون اليوم؟
أكون قبضت مرتبي
يا سلام لو ننتظر كل موظف ليقبض مرتبه حتي يجدد اشتراكه‏..‏ سنسمح بزوغان جميع الموظفين‏.‏ هات عشرة جنيهات غرامة‏.‏
ليس معي سوي جنيهين سأقطع بواحد التذكرة أمضي بها‏.‏ وخذ الأخر لك‏,‏
لا يا حبيبي لن أقبل جنيها رشوة‏..‏ تدفع العشرة جنيهات يا إما أنادي أمين الشرطة يرحلك علي القسم يعمل لك محضرا‏.‏
القسم؟‏!‏
يامراد خد امسك حالة مرور دون تذكرة‏.‏
جاءه أمين الشرطة ليسحبه‏.‏ لم يتحمل الرجل صدمة الموقف ومرارته فدفع أمين الشرطة أرضا‏,‏ ومضي يجري‏.‏
انطلقت الصفارات‏.‏ أسرع زميله الآخر والموظفون بالمحطة وراء الرجل المجرم الذي يدفع الناس ويوقعهم هربا من الشرطة لأول مرة في حياته‏.‏
عند الدرجة الأخيرة لسلم المحطة أمسكوا به‏.‏
لأول مرة يحدث له ما جري منذ أن أصبح موظفا‏.‏ نعم أهانه مدرسوه كثيرا لكثرة أحاديثه‏,‏ وضحكه بعلو صوته أثناء الحصص‏..‏ حتي نهاية دراسته بالدبلوم‏.‏ نعم تعارك مع زملائه وضرب كثيرا‏,‏ وأصيب‏,‏ وتمزقت ثيابه‏.‏ لكن كل ذلك كان قبل عمله الميري بالحكومة قبل خمسة وثلاثين عاما‏,‏ ولم تصل الأمور معه إلي هذه الدرجة‏,‏ ولم تكن الشرطة طرفا في أحداثها‏.‏
اقتادوه كالفرخ المهيض الجناح ومفاصله الواهنة لاتقوي علي مقاومة سحب الأيادي التي تجمعت عليه حتي استلمه أمين الشرطة‏.‏ مسكه من رابطة عنقه‏,‏ وأطبق علي خناقه‏,‏ وجره أمام خلق ربنا‏:‏
تدفعني أنا يا روح أمك‏.‏ هات بطاقتك‏.‏
لم يبد الرجل أي رد فعل‏..‏ كان تائها‏..‏ كان مصعوقا‏..‏ كان كالمغيب عمن حوله‏.‏ مد أمين الشرطة يده داخل جاكت بذلته‏,‏ وأخرج بطاقته‏.‏
ستذهب إلي القسم للعرض علي النيابة‏.‏
انتبه الرجل لكلمة القسم وقال منزعجا بصوت خافت‏:‏
النيابة؟
ماذا تظن‏,‏ وهل الاعتداء علي رجال الشرطة يمر بسهولة؟‏.‏
جلس عبد الستار القرفصاء في الحجرة المخصصة لرجال الأمن‏.‏ رأسه منكس وذهنه شارد في السماوات العلا‏..‏ هل سيكون اسمه شفيعا له ويسترها ربنا معه‏.‏ تخطئ‏,‏ وتعرض نفسك للمهانة من أجل كوب شاي وجريدة حكومية وتطلب من ربك أن ينقذك‏.‏ بكي وانتحب‏..‏ انا عبدك يارب‏..‏ عبدك عبد الستار فاسترها معي‏.‏
جاء أمين شرطة آخر وسأل زميله ماذا فعل الرجل؟‏.‏ حكي له ما حدث‏.‏ قال الآخر‏:‏
اتركه‏..‏ يبدو عليه أنه غلبان‏.‏
هل استجاب الرب‏..‏ هل حانت الفرصة التي سيتركونك فيها‏.‏ رفع عبد الستار رأسه المنكس لأعلي لأول مرة باتجاه الرجلين‏.‏
غلبان‏..‏ لقد دفعني أرضا‏,‏ وأهان كرامتي أمام الواقفين‏.‏
قال عبد الستار بصوت متحشرج‏:‏
افهمه يا سعادة البيه أنا لم أقصد كل ذلك‏..‏ لم يكن معي قيمة الغرامة‏.‏
تحول الأمين الآخر‏,‏ وصار كالأول في لهجته‏:‏
تقوم تدفع الرجل‏..‏ أنت تستأهل كل الذي يجري لك‏.‏
جلس الأمين يكتب محضرا بما حدث واصفا ما فعله المجرم عبد الستار حسن عبد المعطي من محاولته المرور عبر ماكينة المترو دون دفع التذكرة عبرها‏,‏ واستخدامه اشتراكا مضت مدة صلاحيه‏..‏ ثم وهو الأهم عند الإمساك به حاول الهرب‏..‏ ثم وهو الأكثر أهمية اعتدي علي أحد رجال الأمن أثناء تأدية عمله‏.‏
