تنسيق الجامعات.. كل ما تريد معرفته عن برنامج المعلوماتية الطبية بجامعة حلوان    «التضامن» تقر تعديل وتوفيق أوضاع 3 جمعيات في القليوبية وكفر الشيخ    النائب أحمد فرغلي يعلن رفضه لمشروع الموازنة العامة للدولة للعام المالي الجديد 2025/2026    وزير الإسكان: ملتزمون بتذليل العقبات أمام المطورين والمستثمرين    الوكالة الدولية للطاقة الذرية:التصعيد العسكري بين إيران وإسرائيل يؤخر العمل نحو حل دبلوماسي    حقيقة استبعاد محمود تريزيجيه من مباراة بالميراس البرازيلي    «الداخلية» تقرر السماح ل42 مواطنًا مصريًا بالحصول على جنسيات أجنبية    أرق الصيف.. كيف تحمي نفسك منه؟    رئيس «النواب» ينتقد تغيب وزيري المالية والتخطيط خلال مناقشة الموازنة: لا نقبل الأعذار    المكتب الإعلامي الحكومي في غزة: قطع الاحتلال للاتصالات والإنترنت جريمة مدروسة ومقصودة لعزل القطاع    رئيس مجلس النواب يضع مجموعة قواعد لمناقشة مشروع خطة التنمية الاقتصادية والاجتماعية    ميدو: الأهلي أضاع فرصة التأهل.. وزيزو غير جاهز بدنيًا    شوبير يكشف سبب تبديل زيزو أمام إنتر ميامي وحقيقة غضبه من التغيير    توقيع عقد ترخيص شركة «رحلة رايدز لتنظيم خدمات النقل البري»    محافظ سوهاج يدعو المواطنين للإبلاغ عن وقائع الغش في امتحانات الثانوية العامة بالأدلة    اليوم.. محاكمة 29 متهمًا بالانضمام لجماعة إرهابية فى المقطم    في أول زيارة لماسبيرو.. "المسلماني" يستقبل هدى نجيب محفوظ قبل افتتاح استديو نجيب محفوظ    بعد أزمة تواجدها في العراق.. إلهام شاهين: أخيرا هنرجع مصر    قصر ثقافة أبو سمبل يشهد انطلاق برنامج "مصر جميلة" لاكتشاف ودعم الموهوبين    وزير الزراعة يفتتح ورشة العمل الأولى لتنفيذ استراتيجية إعلان كمبالا للبحث والتطوير الزراعي في أفريقيا    الصحة: إصدار 19.9 مليون قرار علاج مميكن من الهيئة العامة للتأمين الصحي خلال عام    صحة الشرقية تطلق قافلة طبية بالمجان لأهالي العزازية ضمن المبادرات الرئاسية    وزير التعليم العالى: بنك المعرفة المصري تحول إلى منصة إقليمية رائدة    القبض على 3 متهمين بسرقة كابلات من شركة بكرداسة    الإعدام شنقا لجامع خردة قتل طفلة وسرق قرطها الذهبى فى العاشر من رمضان    الدخول ب 5 جنيهات.. 65 شاطئًا بالإسكندرية في خدمة المصطافين    السيسي لا ينسي أبناء مصر الأوفياء.. أخر مستجدات تكريم الشهداء والمصابين وأسرهم    انخفاض الطماطم.. أسعار الخضروات والفاكهة في سوق العبور اليوم    بدء تسليم دفعة جديدة من وحدات مشروع جنة بالمنصورة الجديدة.. 6 يوليو    أحمد السقا يرد برسالة مؤثرة على تهنئة نجله ياسين بعيد الأب    خلافات زوجية في الحلقة الثالثة من «فات الميعاد»    شام الذهبي تطمئن الجمهور على نجل تامر حسني: «عريس بنتي المستقبلي وربنا يشفيه»    حكم الصرف من أموال الزكاة والصدقات على مرضى الجذام؟.. دار الإفتاء تجيب    معلق مباراة الأهلي: الحماس سبب تريند «تعبتني يا حسين».. والأحمر كان الأفضل (خاص)    أسعار النفط تقفز وسط تصاعد المخاوف من تعطل الإمدادات    مستقبل صناعة العقار في فيلم