وزارة التضامن تقر حل جمعيتين في محافظة الغربية    تراجع أسعار النفط مع ارتفاع المخزونات الأمريكية    «المصرية للاتصالات» تعلن اكتمال مشروع الكابل البحري 2Africa    «المشاط»: 6 مليارات يورو استثمارات 1600 شركة ألمانية في مصر    خبير روسي: الجيش الأوكراني ينقل ما يصل إلى نصف أفراده من المنطقة الحدودية إلى كوبيانسك    30 ألف مشجع يساندون الأهلي أمام شبيبة القبائل في دوري أبطال أفريقيا    منال عوض تترأس الاجتماع ال23 لصندوق حماية البيئة وتستعرض موازنة 2026 وخطط دعم المشروعات البيئية    الحكومة: تسليم 265 كيلو ذهب بقيمة 1.65 مليار جنيه للبنك المركزي.. رسالة جديدة لدعم الاقتصاد الوطني    19 نوفمبر 2025.. أسعار الأسماك بسوق العبور للجملة اليوم    التضخم في بريطانيا يتراجع لأول مرة منذ 7 أشهر    تداول 97 ألف طن و854 شاحنة بضائع بموانئ البحر الأحمر    جامعة بنها ضمن أفضل 10 جامعات على مستوى مصر بتصنيف كيواس للتنمية المستدامة    زيلينسكي في تركيا.. محادثات تغيب عنها روسيا بهدف إنهاء حرب أوكرانيا    هجمات روسية تهز أوكرانيا.. ومقتل 9 وإصابة العشرات وأضرار بالبنية التحتية    الفريق أحمد خليفة يعود إلى أرض الوطن عقب مشاركته فى فعاليات معرض دبى الدولى للطيران 2025    حريق هائل يلتهم أكثر من 170 مبنى جنوب غرب اليابان وإجلاء 180 شخصا    رئيس القابضة لمصر للطيران في زيارة تفقدية لطائرة Boeing 777X    الفريق أحمد خليفة يعود إلى أرض الوطن عقب مشاركته فى معرض دبى الدولى للطيران    صلاح ينافس على جائزتين في جلوب سوكر 2025    كانوا واقفين على الرصيف.. وفاة تلميذة وإصابة 3 أخرين صدمتهم سيارة مسرعة بالفيوم    أخبار الطقس في الكويت.. أجواء معتدلة خلال النهار ورياح نشطة    صيانة عاجلة لقضبان السكة الحديد بشبرا الخيمة بعد تداول فيديوهات تُظهر تلفًا    الحبس 15 يوما لربة منزل على ذمة التحقيق فى قتلها زوجها بالإسكندرية    المايسترو هاني فرحات أول الداعمين لإحتفالية مصر مفتاح الحياة    6 مطالب برلمانية لحماية الآثار المصرية ومنع محاولات سرقتها    معرض «رمسيس وذهب الفراعنة».. فخر المصريين في طوكيو    مهرجان مراكش السينمائى يكشف عن أعضاء لجنة تحكيم الدورة ال 22    محافظ الدقهلية يتفقد أعمال تطوير مستشفى طلخا المركزي وإنشاء فرع جديد لعيادة التأمين الصحي    أفضل مشروبات طبيعية لرفع المناعة للأسرة، وصفات بسيطة تعزز الصحة طوال العام    وزير الري يؤكد استعداد مصر للتعاون مع فرنسا في تحلية المياه لأغراض الزراعة    ندوات تدريبية لتصحيح المفاهيم وحل المشكلات السلوكية للطلاب بمدارس سيناء    بولندا تغلق مطارين وتضع أنظمة دفاعها الجوى فى حالة تأهب قصوى    الإسكندرية تترقب باقي نوة المكنسة بدءا من 22 نوفمبر.. والشبورة تغلق الطريق الصحراوي    مصرع 3 شباب فى حادث تصادم بالشرقية    أبناء القبائل: دعم كامل لقواتنا المسلحة    بعد غد.. انطلاق تصويت المصريين بالخارج في المرحلة الثانية من انتخابات مجلس النواب    جيمس يشارك لأول مرة هذا الموسم