كان الناقد والكاتب الصحفي رجاء النقاش (3 سبتمبر 1934 - 8 فبراير 2008)، دائم البحث عن الجديد والأفضل في عالم الأدب والإبداع ليقدمه إلى القارئ، كما كان لدي "النقاش" عناية بالكتابة عن الأدب العربي دون الوقوع في دائرة الإقليمية الضيقة، محاولا قدر استطاعته النهوض بالمشهد الأدبي العربي باختلاف أطيافه المتعددة، وقال عنه الشاعر العربي الكبير الراحل محمود درويش قبل وفاة "النقاش" بفترة قصيرة: "نحن مدينون لك، لأنك لم تكف عن التبشير النبيل بالمواهب الشابة، وعن تحديث الحساسية الشعرية، والدفاع عن الجديد الإبداعي في مناخ كان ممانعا للحداثة الشعرية". وهذا ما أكده عليه الشاعر الكبير أحمد عبد المعطي حجازي عندما قال في العديد من الكتابات أن :"رجاء النقاش هو آخر ناقد مصري وعربي يكتب للقارئ العام وينجح في عقد الصلة بين الأدب والصحافة. وهو في هذا وريث طبيعي للنقد المصري الحديث كما يمثله طه حسين، وعباس محمود العقاد، ومحمد مندور، ولويس عوض، ومحمود أمين العالم، وأمثالهم من النقاد المصريين والعرب الذين ساروا على خطى سانت بيف واندريه جيد وسواهما من الكتاب والنقاد الذين عقدوا هذه الصلة الحيوية بين قراء الصحف وقراء الكتب". وقد استمر النقاش يزيد الثقافة والأدب العربي بكتاباته المتنوعة، وبدراساته المتنوعة، وكان "النقاش" يساند المبدعين العرب والتبشير بهم، وبالإنجاز الأدبي لهم وهو ما حدث مع الروائي السوداني الكبير الطيب صالح، ويعد النقاش اول كاتب يلفت الاهتمام ويلقي الضوء علي هذا الكاتب والأديب المتميز. والمتابع لكتابات "النقاش" يجد لديه ميزة كبيرة علي الحكي والتفرد في سرد الأعمال وقد استهل كتابه " أبو القاسم الشابى شاعر الحب والثورة " الذي صدر عام 1965، بكلمة للأديب الروسي تشيكوف يقول فيها: "إن كان فى وسعك أن تحب، ففي وسعك أن تفعل أي شيء" بهذا المعنى الإنساني العميق، وجمع رجاء النقاش بين شغفه بالأدب وشغفه بالصحافة، ولذلك أقام مشروعه الثقافي منذ البداية على فكرة تتخذ من الصحافة وسيلة إلى نشر الذائقة الأدبية والفنية الحديثة على امتداد النصف الثاني من القرن العشرين، ساعده على ذلك أسلوبه السلس الذي ينتقي مفرداته بعناية فائقة، والذي يقول أعمق الأفكار بأبسط الكلمات. وقد حرص "النقاش" على أن يجعل قلمه وكتاباته تتحرك في فضاء حر، بعيدا عن التعقيدات المذهبية والعقائدية والحزبية، وكان يرى وحدة الثقافة العربية في مقدرتها على التنوع والتخطي لفواصل الجغرافيا وتعقيدات الايديولوجيا والتاريخ. وفي الوقت نفسه، مقدرتها على التفاعل الخلاق مع شتى تراثات وثقافات العالم من منطلق الندية والتكافؤ، والبحث عن المشترك الإنساني النبيل، وليس من منطلق التبعية والاستلاب للآخر. ويأتي مشروع رجاء النقاش نفسه بدخوله عش الدبابير حيث طالب بالإصلاح الديني وتحرير القرآن من قيود منها انعدام وجود تفسير عصري سهل للقرآن, ومنها الإصرار علي عدم كتابة مصحف بالخط العصري المعروف, والإصرار علي أن تكون كل المصاحف مكتوبة بالخط القديم مما يشكل عقبة رئيسية أمام كل الأجيال الجديدة التي تريد أن تقرأ فتجد في كتابته عناء شديدا قد يصرفها عن القراءة. وكتب "النقاش" كثيرا عن المرأة ومن أبرزها "نساء شكسبير" وصدر له أيضا كتاب "ملكة تبحث عن عريس" الذي كشف فيه النقاش عن الشروط الغريبة التي وضعتها حكومة انجلترا لزواج