تسجيلي بمؤتمر أخبار اليوم    محافظ أسوان: 14 ألف حالة من المترددين على الخدمات الطبية بوحدة صحة العوضلاب    موريتانيا.. مظاهرات منددة بالعدوان الإسرائيلي على إيران وغزة    الاثنين 16 يونيو 2025.. البورصة المصرية تعاود الارتفاع في بداية التعاملات بعد خسائر أمس    مستشار الرئيس للصحة: مصر سوق كبيرة للاستثمار في الصحة مع وجود 110 ملايين مواطن وسياحة علاجية    ترامب يصل إلى كندا لحضور قمة مجموعة السبع على خلفية توترات تجارية وسياسية    استكمالا لسلسلة في الوقاية حماية.. طب قصر العيني تواصل ترسيخ ثقافة الوعي بين طلابها    حالة الطقس اليوم في الكويت    أحمد فؤاد هنو: عرض «كارمن» يُجسّد حيوية المسرح المصري ويُبرز الطاقات الإبداعية للشباب    الرئيس الإيراني: الوحدة الداخلية مهمة أكثر من أي وقت مضى.. ولن نتخلى عن برنامجنا النووي السلمي    إيران تنفذ حكم الإعدام فى مدان بالتجسس لصالح إسرائيل    انتصار تاريخي.. السعودية تهزم هايتي في افتتاحية مشوارها بالكأس الذهبية    تضرر شبكة الكهرباء فى وسط إسرائيل بسبب الضربات الإيرانية    مدرب بالميراس يتوعد الأهلي قبل مواجهته في مونديال الأندية    "عايزة أتجوز" لا يزال يلاحقها.. هند صبري تشارك جمهورها لحظاتها ويكرمها مهرجان بيروت    بعد تعرضها لوعكة صحية.. كريم الحسيني يطلب الدعاء لزوجته    3 أيام متواصلة.. موعد إجازة رأس السنة الهجرية للموظفين والبنوك والمدارس (تفاصيل)    مجموعة الأهلي| شوط أول سلبي بين بالميراس وبورتو في كأس العالم للأندية    كريم رمزي يكشف تفاصيل جديدة عن توقيع عقوبة على تريزيجيه    أمين الفتوى: الله يغفر الذنوب شرط الاخلاص في التوبة وعدم الشرك    هل الزيادة في البيع بالتقسيط ربا؟.. أمين الفتوى يرد (فيديو)    إيران تعلن اعتقال عنصرين تابعين للموساد الإسرائيلى جنوب طهران    بوستات تهنئة برأس السنة الهجرية للفيس بوك    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



(الشروق) تنشر الجزء الثالث من (رحيق عمر)
نشر في الشروق الجديد يوم 15 - 01 - 2010

فى الفصلين اللذين نشرناهما من كتاب «رحيق العمر» للمفكر الكبير الدكتور جلال أمين رأينا تقاليد وعادات أسرة مصرية متعلمة فى بدايات القرن الماضى، خاصة ما كان منها متعلقا بأحوال المرأة المصرية بشكل عام.
فى الجزء الثالث من الكتاب يتحدث الدكتور جلال عن أبيه العلَّامة الراحل الأستاذ أحمد أمين وعن أشقائه الذين أشتهر بعضهم.
الكتاب يصدر قريبا عن دار الشروق
أبى وأولاده
كان أبى، مع كل قوته وجبروته، ضعيفا مثل أمى إزاء أى أذى يمكن أن يلحق بأى ولد أو بنت من أولاده. لقد وصف مشاعره فى هذا الصدد بوضوح فى كتاب «حياتى»، وأنا أعرف أنه فى هذا القول، كما كان فى غيره، صادق مائة بالمائة. كان يصف رحلة قام بها إلى استانبول، استغرقت أربعين يوما، فكتب «وكان يعتمد على مذكرات كتبها أثناء الرحلة»:
«أحسست عند مقارنتى لرفقائى فى السفر أننى أكثرهم تحفظا وأقلهم مرحا وأشدهم حنينا إلى أهلى ووطنى، واعتزمت أن أنصف أهلى وولدى عند عودتى، فأكون معهم ألطف وأعطف، وأرق وأحسن معاملة وأكثر مرحا».
