«لقد جاء النقاش بين جيلين، الأول انبهر بالحضارة الغربية وسار فى نهجها، والآخر سار فى طريق آخر وتقوقع على نفسه، أما النقاش فقد كان قلما مبهرا ولم ينشء مدرسة جديدة أو يخترع ألفاظا جديدة، وظل ناقدا عربيا غاص فى أعماق هذه الثقافة، لم يكن يساريا ولا يمينيا، ولا ليبراليا، ولكن كان إنسانا فى كل ما كتب» هكذا وصفه الشاعر الكبير فاروق جويدة. وهو وصف دقيق لكاتب كبير هو رجاء النقاش الذى تحل ذكرى ميلاده هذه الأيام. قال رجاء النقاش «إن الإنسان الذى يتصور أنه ليس له بديل لا يمكن الاستغناء عنه واهم، وإن الحياة مستمرة، وعلينا جميعا أن نكون فى غاية التواضع مهما يكن دورنا فى الحياة، لأن الحياة سوف تمضى بنا أو بغيرنا». لكن يبدو أن تلك المقولة التى بها الكثير من التواضع لا تليق مع اسم مثل رجاء النقاش حيث تفتقد الساحة الثقافية والصحفية مثله، فهو كان ناقدا أديبا فاعلا فى الحياة الصحفية ساهم فى صنع ما يسمى بالصحافة الثقافية، وجعل منها شيئا فريدا ومتنوعا فيه تناغم بديع، كما نقلها بشكلها الصحفى وقالبها الفنى من تقرير وتحقيق وملفات وحوارات إلى غنى التجربة الإنسانية الفريدة عبر كتباته فى مجلة الهلال و«الإذاعة والتلفزيون» و«الدوحة»، وغيرها. فعند الحديث عن علم من أعلام ثقافتنا العربية ونعنى بعلم إذ به أثر وتأثر بنتاج ثقافى جيد فأثمر فيه وأثمر منه، فكان إنسان بمعنى دلالى واضح ومثقف عميق الأثر إنه الصحفى والناقد والأديب المتميز رجاء النقاش (1934 2008) المعروف عنه أنه بدأ رحلته الصحفية فى مجلة روز اليوسف وهذا كان عام 1959 والحقيقة أنه قد بدأها قبل ذلك بنحو ثمانى سنوات فى مجلة الرسالة ومجلة الأداب البيروتية، وكان قد بدأ بكتابة المقالات الأدبية بشكل واسع بصحبة أسماء هى علم فى الصحافة العربية وفى التاريخ العربى الحديث وبجانب مؤرخين عظماء مثل قسطنطين زريق وغيره من الأسماء التى تميزت بها حلة مجلة الأداب. وقد تخرج فى جامعة القاهرة قسم اللغة العربية عام 1956 واشتغل بعدها محررا فى مجلة روز اليوسف المصرية بين عامى 1959 إلى غاية 1961 ثم محررا أدبيا فى جريدة أخبار اليوم وجريدة الأخبار بين الفترة الممتدة من عام 1961 حتى عام 1964، كما أنه كان رئيس تحرير للعديد من المجلات المعروفة منها مجلة الكواكب ومجلة الهلال كما تولى أيضا منصب رئيس تحرير ورئيس مجلس إدارة مجلة الإذاعة والتلفزيون. رجاء النقاش عمل بالصحافة فى سنوات الدراسة الجامعية الأولى، التأثر الواضح منذ النشأة يخبرنا لماذا اختار أديبنا الفذ طريق الصحافة، وهى النشأة التى غرس فيها والده حب الأدب واتجاهه للأدب فى بداية حياته، فكان للبيئة التى تبدأ من البيت دور رئيس وهام فى حياته، وأخذ عن أبيه حب الأدب والشعر والقراءة، لم يكن الهدف فى حياته الصحفية، بأن يشتغل بها، ولكن الحب المفردة الغنية عن التعريف ووقود الشغف شغله أكثر بالكتابة والأدب. فعمل بالصحافة وهو طالب ولم يعمل أى عمل آخر إلى أن وفاته المنية. الناقد الواعى صاحب الرؤية الثاقبة رجاء النقاش ناقد فذ يتقصى طريق الحياة لينبش فيها بنبضه الحى ويقظة أخلاقية عالية، وهذا ما تكشفه كتاباته عن الطيب صالح ومحمود