الملكة "فيكتوريا"، وأيضا في كتابه الشهير تحت عنوان "لغز أم كلثوم". الذي لم يكتف فيه بتحليل موهبتها الغنائية، بل امتدد إلي سيرتها الذاتية فيما طرحه من رؤى وأفكار، حول عالم أم كلثوم الإنساني البسيط، وكيف تحول إلى أسطورة شعبية فيما ينسج حوله من قصص ووقائع وحكايات لم يعرفها البعض ورغم كل هذا تحدث عن بساطة السيدة أم كلثوم وعن عبقريتها الفنية الفذة في الغناء. وكان للنقاش علاقة طيبة بأديب نوبل العالمي نجيب محفوظ وهذا كان واضحا في كتابه البديع والمتميز "في حب نجيب محفوظ". الذي قدم فيه للقارئ مقترحات نقدية ومعرفية بسيطة وخصبة لفهم والدخول إلي عالم نجيب محفوظ الروائي، والذي ينبني منه شخصياته الروائية التي امتعتنا جميعا وأيضا ما يزخر به هذا العالم من دلالات ورموز، تعكس تحولات الواقع المصري اجتماعيا وسياسيا وتاريخيا في فترة من أهم فترات مصر الحديثة ولأديب كبير بحجم وقيمة نجيب محفوظ. والمتابع الجيد لأعمال وكتابات "النقاش" يجده منحاز في مشروعه النقدي والأدبي إلى ثقافة الشعب في مقابل ثقافة النخبة، وكان يرى دائما أن التجديد مهما بلغ من مغامرة التجريب ينبغي أن يستمد طاقته وجديته من ينابيع وجذور هذه الثقافة البسيطة والهامة بخاصة في هذا الفضاء المهمش والمسكوت عنه، والذي لا يريد أحد الاقتراب منه وأنه بدون ذلك سيفقد الجديد مبرره الفني، وشرطه الموضوعي الذي يجب يكون الأصل والأساس في ذلك. النقاش والصحافة كانت بداية عمل رجاء النقاش بالصحافة منذ عام 1953. عندما اختاره زكريا الحجاوي ليعمل في جريدة كانت تحت الانشاء في ذلك الوقت وهي جريدة الجمهورية. كانت وظيفة متواضعة وهي التصحيح، وكان طالباً في الجامعة في تلك الفترة وبأشد الحاجة لمثل هذا العمل فقد كانت ظروفه الاقتصادية سيئة ولم تساعده على إكمال تعليمه الجامعي، وكان مرتبه بالشهر 10 جنيهات وهذه الجنيهات القليلة كان لها فضل على اكمال تعليمه الجامعي. بعد تخرجه من كلية الآداب سنة 1956 عمل في الاذاعة في قسم التمثيليات مع الاستاذ يوسف الحطاب، كان قارئاً للنصوص ثم انتقل للعمل مع الكاتب سعد الدين وهبة في المجلة التي كان يحررها وهي البوليس، انتقل بعدها للعمل في جريدة الجماهير التي كانت تصدر في دمشق في أيام الوحدة بين مصر وسوريا، ولم تستطع الجريدة بالاستمرار بعد توالي التقارير السرية الامنية ضدها وضد رئيس تحريرها جمال الاتاسي، وتوقفت عن الصدور المر الذي اضطره العودة الى مصر في ظروف بالغة الصعوبة، فلم يكن لديه مرتب يتعيش منه. وبعدها عمل في مجلة روز اليوسف عام 1959 ثم تولى بين عامي 1969 و1971 رئاسة تحرير "الهلال"، وانتقل عام 1971 رئيسا لتحرير مجلة "الاذاعة والتلفزيون"، ونشر فيها رواية "المرايا" لنجيب محفوظ مسلسلة قبل صدورها في كتاب. وسافر النقاش إلى قطر مديرا لتحرير صحيفة "الراية" ثم تولى رئاسة تحرير مجلة "الدوحة" منذ تأسيسها عام 1981 حتى إغلاقها عام 1986. وعاد النقاش إلى مصر كاتبا بمجلة "المصور" في نهاية ثمانينات القرن الماضي ثم تولى رئاسة تحرير مجلة "الكواكب" في التسعينات، وفي السنوات الأخيرة أصبح كاتبا متفرغا بصحيفة الأهرام. إصدارات النقاش لقد أثري الكاتب والناقد الراحل بالعديد من الإصدارات النقدية والأدبية الهامة التي منها "ثلاثون عاما مع الشعر والشعراء"، و"أبو القاسم الشابي.. شاعر الحب والثورة"، و"عباقرة