كانت أمى أيضا تقول لنا ما يؤكد هذه الحقيقة. ذلك أنها، فى لعبة توازن القوى التى استمرت طوال حياتهما معا، كانت تشعر دائما بأنها الطرف الأضعف، ثم اكتشفت نقطة ضعف فيه عملت، باعترافها هى، على استغلالها لصالحها، وهى ضعفه إزاء الأولاد. كانت إذا سافر أبى فى رحلة طويلة بعد شجار نشب بينهما، تتعمد إثارة قلقه على الأولاد، فلا ترد على خطاباته وأسئلته المتكررة عنا. كانت تقول لنا ذلك بخبث وهى تضحك، ونحن واثقون من أنها قادرة على ذلك.
كان أبى قد تلقى نفس هذا الشعور بالعطف على الأولاد والخوف عليهم، من أبيه وأمه، ولكن على الأخص من أمه، التى يقول عنها فى سيرته الذاتية:
«عاملها أبى معاملة شديدة قاسية، سلبها كل سلطتها وكبت شخصيتها وحرمها دائرة نفوذها، وطغى بشخصيته على شخصيتها فعاشت كسيرة القلب منقبضة النفس، لا يحملها على البقاء فى البيت إلا حبها لأولادها، فكانت تحتمل ذلك كله وتطيل الاحتمال، وتصبر وتطيل الصبر، وتحن علينا، وإذا غضب علينا أبونا احتمينا بحنوها وأنسنا بعطفها».
لم يكن أبى إذن فى هذا العطف الشديد علينا يختلف عن أمه وأبيه، ولكنه بلا شك ورث أيضا من أبيه طريقة إخفائه. كان أبى ينتمى إلى جيل يحتقر بشدة تدليل الأولاد «والزوجات أيضا»، ويعتبر أى نوع من تدليل الأولاد طريقا أكيدا لإفساد الولد والبنت إلى الأبد، ويعتبر تدليل الزوجة بأى صورة نقصا فى الرجولة. وأظن أن أبى بالغ فى تجنب التدليل فى الحالتين، أكثر من اللازم، فلم نكتشف مدى عطفه وحبه لنا إلا فى وقت متأخر جدا، ودفع هو للأسف ثمنا غاليا لكتمان عواطفه.
كان يقول لنا إنه لا يمكن أن يقصر فى بذل أى جهد أو مال يلزم لتحقيق أحد أمرين لا ثالث لهما: التعليم والصحة. وكان يقصد بهذا القول تبرير رفضه لأى طلب من جانبنا فيه شبهة الرفاهية أو رغبتنا فى مجاراة أصحابنا فى الإنفاق. وأظنه لم يجانب الصواب فى هذا، ولكنى أعتقد أنه قصر فى شىء كان يجب أن يضيفه إلى التعليم والصحة، وهو مجرد تبادل الحديث معنا والاستعداد لسماع أخبارنا الصغيرة والضحك على ما يضحكنا. لم يكن لديه لا الوقت ولا الاستعداد النفسى لذلك، ولذلك ظل أبى مرهوب الجانب يفرض علينا حضوره التزام الأدب وضبط النفس بمجرد أن نسمع صوته لدى وصوله إلى أول السلم.
ومع ذلك فإنى أشهد له بأنه صنع كل ما يمكن أن يطلب منه وأكثر فى سبيل تعليمنا أحسن تعليم، وأنفق عن طيب خاطر كل ما يتطلبه علاج أى من أولاده على يد أكبر الأطباء. ومن جانبنا نحن، لم يخيب أحد منا أمله فى الأداء المدرسى، باستثناء وحيد هو حالة أخى أحمد الذى ظل مصدرا لقلق أبى حتى تخرج بشق الأنفس من الجامعة. ولكن قصة أبى مع أحمد قصة معقدة ولا تخلو من طرافة.
