أطلقت روسيا مؤخرا احتفالات تستمر ستة أشهر بمناسبة مرور قرن ونصف القرن علي مولد أديبها العظيم أنطون تشيكوف (21 يناير 1860 15 يوليو 1904)، وهي فرصة ممتازة أتذرع بها لهروب مؤقت من حكايات وجع قلوبنا الأزلي المعتادة، فقد قررت بعد إذنك أن أشارك عبر هذه الزاوية في الاحتفالات تلك بواحدة من أجمل وأروع وأشهر حكايات تشيكوف (موت موظف) التي علي قصرها المتناهي المشابه لحياة مبدعها (عاش 44 عاما ومات بداء السل) تتوسل بالطرافة الصاخبة التي تلامس حدود الهزل لكي تغوص عميقًا في ضعف وبؤس البشر بحيث يجد القارئ نفسه بعدما يصل بسرعة إلي الكلمة الأخيرة فيها أمام تحفة درامية نادرة وغير قابلة للنسيان.. فهيا إلي الحكاية: ذات مساء رائع كان «إيفان» الموظف البسيط الذي لايقل روعة، جالسًا في الصف الثاني من قاعة مسرح البلدية.. وبينما هو في قمة المتعة، فجأة وكثيرا ما تقابلنا هذه ال «فجأة» في القصص كما في الحياة تقلص وجهه، وزاغ بصره، واحتبست أنفاسه وانحني و...آآتش !!! عطس الرجل كما ترون. والعطس ليس محظورًا علي أحد في أي مكان، إذ يعطس الفلاحون والموظفون ورجال الشرطة، بل حتي الوزراء والكبراء ومن هم أكبر منهم.. الجميع يعطس، لذا لم يشعر «إيفان» بأي مشكلة، لكنه كأي شخص مهذب نظر حوله ليري لو كانت عطسته أزعجت أحدا ممن حوله، وتسرب الحرج إلي نفسه عندما رأي عجوزا يجلس أمامه في الصف الأول يمسح صلعته ورقبته، ولسوء الحظ فقد تعرف «إيفان» علي العجوز.. إنه الجنرال «بريزجالوف» يا للكسوف! هكذا حدث نفسه وتابع قائلا: إنه ليس رئيسي في العمل لكنه جنرال مهم وقد بللته وأزعجته ولابد أن أعتذر له.. تنحنح «إيفان» ومال بجسده كله علي كرسي العجوز وهمس في أذنه: عفوا ياصاحب السعادة.. لقد بللتكم.. لم أقصد... لا مفيش حاجة.. مفيش حاجة.. أستحلفكم بالله يا افندم تقبل اعتذاري.. فلم أكن أريد.... أوه، من فضلك خلاص.. اسكت بقي. زاد حرج «إيفان» وافتر ثغره عن ابتسامة بلهاء وأعاد ناظريه لخشبة المسرح لكنه لم يعد يري شيئًا فقد تبخر إحساسه بالمتعة وبقي مشغولاً بعطسته التي أزعجت الجنرال، وفي الاستراحة بحث عنه بين جمهور النظارة فلما وجده اقترب منه وأخذ يتسكع حوله إلي أن استجمع شجاعته أخيرًا وكرر مرة أخري: اعذرني ياصاحب السعادة لقد بللتكم دون قصد و....... أووه، كفاية بقي أرجوك زهقت.. قلت لك خلاص، مفيش حاجة.. لم يصدق الموظف أن الجنرال ضرب صفحًا عن العطسة وقال لنفسه: يقول خلاص، بينما الغضب والخبث واضحان في عينيه.. ربما يظن أنني كنت أتعمد البصق عليه، لابد أن أوضح له الحقيقة بأي طريقة. عاد لبيته وحكي لزوجته ما جري وصارحها بظنونه ومخاوفه، ورغم أنها ارتاحت قليلا لحقيقة أن الجنرال ليس رئيس زوجها فإنها نصحته بالاستمرار في محاولة توضيح الأمر للرجل المهم، وبالفعل لم يكذب صاحبنا خبرا وقام في الصباح وارتدي أفضل ثيابه ومر علي الحلاق قبل أن يذهب مباشرة إلي مكتب الجنرال العجوز، وفي حجرة الاستقبال وجد حشدًا من الزوار انحشر بينهم حتي حانت الفرصة وصار أمامه وجهًا لوجه فأنشأ يشرح له قائلا: بالأمس في المسرح، لو تذكرون يا صاحب السعادة، عطست و... بللت سيادتكم عن غير قصد.. أكرر أعتذر..... يا الله.. ما كل هذه التفاهة (قالها ومضي بعيدًا إلي زائر آخر). تشوش عقل «إيفان» وراح وجهه يشحب بسرعة خارقة بينما هو يحدث نفسه قائلا: هذا العجوز القاسي لا يريد أن يسمع.. إنه غاضب بشدة علي ما يبدو.. لابد أن أتصرف.. وكان تصرفه أن انتظر حتي غادر آخر زوار الجنرال ثم هرول خلفه وهو يردد بصوت ينضح باليأس والذل: ياصاحب السعادة.. ياصاحب السعادة، أرجوك اسمعني فأنا إذا كنت أتجاسر علي إزعاجكم فذلك لأنني أشعر بالندم فقد صدر عني البارحة دون قصد شيء محرج وغير لطيف.. لهذا أرجوكم المغفرة. لست أصدق والله العظيم.. يارجل لابد أنك تهزل أو تسخر (قالها الجنرال وهو يختفي خلف باب مكتبه). تفاقم رعب واضطراب الموظف البائس ومع ذلك كان يسأل نفسه وهو في طريقه للبيت: أي سخرية هذه التي يتحدث عنها؟!.. جنرال طويل عريض ولا يستطيع أن يفهم مقصدي، إذن مادام الأمر كذلك فلن أعتذر مرة أخري لهذا المتغطرس وليكن ما يكون، سأكتفي برسالة أكتبها له وخلاص. غير أنه لم يكتب الرسالة، بل أعاد الكرة في اليوم التالي وذهب من جديد إلي الجنرال في مكتبه فلما التقاه عاجله بالقول: يا افندم جئتكم بالأمس وأزعجتكم، لا لكي أسخر منكم حاشا لله وإنما فقط لكي أعتذر وأوضح لسعادتكم أنني عطست في المسرح تلك الليلة غصبا عني و..... زأر الجنرال زئيرًا عظيمًا وصرخ هاتفًا وهو يدق بقدمه بعنف علي الأرض: اخرج من هنا.. اخرج فورا وإلا... في هذه اللحظة تمزق شيء ما في بطن الموظف، وخرج إلي الشارع يجرجر رجليه جرًا وهو لا يكاد يري أو يسمع أو يحس بما يجري حوله، وعندما وصل آليا إلي المنزل رمي بجسده علي الكنبة فورا و..... مات.