«أبى كان يخطف الناس ويقتلهم. أخى يقول إنه رأى أبى يتحول فى الحرب من شخص يعرفه إلى شخص لا يعرفه».. بهذه العبارات يبدأ الأديب اللبنانى ربيع جابر (1973) روايته الأخيرة الصادرة عن دار الآداب والمركز الثقافى العربى، التى كانت ضمن قائمة البوكر العربية الطويلة. «أبى كان يخطف الناس ويقتلهم»: تتكرر العبارة متسللة فى حكى الراوى عما يسمعه فى تلك الليلة من أخيه الكبير، وهما منتظران أمام غرفة العناية المركزة، حيث يرقد أبوهما. تتكرر العبارة لترافق صدمة «مارون» الراوى من «الأشياء الفظيعة» التى يسمعها عن تاريخ الأب الدموى على حواجز العاصمة اللبنانية أثناء الحرب الأهلية. أب تحول من مواطن عادى إلى قاتل محترف، وصار «وحشا على جسر الباشا وفى تل الزعتر وفى الكرنتينا»، «وحشا» يرتاب منه حتى الجيران. بدأ الأب يرتكب «شناعات» هكذا يحكى الأخ الكبير بعد خطف وقتل ابنه ذى السنوات العشر من قبل مسلحين. ولم يهدأ غليله إلا بعدما أنقذ طفلا صغيرا من مذبحة عائلة كاملة ارتكبها هو ورفاقه على أحد الحواجز. لم يهدأ غليله إلا بعد أن أخذ هذا الطفل وزوّر بطاقته ليعطيه نفس اسم ابنه المقتول. «أنا مارون.. أنا الصبى الذى خطفوه. ألم أقل لك أنا لست أنا». وفى وسط هذيان وصدمة اكتشاف الحقيقة، يخاطب الراوى المؤلف: «إذا كتبت يوما حياتى فى كتاب يا ربيع أرجو أن تبدأ قصتى بهذه الجملة: قوصونى على خط التماس الذى يقطع بيروت نصفين سنة 1976، وأبى حملنى وأخذنى إلى بيته». بهذه الحيلة السردية يدخل صاحب «البيت الأخير» قارئه فى كواليس الكتابة، ويعطينا، فى 142 صفحة، نصا كثيفا يعتمد فيه البناء الدرامى على سيرة حياة ينفى جابر مطابقتها لأى قصة حقيقية متمسكا بالعبارة القانونية، التقليدية، التى تؤكد أن أى تشابه بين النص والواقع هو «محض مصادفة». ويبدو الكاتب فى تأكيده على التخييل منذ بداية الرواية محاولا تجنب جدل مثل ذلك الذى أثارته روايته «رالف رزق الله فى المرآة» (1998)، لاستعماله سير حياة حقيقية. فى «اعترافات»، يشارك جابر القارئ هواجس الراوى عن جنون القتل، وأسئلته الوجودية عمن يكون، بعد أن اكتشف أن ابيه المنقذ هو أيضا قاتل والديه. رواية القاتل فيها «هو المنقذ أيضا» لا يمكن لها إلا أن تحيّر القارئ بقدر ما تحيّر الراوى الذى يسترجع ذكريات الطفولة البعيدة عن أسرته الأولى بعد أن عرف الحقيقة. «اعترافات» ترسم ببراعة عالما روائيا شديد القتامة، لكنه أقل قتامة مما كان عليه واقع الحرب الأهلية اللبنانية.