2
لم يكن أحمد بأى حال أقل من أى من إخوته السبعة فى الذكاء أو سرعة الفهم أو حسن التصرف، كما اكتشفت بعد أن كبرت وزال عنى وهم اعتبار الأداء المدرسى مقياسا جيدا للذكاء. كان فقط غير شغوف بالكتب، بعكسى أنا وحسين، وأكثر منا شغفا بالناس.
كان التحدى الذى يجذب اهتمام أحمد، ليس تحدى الكتاب الصعب أو القصيدة المعقدة، بل تحدى العلاقات الاجتماعية، واكتشاف الطريقة المثلى للتعامل مع الناس. لم تكن لتستهوى أحمد إذن المقررات الدراسية فتكرر رسوبه. واحتار أبى فى تفسير اختلاف أداء أحمد فى المدرسة عن أدائنا جميعا، ثم وصل إلى الاعتقاد بأن العيب فى أصحابه، وأنهم هم أصدقاء السوء الذى يجب إبعادهم عنه. ولكن الحقيقة أن أصحابه أيضا لم يكن فيهم عيب إلا هذا العيب: الشغف بالناس أكثر من الشغف بالكتب. ومع هذا ظل أحمد يساير أبى ولا يعترض على تفسيره، ويعده بما يعرف فى داخل نفسه أنه لا يمكن أن ينفذه.
كان أبى، رغم حكمته وسعة معارفه، يتصرف أحيانا تصرفات مدهشة أو تصدر عنه أحكام تبدو لنا أحيانا ساذجة للغاية، دون أن نجرؤ بالطبع على التعبير عن رأينا فيها.
قرر مثلا بعد تفكير طويل فى مشكلة أحمد أن أحمد «ضعيف الشخصية»، وأن هذا هو السبب فى عجزه عن التخلص من أصدقاء السوء والتفرغ للمذاكرة. وصدرت عن أبى مرة عبارة لم يكن باستطاعة أحد منا أن يأخذها مأخذ الجد، إذ قال لأحمد «إنه يجب أن يحاول أن يقوى شخصيته فى إجازة الصيف!» وقد ظلت هذه العبارة تثير ضحكنا كلما تذكرناها، ومعنا أحمد نفسه، ولكن من وراء ظهر أبى بالطبع.
خطرت لأبى أيضا فكرة جهنمية أثناء استعداد أحمد للامتحانات النهائية فى كلية الهندسة، وهى فكرة كانت تلح عليه منذ شبابه وظلت تراوده بين الحين والآخر، ولا يقبل أن يصدق أنها فكرة خيالية تماما ويستحيل تطبيقها. كان فى شبابه قد تعرف على سيدة إنجليزية اسمها Miss Power، كبيرة السن وتعيش وحدها، وكانت تعطيه دروسا فى اللغة الإنجليزية، وتعامله كما لو كان ابنها، ولكن طرأ عليها فجأة تطور غريب يصفه أبى فى كتاب «حياتى» على النحو التالى:
«لا أدرى ما الذى انتابها، فقد رأيتها تكثر من القراءة فى كتب الأرواح، ثم تمعن فى قراءتها، ثم تذكر لى أنها خصصت كل يوم ساعتين تغلق عليها حجرتها وترخى ستائرها وتغمض عينيها، وتركز روحها فى مريض تعالجه وهو فى داره وهى فى دارها. أو تجرب تجربة أخرى، أن ترسل من روحها إشارة لاسلكية لصاحب لها تنبئه أن يحضر أو لا يحضر..
وقد نجحت فى بعض الأحوال دون بعض، فلم تشأ أن تعتقد أن هذا مصادفة، ولكنها اعتقدت أن نجاحها فيما نجحت فيه كان لأن الأمر قد استوفى شروطه، وما لم تنجح فيه لم تستكمل عدته، فزاد اجتهادها وطالت ساعات عزلتها، وأمعنت فى تركيز روحها. كل ذلك وأنا أنصحها ألا تفرط فى هذا خشية عليها فلا تسمع، لأنها تأمل من ذلك فى نجاح باهر».