درويش الذى قال فى واحدة من رسائله للنقاش: «عزيزى رجاء النقاش.. كنت وما زلت أخى الذى لم تلده أمى منذ جئت إلى مصر، أخذت بيدى وأدخلتنى إلى قلب القاهرة الإنسانى والثقافى.. وكنت من قبل قد ساعدت جناحى على الطيران التدريجى، فعرفت قراءك على وعلى زملائى القابعين خلف الأسوار.. عمقت إحساسنا بأننا لم نعد معزولين عن محيطنا العربى». العلاقات الإنسانية علاقة مركبة وخليط مثمر بالتجارب والخبرات، واحدة من تلك العلاقات صاحبة الأثر فى تاريخ المكتبة العربية علاقة النقاش بالأديب الكبير نجيب محفوظ، نقرأها فى أكثر من كتاب، منها كتابه «فى حب نجيب محفوظ» الصادر عن دار الشروق وهو ثمرة أدبية ونقدية لعلاقة حب وثيقة نشأت بين مؤلفه، الناقد المعروف رجاء النقاش وبين عميد الرواية العربية نجيب محفوظ، الحائز على جائزة نوبل سنة 1988، وقد استمرت هذه العلاقة بين المؤلف ونجيب محفوظ، مما أتاح لهذا الكتاب أن يكون مزيجا من الدراسة الأدبية وهو ما يميز النقاش من خلال رؤيته النقدية المميزة التى تفرد بها، وسيرة حياة نجيب محفوظ فى نفس الوقت كل ذلك فى أسلوب حر يعتمد على التنوع والوضوح والسهولة ويبتعد عن التعقيد والغموض، ومن هنا جاءت فصول الكتاب المختلفة نوعا من الطيران فى عالم نجيب محفوظ، كما تطير العصافير فوق أشجار حديقة كبيرة واسعة، فتنقل من غصن إلى غصن، دون أن يقيد أجنحتها أو يعيق حركتها عائق. وقد حمل الناقد رجاء النقاش على صفحات هذا الكتاب مصباحا مضيئا هو مصباح الحب، وأخذ يهتدى بنور هذا المصباح فى فهم نجيب محفوظ ودراسته، فالحب هو المفتاح الأساسى للفهم والمعرفة وكشف الأسرار فى الأدب والحياة. ويعود رجاء النقاش ليكتب لنا أو بالأحرى يحرر حياة وسيرة نجيب محفوظ فى صفحات من مذاكراته وأضواء جديدة على أدبه وحياته. رغم أن الكاتب الكبير «نجيب محفوظ» رفض بإصرار أن يكتب سيرته الذاتية، فقد نجح الناقد الكبير «رجاء النقاش» فى إقناعه بأن يحكيها له بدلا من كتابتها. وعلى مرّ 18 شهرًا من أغسطس 1991 روى محفوظ سيرة حياته للنقّاش مسلّطًا الضوء على جوانب عديدة من شخصيته كان أغلبها بمثابة مفاجآت لقرائه ومحبيه. هنا يدلى الكاتب الكبير برأيه فى كل صغيرة وكبيرة عن الأدب والسينما والسياسة فى مصر، فيصف مراحل طفولته وتجارب شبابه، ثم يتناول رواياته التى أثارت أزمات صحفية وسياسية، كما يدلى بآراء صريحة فى زعماء مصر منذ سعد زغلول إلى الآن، وكذا قصته مع جائزة نوبل وأثرها فى حياته. قبل أن يختتم «النقّاش»كتابه باستعراض محاولة اغتيال «محفوظ» وملابسات الحادث والقضية، هذا وغيره الكثير من الأسرار التى نشرت لأول مرة تجده فى الكتاب الذى يمثل سيرة ذاتية غير رسمية ل «نجيب محفوظ»، تحت عنوان «صفحات من مذكرات نجيب محفوظ» الصادر عن دار الشروق أيضا. «رجاء النقاش» (2008 1934) واحد من أهم النقاد فى العالم العربى، اكتشف العديد من المواهب والأسماء التى أصبحت أعلامًا فى الثقافة العربية مثل «محمود درويش» والطيب صالح وغيرهما. من أهم مؤلفاته: «محمود درويش، شاعر الأرض المحتلة»، «بين المعداوى وفدوى طوقان»، «فى حب نجيب محفوظ»، «فى أزمة الثقافة المصرية«، و«أدباء ومعاصرون».