ويقود ليكرز للفوز أمام جاز    اليوم.. أنظار إفريقيا تتجه إلى الرباط لمتابعة حفل جوائز "كاف 2025"    هنا الزاهد توجه رسالة دعم لصديقها الفنان تامر حسني    «اليعسوب» يعرض لأول مرة في الشرق الأوسط ضمن مهرجان القاهرة السينمائي.. اليوم    تنمية متكاملة للشباب    إطلاق أول برنامج دولي معتمد لتأهيل مسؤولي التسويق العقاري في مصر    الصحة: «ماربورج» ينتقل عبر خفافيش الفاكهة.. ومصر خالية تماما من الفيروس    صحة البحر الأحمر تنظم قافلة طبية مجانية شاملة بقرية النصر بسفاجا لمدة يومين    المنتخبات المتأهلة إلى كأس العالم 2026 بعد صعود ثلاثي أمريكا الشمالية    مواقيت الصلاه اليوم الأربعاء 19نوفمبر 2025 فى المنيا    شهر جمادي الثاني وسر تسميته بهذا الاسم.. تعرف عليه    بحضور ماسك ورونالدو، ترامب يقيم عشاء رسميا لولي العهد السعودي (فيديو)    زيورخ السويسري يكشف حقيقة المفاوضات مع محمد السيد    ما هي أكثر الأمراض النفسية انتشارًا بين الأطفال في مصر؟.. التفاصيل الكاملة عن الاضطرابات النفسية داخل مستشفيات الصحة النفسية    النائب العام يؤكد قدرة مؤسسات الدولة على تحويل الأصول الراكدة لقيمة اقتصادية فاعلة.. فيديو    أبرزهم أحمد مجدي ومريم الخشت.. نجوم الفن يتألقون في العرض العالمي لفيلم «بنات الباشا»    آسر نجل الراحل محمد صبري: أعشق الزمالك.. وأتمنى أن أرى شقيقتي رولا أفضل مذيعة    دينا محمد صبري: كنت أريد لعب كرة القدم منذ صغري.. وكان حلم والدي أن أكون مهندسة    حبس المتهمين في واقعة إصابة طبيب بطلق ناري في قنا    داعية: حديث "اغتنم خمسًا قبل خمس" رسالة ربانية لإدارة العمر والوقت(فيديو)    هل يجوز أداء العشاء قبل الفجر لمن ينام مبكرًا؟.. أمين الفتوى يجيب    مواقيت الصلاه اليوم الثلاثاء 18نوفمبر 2025 فى المنيا....اعرف صلاتك    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



(الشروق) تنشر الجزء الثالث من (رحيق عمر)
نشر في الشروق الجديد يوم 15 - 01 - 2010

فى الفصلين اللذين نشرناهما من كتاب «رحيق العمر» للمفكر الكبير الدكتور جلال أمين رأينا تقاليد وعادات أسرة مصرية متعلمة فى بدايات القرن الماضى، خاصة ما كان منها متعلقا بأحوال المرأة المصرية بشكل عام.
فى الجزء الثالث من الكتاب يتحدث الدكتور جلال عن أبيه العلَّامة الراحل الأستاذ أحمد أمين وعن أشقائه الذين أشتهر بعضهم.
الكتاب يصدر قريبا عن دار الشروق
أبى وأولاده
كان أبى، مع كل قوته وجبروته، ضعيفا مثل أمى إزاء أى أذى يمكن أن يلحق بأى ولد أو بنت من أولاده. لقد وصف مشاعره فى هذا الصدد بوضوح فى كتاب «حياتى»، وأنا أعرف أنه فى هذا القول، كما كان فى غيره، صادق مائة بالمائة. كان يصف رحلة قام بها إلى استانبول، استغرقت أربعين يوما، فكتب «وكان يعتمد على مذكرات كتبها أثناء الرحلة»:
«أحسست عند مقارنتى لرفقائى فى السفر أننى أكثرهم تحفظا وأقلهم مرحا وأشدهم حنينا إلى أهلى ووطنى، واعتزمت أن أنصف أهلى وولدى عند عودتى، فأكون معهم ألطف وأعطف، وأرق وأحسن معاملة وأكثر مرحا».