يبدو أن الفكرة التصقت بذهن أبى، واعتقد إنها قد لا تكون مستحيلة، وإن كان عندما يشرحها لنا يبدو عليه أنه نصف مصدق لها ونصف مكذب. فى اليوم السابق لامتحان أحمد فاجأنا بقوله له إنه سوف يرسل إليه «نجدة» خلال الامتحان، فسأله أحمد عما يقصد بالضبط. فابتسم قائلا إنه سوف يركز ذهنه تركيزا شديدا للاتصال بأحمد أثناء تأديته للامتحان، بالفكر لا بأى شىء آخر، وأن هذا يمكن أن يساعده فى الإجابة. ضحك الاثنان، ولكن أبى لم يكن يقصد مجرد الضحك، فقد قال مثل هذا قبل هذه المرة. وعندما عاد أحمد من الامتحان سأله أبى: «هل جاءتك النجدة؟» فرد أحمد إجابة مقتضبة لا تعنى شيئا على الإطلاق مثل: «آه، يعنى، برضه!».
عندما أتذكر هذه القصة الآن أميل إلى ترجيح التفسير الآتى، وهو أن أبى كان لديه دائما استعداد للاعتقاد فى وجود عالم روحى إلى جانب أو وراء ما يحسه من العالم المادى. جرب التصوف فى مطلع شبابه، وها هو فى شيخوخته يختبر قدرة ذهنه على الاتصال عن بعد دون أى واسطة مادية. المهم أن أحمد نجح وتخرج وانتهت المشكلة، ولم يذهب أبى إلى حد الادعاء بأن هذه «النجدة» الفكرية كانت وراء نجاحه.
3
لم يسبب أى من الأولاد بعد ذلك أى مشكلة لأبى فى الدراسة، فقد ورثت أنا وحسين من أبى الشغف بالكتب، ولاحظ هو ذلك فشجعنا على القراءة. كان أخى حسين قد تعرف فى سن مبكرة على الأدب الإنجليزى فأخذ يقرأ فيه بشراهة، وكذلك ما تقع عليه يده من كتب الأدب الفرنسى والألمانى والروسى المترجمة إلى الإنجليزية.
ولكن هذا الشغف من جانب حسين بالقراءة فى مختلف أنواع الكتب، وإن كان قد سر والدى بشدة، سرعان ما خلق مشكلة ليست بالهينة. فحسين كان إذا أعجب بكاتب أو أديب تحمس له لدرجة تملك عليه نفسه، فيظن أن هذا الأديب ولا أديب غيره، وأن كل شخص منا يجب أن يترك كل شىء ليتفرغ لقراءته، أو أنه لن يقرأ لكاتب آخر بعد الآن، إذا ما الفائدة وقد قال هذا الكاتب كل شىء؟... إلخ. وهو موقف قد لا يضايق الأب، بل وقد يسره أن يرى ابنه يعشق الأدب إلى هذه الدرجة، ولكنها فى حالة حسين كانت مصدرا حقيقيا لقلق أبى.
فقد حدث مثلا قبل الامتحان النهائى للسنة الثالثة فى كلية الحقوق بيومين أو ثلاثة، أن أنهى حسين قراءة رواية الحرب والسلام لتولستوى، التى شغلته طويلا عن الاستعداد للامتحان، ثم خرج إلينا وأعلن أنه قد أتم لتوه قراءة أعظم كتاب فى الوجود، وأنه لهذا السبب اتخذ قرارا لا رجعة فيه وهو عدم دخول الامتحان وتحويل أوراقه ابتداء من السنة القادمة إلى كلية الآداب، إذا ما جدوى إضاعة الوقت فى هذه الدراسة السخيفة لقوانين المرافعات والقانون الإدارى.. إلخ؟ إنه سيدخل كلية الآداب ويتفرغ للأدب ويكتب رسالة الدكتوراه عن رواية الحرب والسلام.
