«بأسلوب شديد العذوبة، وشحنات مكثفة من المشاعر الإنسانية»، انطلق الكاتب والروائى عمرو العادلى فى مجموعته القصصية بائع السخانات الصادرة عن دار نشر كيان، والتى جاءت فى 6 قصص لم تراعَ التكثيف قدر ما راعت التعبير عن هواجس تدور فى ذهن الكثيرين. حاول الكاتب عمرو العادلى أن يختبر العديد من المعانى والمشاعر من خلال أبطال قصصه، ألقى بهم فى القلب من مواقف وتفاعلات إنسانية وعاين جيدا كيف سيتصرفون، بما يشعرك أنه ينتقل كثيرا من مقعد الكاتب إلى مقعد القارئ ليختبر ما قام بتفريغه من حمولة قصصية وروائية. يبرع الكاتب عمرو العادلى فى توصيل حالة شعورية خاصة من خلال نص لا يراعى معه مدى طوله أو قصره، طالما استوفى المعنى كاملا، ومنح الجرعة الشعورية خالصة إلى قارئه، وما يساعد على ذلك هو حالة التهيئة التى أعملها العادلى من خلال ما جاء على الغلاف الخلفى للمجموعة، والتى أورد فيها: فى هذه القصص ست رحلات، لكل منها مذاقها وعالمها المستقل، كما أنها تطرح أسئلة لا يمكن الإجابة عنها بسهولة حول شخصيات فككتهم الحياة، فكان لا بد من الدخول إلى عوالمهم والعيش معهم، والتفكير بطريقتهم والتورط فى أدق لحظات حياتهم المصيرية، لكن يظل السؤال الذى لن ينساه القارئ بعد الانتهاء من القراءة: «ماذا تبقى لإنسان العصر الحديث بعد أن التهمته المؤسسات الكبيرة والشركات الإنترناشيونال، ولم تترك له إلا الشرود والتردد والحيرة؟». ساعد العادلى على إحكام نصوصه، اللغة شديدة العذوبة والتى جاءت رقيقة وإن تخللها بعض الحوارات القوية بين أبطالها، إلا أنها ظلت فى المجمل تحتفظ بقدر من الإبهار الذى ساعد بعد ذلك فى بناء القصص وتطورها وتعدد الدروس والمعانى المستفادة منها. «التل، بائع السخانات، حكاية حكيت بالخطأ، شركة الدخان، الجمال الخالص، السعادة المسروقة» هى محطات المجموعة القصصية التى راعى فيها عمرو العادلى أسلوبا أدبيا رفيعا حيث يظهر اهتمامه الفائق بالشكل والأسلوب فى بناء الرواية، ويعتمد على ذلك فى توصيل الأفكار التى يريد أن يمررها للقارئ. تشعر عند مطالعة المجموعة القصصية «بائع السخانات»، أن الكاتب عمرو العادلى يعلى من شأن معيار بارز وهو «الفكرة» كأساس يقوده نحو التكوين الأدبى ومن بعده تأتى العديد من الأدوات والمقومات التى ينسج من خلالها نص يكاد يكون عابرا للتصنيفات، إلا أنه يعتمل بداخله مقدارا من التفاعل الدائم بين المشاعر الإنسانية المركبة. لا يجد القارئ فى صعوبة فى أن يجد نفسه وذاته كامنة فى النص الذى يقرأه، لا وجود لأى اغتراب بين القارئ والنص، والقدرة على الوصف والتعبير التى يفيض بها العادلى تساعد على تحقيق تلك الحالة، ففى قصته «الجمال الخالص» يبدع العادلى التالى: اجتاحتنى رغبة قوية فى كتابة الرسائل الغرامية بالطريقة القديمة، قلم حبر وبجواره زجاجة المحبرة، ورقة ملونة لها رائحة الزهور، رسالة لا يكتبها برنامج الوورد باختياراته الجاهزة، ورقة بريئة مزينة بقلوب حمراء وأجنحة عصافير، تحفظ مهارات الخطوط وتوتر الكلمات، ثم، ثم ماذا؟ أضعها فى مظروف وألصق فوقها بلعابى، طابع بريد عليه رأس ملكة أو سفينة أو ملك قديم يمسك ببندقية، وبعد ذلك أبحث عن صندوق بريد لأسقطها، ثم أنتظر الرد، أنتظر، يركب موتوسيكلا ويعلق فوق كتفه حقيبة لها سير وإبزيم، ينادى «بوسطة» فأتوتر. يستعين عمرو العادلى بأسلوب رشيق لا يترك للملل أى مساحة يباغت بها القارئ رغم طول القصص نسبيا، وما يضاف إلى هذا العنصر فى دفع الملل عن القارئ، هو أن قصص ضمن المجموعة ومنها «بائع السخانات»، تشعر فيها بالمؤلف وهو ينتصر