كانت أمى أيضا تقول لنا ما يؤكد هذه الحقيقة. ذلك أنها، فى لعبة توازن القوى التى استمرت طوال حياتهما معا، كانت تشعر دائما بأنها الطرف الأضعف، ثم اكتشفت نقطة ضعف فيه عملت، باعترافها هى، على استغلالها لصالحها، وهى ضعفه إزاء الأولاد. كانت إذا سافر أبى فى رحلة طويلة بعد شجار نشب بينهما، تتعمد إثارة قلقه على الأولاد، فلا ترد على خطاباته وأسئلته المتكررة عنا. كانت تقول لنا ذلك بخبث وهى تضحك، ونحن واثقون من أنها قادرة على ذلك.
كان أبى قد تلقى نفس هذا الشعور بالعطف على الأولاد والخوف عليهم، من أبيه وأمه، ولكن على الأخص من أمه، التى يقول عنها فى سيرته الذاتية:
«عاملها أبى معاملة شديدة قاسية، سلبها كل سلطتها وكبت شخصيتها وحرمها دائرة نفوذها، وطغى بشخصيته على شخصيتها فعاشت كسيرة القلب منقبضة النفس، لا يحملها على البقاء فى البيت إلا حبها لأولادها، فكانت تحتمل ذلك كله وتطيل الاحتمال، وتصبر وتطيل الصبر، وتحن علينا، وإذا غضب علينا أبونا احتمينا بحنوها وأنسنا بعطفها».
لم يكن أبى إذن فى هذا العطف الشديد علينا يختلف عن أمه وأبيه، ولكنه بلا شك ورث أيضا من أبيه طريقة إخفائه. كان أبى ينتمى إلى جيل يحتقر بشدة تدليل الأولاد «والزوجات أيضا»، ويعتبر أى نوع من تدليل الأولاد طريقا أكيدا لإفساد الولد والبنت إلى الأبد، ويعتبر تدليل الزوجة بأى صورة نقصا فى الرجولة. وأظن أن أبى بالغ فى تجنب التدليل فى الحالتين، أكثر من اللازم، فلم نكتشف مدى عطفه وحبه لنا إلا فى وقت متأخر جدا، ودفع هو للأسف ثمنا غاليا لكتمان عواطفه.
كان يقول لنا إنه لا يمكن أن يقصر فى بذل أى جهد أو مال يلزم لتحقيق أحد أمرين لا ثالث لهما: التعليم والصحة. وكان يقصد بهذا القول تبرير رفضه لأى طلب من جانبنا فيه شبهة الرفاهية أو رغبتنا فى مجاراة أصحابنا فى الإنفاق. وأظنه لم يجانب الصواب فى هذا، ولكنى أعتقد أنه قصر فى شىء كان يجب أن يضيفه إلى التعليم والصحة، وهو مجرد تبادل الحديث معنا والاستعداد لسماع أخبارنا الصغيرة والضحك على ما يضحكنا. لم يكن لديه لا الوقت ولا الاستعداد النفسى لذلك، ولذلك ظل أبى مرهوب الجانب يفرض علينا حضوره التزام الأدب وضبط النفس بمجرد أن نسمع صوته لدى وصوله إلى أول السلم.
ومع ذلك فإنى أشهد له بأنه صنع كل ما يمكن أن يطلب منه وأكثر فى سبيل تعليمنا أحسن تعليم، وأنفق عن طيب خاطر كل ما يتطلبه علاج أى من أولاده على يد أكبر الأطباء. ومن جانبنا نحن، لم يخيب أحد منا أمله فى الأداء المدرسى، باستثناء وحيد هو حالة أخى أحمد الذى ظل مصدرا لقلق أبى حتى تخرج بشق الأنفس من الجامعة. ولكن قصة أبى مع أحمد قصة معقدة ولا تخلو من طرافة.