كنا قد تعودنا من حسين مثل هذا التصرف، وأنه لا يلبث أن يهدأ بعد بضعة أيام ويتحمس لشىء آخر، ولكن أبى انتابه قلق حقيقى لأن الأيام الباقية قبل الامتحان قليلة جدا، وإذا استمر حسين فى إهماله لمراجعة دروسه ربما حدث ما لا تحمد عقباه. غضب أبى غضبا شديدا من هذا الكلام الفارغ عن التحويل من كلية الحقوق إلى الآداب، وأمر حسين بالدخول فورا إلى حجرته للمذاكرة، وألا يقرأ كلمة واحدة فى غير مقررات الحقوق حتى انتهاء الامتحانات.
قام حسين متثاقلا وحزينا، وعندما دخلت عليه بعد ساعة لأرى ما يفعل، رأيته ممسكا بكتاب فى القانون المدنى، ولكنه كان يرسم على الهامش صورة رجل عجوز بلحية كثيفة تشبه لحية تولستوى، وقرأت الفقرة المقابلة للرسم فى الكتاب فإذا بها تقول: «وقد دار برأس المشرِّع أن يحتاط لهذا الأمر.....» ونظرت مرة أخرى إلى الصورة التى رسمها حسين إلى جانب هذا الكلام فإذا بحسين قد كتب تحتها: «رأس المشرع!».
تخرج حسين فى كلية الحقوق بسلام، ولكنه لم يكف عن إثارة المشكلات لأبى. من ذلك ما فعله مع صاحب مكتبة النهضة المصرية، التى كانت تقوم بمهمة الناشر والموزع لمعظم كتب أبى. وكان صاحبها رجلا مثقفا لطيفا حرص على أن يأتى لمكتبته بشارع عدلى بأهم الكتب الإنجليزية بمجرد صدورها، وأن يعرضها على أبى وعلى حسين كلما زارا مكتبته، فخورا بأن مكتبته هى الوحيدة فى مصر التى تستورد مثل هذه الكتب. ولاحظ أبى افتتان حسين بهذه الكتب، فقال لصاحب المكتبة إنه يسمح لحسين بأن يأخذ ما يشاء من الكتب وأن تخصم قيمتها من حساب أبى.
دهش أبى بعد بضعة أشهر عندما وجد حسابه لدى مكتبة النهضة يتضاءل بسرعة بسبب ما أخذه حسين من كتب. ولكن الصدمة كانت شديدة عندما ذهب مرة إلى المكتبة فوجد حسابه فيها سالبا لنفس السبب. وعندما استفهم من صاحب المكتبة عن الكتب التى اشتراها حسين رأى أن آخرها أربعة مجلدات فاخرة تتضمن ترجمة إنجليزية ليوميات الكاتب الفرنسى أندريه جيد، الذى كان حسين قد شغف به مؤخرا.
لم يكن سبب ثورة أبى هو فقط ارتفاع الثمن، وعدم استئذان حسين له عند شراء كتاب هذا الثمن، ولكن زاد الطين بلة أن أبى كان قد سمع أن أندريه جيد لديه انحرافات جنسية ولم يكن يجب أن يقرأ حسين عنها. أمر أبى حسين بإعادة الكتاب وأن يعده بألا يقرأ فى مذكرات أندريه جيد، لا اليوم ولا فى أى وقت فى المستقبل.
تخرج الأولاد جميعا قبل وفاة أبى، فيما عداى. ولكن أبى لم يجد أى سبب للخوف من ألا أتمكن أنا أيضا من إتمام دراستى الجامعية. كما أنه لم يجد أيضا أى سبب للخوف من عدم حصول أى منا على وظيفة محترمة بعد التخرج إلا فى حالة حسين أيضا. لم يتخرج حسين فى كلية الحقوق بتفوق، للأسباب التى سبق لى شرحها، ولعدم شعوره بأى شغف نحو دراسة القانون.
