«الموج الرملى» أو «البوصلة الأرضية» هى كلمة السر التى علمها له أبوه منذ أن بدأ العمل فى هذه المهنة وهو طفل صغير، والتى أدرك مع الوقت قدرتها السحرية على فتح الأبواب والدهاليز المغلقة لهذه الصحراء المترامية الأطراف. لايزال عم «صالح عبدالله جبل» المولود عام 1925 بقرية الدهوس بواحة الداخلة يحتفظ فى ذاكرته بكثير من الحكايات والأسرار عن الصحراء الغربية، التى تشكل 68% من إجمالى مساحة مصر، بعد أن جاب أرجاءها المختلفة كقصاص أثر ودليل مخضرم ورث المهنة أبا عن جد. «فى أى مكان فى الصحراء، لو عايز تشوف بحرى ولا قبلى، بص للموج الرملى، عشان كده ما توهتش فى الصحراء أبدا»، يقول عم صالح مشيرا إلى تمويجات الرمال التى تصنعها الرياح فى طريقها المعتاد من الشمال إلى الجنوب. هكذا استطاع ابن قبيلة الرشايدة المنحدرة من قبيلة بنى عبس، والتى استقرت فى منطقة الواحات الداخلة قبل مئات السنين، أن يقود السياح وبعثات الآثار إلى كنوز الصحراء الغربية؛ من بحر الرمال العظيم إلى هضبة الجلف الكبير والصحراء البيضاء وغيرها الكثير. فى بحر الرمال مثلا قاد صالح علماء الآثار الذين كان يبحثون عن بقايا جيش قمبيز الفارسى الذى ابتلعته الصحراء قبل آلاف السنين. أما فى «الجلف الكبير» فرافق السياح إلى الفوهات البركانية القديمة والوديان والكهوف ذات النقوش التى يقول العلماء إنها تعود للعصر الحجرى. لكن إلى جانب ما سبق أنقذ عم صالح أيضا كثيرين ممن «تاهو فى الصحراء»، وسافر بعيدا فى رحلات طويلة قادته إلى مدينتى طرابلس وبنى غازى فى ليبيا والخرطوم فى السوادن. بعد إعلان الرئيس الراحل جمال عبدالناصر نيته إنشاء محافظة الوادى الجديد أواخر عام 1958 لتكون بمثابة واد جديد مواز لوادى النيل، وعقب وصول أول قافلة للتعمير من سلاح المهندسين المصريين مساء الثالث من أكتوبر عام 1959 إلى المحافظة، تم تعيين عم صالح فى هيئة المساحة الجيولوجية. وبدأت مرحلة جديدة فى حياة قصاص الأثر المخضرم، قاد خلالها طلائع العلماء والباحثين المصريين فى دروب الصحراء الغربية لدراسة الثروات المعدنية الوفيرة التى تتمتع بها المحافظة، فى إطار الخطط التنمية الطموحة آنذاك. من بين هؤلاء العلماء يتذكر عم صالح جيدا العالم المصرى الشهير الدكتور فاروق الباز، ويستخرج من ألبوم صوره الفوتوغرافية صورة له معه يظهر فيها مبتسما إلى جانبه. عام 1990 خرج الرجل الذى كان شاهدا على مراحل شتى من عمر «الوادى الجديد» على المعاش وترك هيئة المساحة، التى يقول إنها «ما بقتش بتعين حد تانى»، وعاد للعمل لفترة فى إرشاد الوفود السياحية الأجنبية لمعالم وكنوز الصحراء الغربية. أما الآن فقد توقف عم صالح تقريبا عن العمل بعد أن بلغ الخامسة والثمانين من العمر، وتفرغ تماما لتدريب ابنه الأكبر أحمد ليحمل من جديد لواء هذه العائلة العريقة من أدلة الصحراء وقصاصى الأثر.