2
لم يكن أحمد بأى حال أقل من أى من إخوته السبعة فى الذكاء أو سرعة الفهم أو حسن التصرف، كما اكتشفت بعد أن كبرت وزال عنى وهم اعتبار الأداء المدرسى مقياسا جيدا للذكاء. كان فقط غير شغوف بالكتب، بعكسى أنا وحسين، وأكثر منا شغفا بالناس.
كان التحدى الذى يجذب اهتمام أحمد، ليس تحدى الكتاب الصعب أو القصيدة المعقدة، بل تحدى العلاقات الاجتماعية، واكتشاف الطريقة المثلى للتعامل مع الناس. لم تكن لتستهوى أحمد إذن المقررات الدراسية فتكرر رسوبه. واحتار أبى فى تفسير اختلاف أداء أحمد فى المدرسة عن أدائنا جميعا، ثم وصل إلى الاعتقاد بأن العيب فى أصحابه، وأنهم هم أصدقاء السوء الذى يجب إبعادهم عنه. ولكن الحقيقة أن أصحابه أيضا لم يكن فيهم عيب إلا هذا العيب: الشغف بالناس أكثر من الشغف بالكتب. ومع هذا ظل أحمد يساير أبى ولا يعترض على تفسيره، ويعده بما يعرف فى داخل نفسه أنه لا يمكن أن ينفذه.
كان أبى، رغم حكمته وسعة معارفه، يتصرف أحيانا تصرفات مدهشة أو تصدر عنه أحكام تبدو لنا أحيانا ساذجة للغاية، دون أن نجرؤ بالطبع على التعبير عن رأينا فيها.
قرر مثلا بعد تفكير طويل فى مشكلة أحمد أن أحمد «ضعيف الشخصية»، وأن هذا هو السبب فى عجزه عن التخلص من أصدقاء السوء والتفرغ للمذاكرة. وصدرت عن أبى مرة عبارة لم يكن باستطاعة أحد منا أن يأخذها مأخذ الجد، إذ قال لأحمد «إنه يجب أن يحاول أن يقوى شخصيته فى إجازة الصيف!» وقد ظلت هذه العبارة تثير ضحكنا كلما تذكرناها، ومعنا أحمد نفسه، ولكن من وراء ظهر أبى بالطبع.
خطرت لأبى أيضا فكرة جهنمية أثناء استعداد أحمد للامتحانات النهائية فى كلية الهندسة، وهى فكرة كانت تلح عليه منذ شبابه وظلت تراوده بين الحين والآخر، ولا يقبل أن يصدق أنها فكرة خيالية تماما ويستحيل تطبيقها. كان فى شبابه قد تعرف على سيدة إنجليزية اسمها Miss Power، كبيرة السن وتعيش وحدها، وكانت تعطيه دروسا فى اللغة الإنجليزية، وتعامله كما لو كان ابنها، ولكن طرأ عليها فجأة تطور غريب يصفه أبى فى كتاب «حياتى» على النحو التالى:
«لا أدرى ما الذى انتابها، فقد رأيتها تكثر من القراءة فى كتب الأرواح، ثم تمعن فى قراءتها، ثم تذكر لى أنها خصصت كل يوم ساعتين تغلق عليها حجرتها وترخى ستائرها وتغمض عينيها، وتركز روحها فى مريض تعالجه وهو فى داره وهى فى دارها. أو تجرب تجربة أخرى، أن ترسل من روحها إشارة لاسلكية لصاحب لها تنبئه أن يحضر أو لا يحضر..
وقد نجحت فى بعض الأحوال دون بعض، فلم تشأ أن تعتقد أن هذا مصادفة، ولكنها اعتقدت أن نجاحها فيما نجحت فيه كان لأن الأمر قد استوفى شروطه، وما لم تنجح فيه لم تستكمل عدته، فزاد اجتهادها وطالت ساعات عزلتها، وأمعنت فى تركيز روحها. كل ذلك وأنا أنصحها ألا تفرط فى هذا خشية عليها فلا تسمع، لأنها تأمل من ذلك فى نجاح باهر».