لم تكن لديه إذن لدى تخرجه أى فرصة للالتحاق بالوظائف المرموقة لخريجى الحقوق، كوظيفة معيد بالجامعة أو مندوب بمجلس الدولة أو وكيل نيابة كخطوة فى السلك القضائى. احتار أبى ماذا يصنع؟، ثم اتصل بأكبر محام جنائى فى مصر، وهو الأستاذ على بدوى، وكانت قد طبقت شهرته الآفاق وتداول الناس القصص عن مهارته وعبقريته، وعن قدرته على تخليص أى مجرم من حبل المشنقة، حتى قيل إن صاحب الثأر فى الصعيد، إذا قرر أن ينتقم ويثأر لنفسه بيده، كان يعلن عن تصميمه هذا بقوله «إن دية هذا الأمر لا تزيد على مائة جنيه تعطى لعلى بدوى، فيخلصنى من العقاب!».
اتصل أبى بعلى بدوى، وكان كل منهما يقدر الآخر ومعجبا به، فرجاه أبى أن يقبل حسين فى مكتبه كمحام تحت التمرين، وكان هذا من أصعب الأمور فى ذلك الوقت، خاصة فى مكتب محام كبير مثل على بدوى، فإذا حصل خريج الحقوق على مثل هذه الفرصة فإنه كان عادة يعمل دون أجر مكتفيا بما يحصل عليه من خبرة ومران. ولكن أبى كان يعرف أن حسين لن يرضيه هذا، فرجا على بدوى، فضلا عن قبوله لحسين كمتمرن فى مكتبه.
أن يتظاهر بأن هناك مكافأة قدرها خمسة جنيهات تدفع للمحامى تحت التمرين، ودون أن يدفع على بدوى نفسه هذا المبلغ، بل يعطيه له أبى فى أول كل شهر، فيعطيه على بدوى لحسين بدوره وكأنه منه، وذلك على سبيل تشجيع حسين ورفع معنوياته. وقبل على بدوى هذا الرجاء صاغرا، إذا لم يكن بوسعه أن يرفض لأبى طلبا، ولكن حسين لم يستمر فى العمل معه أكثر من ثلاثة أسابيع، أعلن بعدها أنه لا يستطيع أن يقبل الدفاع عن مجرمين وهو يعلم أنهم مجرمون.
ثم أعلن حسين بعد هذا أنه سيتقدم للالتحاق بالإذاعة المصرية، فهى الوظيفة التى يتمناها. وفعلا نجح فى امتحان الإذاعة وأصبح مذيعا، وقدم بعض البرامج الطريفة والناجحة جدا، وإن كان رئيسه قد لفت نظره مرة إلى أنه فى برنامج موجه للفلاحين نطق كلمة «قريش»، عند الكلام من نوع الجبن الأبيض الذى يأكله الفلاحون.
وكأنها اسم القبيلة العربية الشهيرة. ولكن كان الذى أثار رئيسه عليه حقا ما فعله حسين فى فترة الخلاف بين محمد نجيب وعبدالناصر. ففى اليوم الذى أعلن فى الإذاعة قرار مجلس قيادة الثورة بتنحية محمد نجيب عن منصبه كرئيس للجمهورية «فى فبراير 1954» كان على حسين أن يلقى الخبر كجزء من نشرة الأخبار فى الصباح الباكر، وأن يدير اسطوانة بعد نشرة الأخبار هى نشيد حماسى لشادية.
بحث حسين عن الاسطوانة المقرر إذاعتها فلم يجدها، فوضع بدلا منها اسطوانة لنجاح سلام، تبين لسوء حظه أنها تحتوى على مدح لمحمد نجيب. ترتب على هذه الواقعة نقل حسين من وظيفة مذيع إلى قسم التسجيلات، مما أصابه بحزن شديد واكتئاب دفعا أبى «وكان هذا قبل ثلاثة أشهر من وفاته» إلى التدخل من جديد وأن يطلب من صديقه الشيخ عبدالوهاب خلاف، وكان صاحب نفوذ كبير لدى مدير الإذاعة، أن يتوسط لحسين لدى المدير لكى يعيده إلى صفوف المذيعين، وهو ما حدث بالفعل.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.