نادي علي أحد عساكره ليصحبه إلي قسم الأزبكية‏.‏ حدث الرجل بهدوء دون انفعال هذه المرة‏:‏
إياك والهرب أنا عارف أنك مجنون‏..‏ بطاقتك معنا‏.‏
أمسك به العسكري‏,‏ وفتحت أمامه ماكينه المترو دون اشتراك أو تذكرة‏,‏ واتجها نحو رصيف المحطة‏.‏
ماذا لو رآك أحد الموظفين الذين يعملون معك‏..‏ والعسكري يقف بجوارك‏.‏ هل سيظنون بك ظنا حسنا ويعتبرونه مجرد قريب أو صديق‏..‏ أم سيظنون بك ظنا سيئا ويتصورون أنك ارتكبت فعلا إجراميا‏..‏ ظن سيئ أم ظن في محله يا أستاذ عبد الستار‏..‏ دفعة واحدة ارتكبت جريمتين التهرب من دفع الأجرة‏,‏ والاعتداء علي رجل من رجال الأمن‏.‏ لا‏..‏ لا يمكن أن يظن أحد من معارفك أنك مجرم قمت بتلك المصائب الإجرامية وأنت لم تقم بسب أحد أو حتي إهانته في حياتك‏.‏
خذ لك سيجارة‏.‏
شكر العسكري‏,‏ ورد يده الممدودة بلفة التبغ‏.‏
خذ ولا يهمك بإذن الله ستعدي علي خير‏.‏
يارب‏.‏
قالها عبد الستار بصوت متعطش للنجاة‏.‏ قالها بكل خشوع كما لم يقلها من قبل بأي دعاء دعاه عقب صلواته‏.‏
لكنك غلطان ما كان يجب أن تدفع الأمين‏.‏
ساعة الغلط يعمي البصر‏.‏
تطلع عبر نافذة القطار باتجاه سقف النفق‏..‏ لو أن حبالا تخترقه تصل به نحو ربه ليتضرع أمامه لينقذه مما هو فيه تساءل هل يمكن إخراجه من القطار دون أن يدري الشرطي‏,‏ أو إخفاؤه هو من أمامه هل يمكن أن ينقلب القطار‏,‏ فيهرب منه ثم يعود إلي القضبان‏,‏ مع البقاء علي الركاب سالمين‏,‏ أو يموت هو ويرتاح‏.‏
خرج العسكري والموظف من محطة مترو أحمد عرابي سار الرفيقان في الشوارع المزدحمة حتي وصلا قسم الأزبكية سلمه العسكري للضابط ومعه المحضر الذي كتبه الأمين‏.‏
تصفح الضابط الورق‏.‏
شاكرون‏..‏ انصرف‏.‏
رفع كفه نحو جبهته مؤديا التحية تطلع عبدالستار نحوه برجاء أن يبقي‏.‏ تجاهل من لايملك من أمره شيئا‏.‏
تعجب الضابط من أن يقع موظف يبدو عليه الاحترام في مثل تلك الورطة فاستفسر منه عما جعله يفعل كل ذلك‏.‏ لم ينكر عبدالستار الاتهامات الموجهة اليه‏:‏
لم يكن معي سوي ستة جنيهات بسبب حصص المراجعة قبل امتحان الثانوية العامة‏.‏
قال الضابط وهو مغيظ‏:‏
الله يخرب بيت الدروس الخصوصية أوردتنا كلنا في داهية‏.‏
أشر علي المحضر‏..‏ يعرض علي النيابة‏.‏
جذبه أحد الأمناء من ياقة بذلته‏.‏
تعال
إلي أين؟
التخشيبة‏.‏
لماذا؟
إلي حين عرضك علي النيابة‏.‏
أنا جاهز الآن للعرض عليها
لكن هي ليست جاهزة الآن
يا نهار أغبر‏..‏ متي ستكون جاهزة بإذن الله؟
لا تخف‏..‏ في هذه الليلة‏.‏
يا نهار لن يفوت سأنتظر حتي الليل‏.‏
كلها ساعات‏..‏ وتعرض‏.‏
دفع داخل التخشيبة كان في همه فلم يلتفت إلي وجوه الإجرام التي من حوله‏.‏ النيابة‏..‏ وصلت بك الأمور إلي النيابة يا عبد الستار ألطف يارب أكان لابد من كوب الشاي والجريدة‏..‏ أتتخلي عن احترامك لأول مرة من أجلهما‏.‏