يبدو أن الفكرة التصقت بذهن أبى، واعتقد إنها قد لا تكون مستحيلة، وإن كان عندما يشرحها لنا يبدو عليه أنه نصف مصدق لها ونصف مكذب. فى اليوم السابق لامتحان أحمد فاجأنا بقوله له إنه سوف يرسل إليه «نجدة» خلال الامتحان، فسأله أحمد عما يقصد بالضبط. فابتسم قائلا إنه سوف يركز ذهنه تركيزا شديدا للاتصال بأحمد أثناء تأديته للامتحان، بالفكر لا بأى شىء آخر، وأن هذا يمكن أن يساعده فى الإجابة. ضحك الاثنان، ولكن أبى لم يكن يقصد مجرد الضحك، فقد قال مثل هذا قبل هذه المرة. وعندما عاد أحمد من الامتحان سأله أبى: «هل جاءتك النجدة؟» فرد أحمد إجابة مقتضبة لا تعنى شيئا على الإطلاق مثل: «آه، يعنى، برضه!».
عندما أتذكر هذه القصة الآن أميل إلى ترجيح التفسير الآتى، وهو أن أبى كان لديه دائما استعداد للاعتقاد فى وجود عالم روحى إلى جانب أو وراء ما يحسه من العالم المادى. جرب التصوف فى مطلع شبابه، وها هو فى شيخوخته يختبر قدرة ذهنه على الاتصال عن بعد دون أى واسطة مادية. المهم أن أحمد نجح وتخرج وانتهت المشكلة، ولم يذهب أبى إلى حد الادعاء بأن هذه «النجدة» الفكرية كانت وراء نجاحه.
3
لم يسبب أى من الأولاد بعد ذلك أى مشكلة لأبى فى الدراسة، فقد ورثت أنا وحسين من أبى الشغف بالكتب، ولاحظ هو ذلك فشجعنا على القراءة. كان أخى حسين قد تعرف فى سن مبكرة على الأدب الإنجليزى فأخذ يقرأ فيه بشراهة، وكذلك ما تقع عليه يده من كتب الأدب الفرنسى والألمانى والروسى المترجمة إلى الإنجليزية.
ولكن هذا الشغف من جانب حسين بالقراءة فى مختلف أنواع الكتب، وإن كان قد سر والدى بشدة، سرعان ما خلق مشكلة ليست بالهينة. فحسين كان إذا أعجب بكاتب أو أديب تحمس له لدرجة تملك عليه نفسه، فيظن أن هذا الأديب ولا أديب غيره، وأن كل شخص منا يجب أن يترك كل شىء ليتفرغ لقراءته، أو أنه لن يقرأ لكاتب آخر بعد الآن، إذا ما الفائدة وقد قال هذا الكاتب كل شىء؟... إلخ. وهو موقف قد لا يضايق الأب، بل وقد يسره أن يرى ابنه يعشق الأدب إلى هذه الدرجة، ولكنها فى حالة حسين كانت مصدرا حقيقيا لقلق أبى.
فقد حدث مثلا قبل الامتحان النهائى للسنة الثالثة فى كلية الحقوق بيومين أو ثلاثة، أن أنهى حسين قراءة رواية الحرب والسلام لتولستوى، التى شغلته طويلا عن الاستعداد للامتحان، ثم خرج إلينا وأعلن أنه قد أتم لتوه قراءة أعظم كتاب فى الوجود، وأنه لهذا السبب اتخذ قرارا لا رجعة فيه وهو عدم دخول الامتحان وتحويل أوراقه ابتداء من السنة القادمة إلى كلية الآداب، إذا ما جدوى إضاعة الوقت فى هذه الدراسة السخيفة لقوانين المرافعات والقانون الإدارى.. إلخ؟ إنه سيدخل كلية الآداب ويتفرغ للأدب ويكتب رسالة الدكتوراه عن رواية الحرب والسلام.