لشخصية تكاد تشعر بوجودها حولك طوال الوقت، يدافع عن كل من يشعر بالتهميش، وينحاز إلى المغلوبين على أمرهم وهو ما تجسده نصوصه ببراعة تشعر معها بأن المكتوب هو جزء من سياق حقيقى وليس من وحى خيال الكاتب. وحد عمرو العادلى أبطال مجموعته القصصية لحماية أنفسهم من شبح الهزيمة والانسحاق أمام الظروف والتحديات بشكل عام، لا يشغله سؤال المصير لهؤلاء الأبطال، قدر ما يشغله قدرتهم على الاستمرارية والمواصلة، وهو ما تعززه على الدوام حالة التوحد بين القارئ والنص بسبب اللغة الجميلة التى تنقل رحلة الأبطال نحو دروب مختلفة يبحثون فيها عن ذاتهم الإنسانية المفقودة. حوارات واقعية وسجالات يتخللها معانى وانطباعات تدفقت وراء بعضها البعض فى القصة القصيرة الخاصة ب«التل»، والتى تظهر الفوارق فى النظرة والدوافع بين الأجيال المختلفة، والتى جاء فيها: أجروا غرفة بمنافعها وتكوموا فيها، كانوا يعرضون خدماتهم، على السكان بهدف الحصول على اللقمة؛ الأب ينقل عزال عروسة، أو يشيل الرمل والزلط، والابن الأوسط مع أخيه الأصغر يضربان شجر الزيتون بالعصى فى مزرعة قريبة، والابن الأكبر يجلب من الأسواق التوابل والليمون لمحل ساك عند آخر الشارع، كان الأب يتجول كثيرا فى دروب المدينة الجديدة بلا هدف، كان السكان يرونه رافعا رأسه لأعلى، كأنه يقرأ خريطة مرسومة فى قبة السماء. المجموعة القصصية الأحدث للكاتب عمرو العادلى، تبرهن على أن الأدب له وظيفة حيوية لا تقتصر على مجرد التسلية أو إشعال الجدل حول متى يصبح للأدب دور فاعل، حيث يمضى العادلى غير عابئ بالأمور الشكلية، لصالح أن يعكس للقارئ وهج تجاربه وما عايشه، ليسلط قدرا هائلا من الضوء على المشكلات والقضايا والهواجس والأحلام التى تنتاب الإنسان، باحثا لها عن معانى ودلائل تجعل من صفحات إبداعه الأدبى نصا له رسالة واضحة وبناءة ولا يشوبها التشويش. فى «بائع السخانات» يرسم العادلى نصوصه بتلقائية شديدة، تضعنا أمام نص له قدرة استثنائية على الربط بين خيال المؤلف وما تفرضه علينا وتيرة الحياة وقسوة الواقع، ونعاين ذلك فى «بائع السخانات» حيث يبدع العادلى النص التالى: «أنا لا أجيد الاختصار، ولستُ بارعا فى ربط الأفكار، لا يمكننى التحدث بانتظام عن أى شىء، ولا أعرف كيف نما كل هذا الكره فى نفس حلمى تجاهى، فقد قال لى ذات مشادة كلامية «أنت شخص عبيط وليس لديك أى خبرة بالحياة» كيف يقول ذلك وأنا موظف محترم؟ أرى أن طاعة رؤسائى واجب مقدس، أبتسم دائما ولا أنسى نصف انحناءة أمام الزبائن كما أوصانى أبى، أفعل باقتناع ما يجعلهم يعتقدون أنهم أذكى منى، وإلا فلماذا أنحنى إن لم يكونوا صنفا ممتازا من البشر؟». تجدر الإشارة إلى أن عمرو العادلى؛ هو كاتب وروائى مصرى، وعضو فى اتحاد كتّاب مصر، وصدر له خمس سلاسل قصصية، وديوان شعرى واحد بالعامية، بالإضافة إلى 8 روايات منها رواية «المصباح والزجاجة» التى ترشحت للقائمة الطويلة لجائزة الشيخ زايد للكتاب عن فئة أدب الطفل فى عام 2018، كما ترشحت روايته «اسمى فاطمة» لنفس الجائزة ضمن قسم الأدب فى عام 2019. حاز العادلى على العديد من الجوائز منها جائزة الدولة التشجيعية عن روايته «الزيارة» فى عام 2015، وفى نفس العام حصل على جائزة «ساويرس» الثقافية فرع كبار الأدباء عن مجموعته القصصية «حكاية يوسف إدريس». وصلت روايته «اسمى فاطمة» للقائمة الطويلة لجائزة الشيخ زايد فى الآداب عام 2019، ومنذ 2013 والعادلى ينظم الورش الأدبية للكتابة الإبداعية من ضمنها ورشة «دار إشراق» المجانية لتعليم الكتابة الإبداعية وورشة «تويا» وغيرها من الورش.