ومجانين"، و"نساء شكسبير"، و"عباس العقاد بين اليمين واليسار"، "شخصيات وتجارب"، و"قصة روايتين"، والأخير دراسة نقدية فكرية مقارنة لروايتي "ذاكرة الجسد" للجزائرية أحلام مستغانمي، و"وليمة لأعشاب البحر" للسوري حيدر حيدر. ومن مؤلفاته في مجال النقد المسرحي "في أضواء المسرح"، و«مقعد صغير أمام الستار". وقد كتبت الكاتبة الكبيرة سناء البيسي مقالا في صحيفة الأهرام عن "النقاش" عقب وفاته مباشرة تحت عنوان " رجاء النقاش.. صياد اللؤلؤ" قال فيه "مكثت أغار منه لقربه الشديد من الأستاذ أحمد بهاء الدين رئيس تحرير أخبار اليوم وقتها, كان موقعه في الحجرة الملحقة لمكتب الأستاذ الذي يقوم إليه فجأة ليحادثه طويلا علي انفراد ثم يعود إلينا ليلقي علينا ملاحظاته المبتسرة كمجموعة.. ولم أمكث زمنا تحت مظلة غيرتي من رجاء النقاش بعدما اجتمعنا معا علي محبة بهاء وبعدما لمست فيه الحكاء الذي يجيد السرد ويمتلك ذاكرة تحتشد بحكايا الثقافة وطرائف المبدعين عبر الزمان, ويسيل منه عذب الكلام عن الذين يملؤون حياتنا أدبا وشعرا أمثال نجيب محفوظ ويوسف إدريس ونزار قباني وكامل الشناوي وزكي نجيب محمود.. وغيرهم.. وغدونا أصدقاء, فرجاء هو من يصادق ولا يعرف العداء. من يثق في نفسه فيمجد مواهب الآخر. من ينقد ولا يجرح. من كلامه الهمس وصوته رنين العقل. من يصيبك بالفرح كلما التقيت به ويترك لك أغلي الذكريات كلما غاب عنك". وتضيف البيسي في مقالها "من يقرأ بتجرد ويكتب بتجرد. من ينقد فتتجدد طاقة الكتابة لدي من كتب عنه. من له لغة مختلفة عن اللغة التي تتردد علي ألسنة المثقفين المتقعرين الذين يدججون كلماتهم بالشعارات. من أعتذر عن أي جمع قبل أن أعلم بقدومه إليه وعندما أعلم أكون في مقدمة كشف الانتظار.. من تلقاني ابتسامته فأحظي بتوقيع الشطارة والمهارة والنجاح والفلاح واستمرار الكفاح. من أسمعه وأقرأه فأشعر بطمأنينة الغريب العائد إلي وطنه. من لم يكف عن صيد اللآلئ الحقيقية وأبدا لم تخدعه الشباك. من يتحدث بنوع من الصدق أقرب ما يكون للتقوي. من يمتلئ بطاقة هائلة من التواضع أمام النص الذي يتحدث عنه ويكشف أسراره مستخدما لغة لا يتعاظم فيها ولا يستعرض ولا يقحم الأسماء الأجنبية ولا يختلس مكان الكاتب.. من يعشق التاريخ فأعشق تفانيه في كشف كنوزه لأصبح علي رأس طابور زيارة متاحفه الثرية وحدائقه الغناء". وتشير البيبسي إلي أنه "نمت بيننا أنا ورجاء زهور الوداد زمنا أدفع فيه عنه أي قول يخدش شفافية الصفاء, لكني عدت غصبا عني أغار ثانية منه بسبب اقترابه من نجيب محفوظ إلي حد الجلوس إليه لمدة عام1990 1991 مع خيوط الصباح ثلاث ساعات يوميا ليسجل معه ما يقرب من خمسين ساعة كاملة في مقهي علي بابا الصغير بميدان التحرير في وسط القاهرة ليخرج بعدها بكتابه المذهل الذي حشد فيه الأفكار والآراء الجريئة بل والمثيرة أحيانا التي سمعها من نجيب محفوظ أضواء جديدة علي أدبه وحياته ورغم اقترابي من صاحب نوبل سنينا مديدة علي الجانب الآخر حيث خصني وحدي بجميع أعماله منذ عام1990 حتي عام2006, وكان لي في مكتبه درج خاص بي, وأحتفظ بكنوز لا مثيل لها من خطاباته ومسوداته وأوراقه, إلا أنني من بعد أن أهداني رجاء النقاش كتابه المرجع الفريد عن محفوظ سامحته وعدت إلي موقعي منه شغوفة أبدا لحلو حديثه وعذوبة نقده وتجليات تواريخه واجتمعنا معا علي حب محفوظ".