كنا قد تعودنا من حسين مثل هذا التصرف، وأنه لا يلبث أن يهدأ بعد بضعة أيام ويتحمس لشىء آخر، ولكن أبى انتابه قلق حقيقى لأن الأيام الباقية قبل الامتحان قليلة جدا، وإذا استمر حسين فى إهماله لمراجعة دروسه ربما حدث ما لا تحمد عقباه. غضب أبى غضبا شديدا من هذا الكلام الفارغ عن التحويل من كلية الحقوق إلى الآداب، وأمر حسين بالدخول فورا إلى حجرته للمذاكرة، وألا يقرأ كلمة واحدة فى غير مقررات الحقوق حتى انتهاء الامتحانات.
قام حسين متثاقلا وحزينا، وعندما دخلت عليه بعد ساعة لأرى ما يفعل، رأيته ممسكا بكتاب فى القانون المدنى، ولكنه كان يرسم على الهامش صورة رجل عجوز بلحية كثيفة تشبه لحية تولستوى، وقرأت الفقرة المقابلة للرسم فى الكتاب فإذا بها تقول: «وقد دار برأس المشرِّع أن يحتاط لهذا الأمر.....» ونظرت مرة أخرى إلى الصورة التى رسمها حسين إلى جانب هذا الكلام فإذا بحسين قد كتب تحتها: «رأس المشرع!».
تخرج حسين فى كلية الحقوق بسلام، ولكنه لم يكف عن إثارة المشكلات لأبى. من ذلك ما فعله مع صاحب مكتبة النهضة المصرية، التى كانت تقوم بمهمة الناشر والموزع لمعظم كتب أبى. وكان صاحبها رجلا مثقفا لطيفا حرص على أن يأتى لمكتبته بشارع عدلى بأهم الكتب الإنجليزية بمجرد صدورها، وأن يعرضها على أبى وعلى حسين كلما زارا مكتبته، فخورا بأن مكتبته هى الوحيدة فى مصر التى تستورد مثل هذه الكتب. ولاحظ أبى افتتان حسين بهذه الكتب، فقال لصاحب المكتبة إنه يسمح لحسين بأن يأخذ ما يشاء من الكتب وأن تخصم قيمتها من حساب أبى.
دهش أبى بعد بضعة أشهر عندما وجد حسابه لدى مكتبة النهضة يتضاءل بسرعة بسبب ما أخذه حسين من كتب. ولكن الصدمة كانت شديدة عندما ذهب مرة إلى المكتبة فوجد حسابه فيها سالبا لنفس السبب. وعندما استفهم من صاحب المكتبة عن الكتب التى اشتراها حسين رأى أن آخرها أربعة مجلدات فاخرة تتضمن ترجمة إنجليزية ليوميات الكاتب الفرنسى أندريه جيد، الذى كان حسين قد شغف به مؤخرا.
لم يكن سبب ثورة أبى هو فقط ارتفاع الثمن، وعدم استئذان حسين له عند شراء كتاب هذا الثمن، ولكن زاد الطين بلة أن أبى كان قد سمع أن أندريه جيد لديه انحرافات جنسية ولم يكن يجب أن يقرأ حسين عنها. أمر أبى حسين بإعادة الكتاب وأن يعده بألا يقرأ فى مذكرات أندريه جيد، لا اليوم ولا فى أى وقت فى المستقبل.
تخرج الأولاد جميعا قبل وفاة أبى، فيما عداى. ولكن أبى لم يجد أى سبب للخوف من ألا أتمكن أنا أيضا من إتمام دراستى الجامعية. كما أنه لم يجد أيضا أى سبب للخوف من عدم حصول أى منا على وظيفة محترمة بعد التخرج إلا فى حالة حسين أيضا. لم يتخرج حسين فى كلية الحقوق بتفوق، للأسباب التى سبق لى شرحها، ولعدم شعوره بأى شغف نحو دراسة القانون.