ياتري كيف حالهم الآن كيف سيفكرون في سبب تأخري وأنا لم أتأخر يوما عن البيت عن الثالثة والنصف إلا وأخبرتهم ستظل توفيقة في مكانها قلقة تخمن سبب تأخري
هل إحدي أخواتي اتصلت بي لأذهب اليها لأجد حلا لمشكلة أصابتها‏..‏ أم تعب ألم بي فجأة‏,‏ أم حادث أصابني؟ ستقول لو لم يصر علي عدم شراء المحمول لاتصلت به لعرفت أين هو وانتهت المشكلة‏..‏
لابد للمدير أن يكون معه محمول‏..‏ أنا طول عمري من غيره يا توفيقه سيتم إزاعجي بكل لحظة من الموظفين أنا راجل خط سيره ثابت من البيت إلي المصلحة ومن المصلحة إلي البيت‏...‏ بالمصلحة هاتف وبالبيت هاتف‏.‏
دقة قديمة علي العموم أحمد الله انه ليس معي‏..‏ ماذا كنت سأقول لهم‏.‏
إذا بلغت الساعة الخامسة لن تنتظر ستتصل بكل اخوتي وأخواتي تسأل عني بعد أن ينفي الجميع وجودي عندهم سيأتي اخي اليها أو ستتحرك هي والأولاد تبحث عني المهم يا توفيقه ألا تأخذي ابنك عماد في اللف والدوران‏..‏ لا تضيعي وقته‏..‏ امتحان الثانوية العامة لم يبق عليه إلا أسبوعان لا أريد أن أدفع كل ما أنا فيه من أجله ثم يضيع كل ذلك حتي لو كان من أجلي ستمرين علي المستشفيات‏,‏ ولم يخطر ببالك أنني هنا بالتخشيبة‏,‏ ويا ليته لا يخطر ببالكم‏.‏
بعد أن عاش أطول أربع ساعات عاشها في حياته لا يضاهيها الساعات التي قضاها والده في العملية التي أجريت له وأدت إلي وفاته بعدها عرض علي النيابة تم سؤاله نفس الاسئلة التي سألها له الضابط وفي نهاية التحقيق لعن هو الآخر الدروس الخصوصية‏,‏ ثم طلب منه أن يدفع كفالة ليخلي سبيله قال عبدالستار بوجه عابس‏:‏
ليس معي‏.‏
اتصل بمنزلك ليدبروا لك المبلغ‏.‏
ليس معهم
يتصرفوا في المبلغ‏.‏
لن يستطيعوا‏.‏
لن يستطيعوا تدبير مبلغ خمسين جنيها؟‏!‏
ماذا اقول لهم احضروا لي الكفالة لأن أباكم المحترم مجرم زوغ من دفع التذكرة‏,‏ وأنا أمامهم لم أنس فرضا‏.‏
خلاص أنت حر‏..‏ حجز علي ذمة التحقيق أربعة أيام‏.‏
معقول هذا الكلام؟
سحبه العسكري نحو التخشيبة‏.‏
ظل الرجل صامتا‏..‏ ساكنا وهو في جلسة القرفصاء‏,‏ ساندا مرفقيه علي فخذيه‏,‏ وذقنه ملقي بين كفيه‏..‏ عاجزا عن التفكير المتسلسل إذا فكر أنه لا يمكن ان يقضي تلك الأيام الأربعة توقف تفكيره‏,‏ وإذا فكر انه عليه أن يتحمل ويقضيها من أجل أولاده حتي لا تتشوه صورته أمامهم يتساءل كيف يمكن أن يخفي الأمر عنهم طوال تلك الأيام‏..‏ ثم لا يقرر شيئا هل يمكن أن يقدروا الموقف الذي فيه وأن جرمه ليس كبيرا ألن يقولوا لماذا تهين نفسك كل تلك الإهانة من أجل كوب الشاي وجريدة حكومية ثم تحولت الأفكار إلي صور صورة زوجته وأولاده وهم يجولون الشوارع بحثا عنه لحظة ارتباكه عند اكتشاف محاولة زوغانه‏..‏ واللحظة التي تم الإمساك به فيها أسفل سلم المحطة ثم ايضا توقفت الصور أمامه تماما وأصبح ذهنه كالسماء الفارغة‏.‏
في الصباح لما ظل الرجل علي وضعه ثابتا هزوه فسقط أرضا‏..‏ هزوه مرة أخري فوجدوه ميتا‏.‏


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.