لم تكن لديه إذن لدى تخرجه أى فرصة للالتحاق بالوظائف المرموقة لخريجى الحقوق، كوظيفة معيد بالجامعة أو مندوب بمجلس الدولة أو وكيل نيابة كخطوة فى السلك القضائى. احتار أبى ماذا يصنع؟، ثم اتصل بأكبر محام جنائى فى مصر، وهو الأستاذ على بدوى، وكانت قد طبقت شهرته الآفاق وتداول الناس القصص عن مهارته وعبقريته، وعن قدرته على تخليص أى مجرم من حبل المشنقة، حتى قيل إن صاحب الثأر فى الصعيد، إذا قرر أن ينتقم ويثأر لنفسه بيده، كان يعلن عن تصميمه هذا بقوله «إن دية هذا الأمر لا تزيد على مائة جنيه تعطى لعلى بدوى، فيخلصنى من العقاب!».
اتصل أبى بعلى بدوى، وكان كل منهما يقدر الآخر ومعجبا به، فرجاه أبى أن يقبل حسين فى مكتبه كمحام تحت التمرين، وكان هذا من أصعب الأمور فى ذلك الوقت، خاصة فى مكتب محام كبير مثل على بدوى، فإذا حصل خريج الحقوق على مثل هذه الفرصة فإنه كان عادة يعمل دون أجر مكتفيا بما يحصل عليه من خبرة ومران. ولكن أبى كان يعرف أن حسين لن يرضيه هذا، فرجا على بدوى، فضلا عن قبوله لحسين كمتمرن فى مكتبه.
أن يتظاهر بأن هناك مكافأة قدرها خمسة جنيهات تدفع للمحامى تحت التمرين، ودون أن يدفع على بدوى نفسه هذا المبلغ، بل يعطيه له أبى فى أول كل شهر، فيعطيه على بدوى لحسين بدوره وكأنه منه، وذلك على سبيل تشجيع حسين ورفع معنوياته. وقبل على بدوى هذا الرجاء صاغرا، إذا لم يكن بوسعه أن يرفض لأبى طلبا، ولكن حسين لم يستمر فى العمل معه أكثر من ثلاثة أسابيع، أعلن بعدها أنه لا يستطيع أن يقبل الدفاع عن مجرمين وهو يعلم أنهم مجرمون.
ثم أعلن حسين بعد هذا أنه سيتقدم للالتحاق بالإذاعة المصرية، فهى الوظيفة التى يتمناها. وفعلا نجح فى امتحان الإذاعة وأصبح مذيعا، وقدم بعض البرامج الطريفة والناجحة جدا، وإن كان رئيسه قد لفت نظره مرة إلى أنه فى برنامج موجه للفلاحين نطق كلمة «قريش»، عند الكلام من نوع الجبن الأبيض الذى يأكله الفلاحون.
وكأنها اسم القبيلة العربية الشهيرة. ولكن كان الذى أثار رئيسه عليه حقا ما فعله حسين فى فترة الخلاف بين محمد نجيب وعبدالناصر. ففى اليوم الذى أعلن فى الإذاعة قرار مجلس قيادة الثورة بتنحية محمد نجيب عن منصبه كرئيس للجمهورية «فى فبراير 1954» كان على حسين أن يلقى الخبر كجزء من نشرة الأخبار فى الصباح الباكر، وأن يدير اسطوانة بعد نشرة الأخبار هى نشيد حماسى لشادية.
بحث حسين عن الاسطوانة المقرر إذاعتها فلم يجدها، فوضع بدلا منها اسطوانة لنجاح سلام، تبين لسوء حظه أنها تحتوى على مدح لمحمد نجيب. ترتب على هذه الواقعة نقل حسين من وظيفة مذيع إلى قسم التسجيلات، مما أصابه بحزن شديد واكتئاب دفعا أبى «وكان هذا قبل ثلاثة أشهر من وفاته» إلى التدخل من جديد وأن يطلب من صديقه الشيخ عبدالوهاب خلاف، وكان صاحب نفوذ كبير لدى مدير الإذاعة، أن يتوسط لحسين لدى المدير لكى يعيده إلى صفوف المذيعين، وهو ما حدث بالفعل.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.