لم يعد المشروع النووى فى الضبعة مسألة فنية أو حتى اقتصادية، بل تجاوز ذلك ليضعنا أمام اختبار أخلاقى وحضارى بامتياز فماذا نحن فاعلون؟. الحاصل الآن أننا أمام سيرك من التصريحات والتصريحات المضادة، تمارس فيه الحكومة نوعا من الألعاب تضع فيه المجتمع بأسره داخل أرجوحة هائلة تصعد بالأحلام حتى تلامس القمر ثم تهوى بها إلى الأرض، حتى كاد يفقد صوابه وقدرته على تفسير ما يحدث. 28 عاما تقريبا مرت ولايزال مشروع الضبعة حبيس الأدراج فى انتظار قرار سياسى جرىء يحوله من فيلم كوميدى هابط إلى واقع محترم يشارك فى بنائه الجميع، وليس سرا أن البرنامج النووى المصرى كان على وشك الانطلاق عام 1984، لولا أنه توقف فجأة بعد حملة إعلامية ضد اختيار موقع الضبعة لأغراض فى نفس يعاقبة البيزنس فى ذلك الوقت، ثم جاءت كارثة تشيرنوبيل فى الاتحاد السوفييتى السابق لتجمد الحلم النووى المصرى الذى كان قد اكتمل منتظرا إشارة البدء. ومنذ ذلك التاريخ ونحن نتحرك فى المكان ذاته، خطوة للأمام وخطوتان للخلف، حتى عادت الروح فجأة للمشروع وجرت وقائع كثيرة واندلع صراع الإرادات مجددا بين حزبى «مصر الشاليه» و«مصر الطاقة» وتخيلنا أن الموضوع قد حسم بعد أن أجمعت دراسات الجدوى وتقارير الاستشاريين العالميين على أن الضبعة هى المكان الأنسب من كل الوجوه للبدء فى التنفيذ، ثم نشرت «الأهرام» فى مكان بارز فى صفحتها الأولى أن القرار صدر باختيار الضبعة لتنفيذ أول محطة نووية. غير أن القيامة قامت بعد ذلك وأسرع وزير الكهرباء بانفعال شديد لتكذيب اختيار الضبعة، ثم تراجع وأصدر تكذيبا للتكذيب على أساس أنه لم ينف أن الضبعة هى الموقع الأمثل لكنه نفى صدور القرار، ثم بدأ فاصل آخر من المراوغة وإطلاق قنابل الدخان وطرح موقع النجيلة كبديل للضبعة، وهو الأمر الذى عاد مصدر مسئول بوزارة الكهرباء لنفيه متمسكا بالضبعة. وأظن أن حلقات هذا الجدل البيزنطى السخيف نقلت الموضوع من كونه خلافا فنيا وعلميا إلى قضية أخلاقية مطلوب حسمها فورا بقرار سيادى من الرئيس مبارك شخصيا، لإنهاء هذه المهزلة التى لا تختلف فى تفاصيلها كثيرا عما جرى فى بيزنطة القديمة حين دخل علماؤها وحكامها فى صراع رهيب حول جنس الملائكة وهل هى ذكور أم إناث، ثم تطور النقاش العقيم ليختلف المتجادلون حول عدد الشياطين التى يمكن أن تقف على حبة شعير واحدة. وبينما الأمة كلها مشغولة ومنشغلة بهذه القضايا الكبرى، جاء محمد الفاتح ليغزو المدينة وتسقط القسطنطينية وما أدراك ما القسطنطينية فى ذلك الوقت، بينما قادة وحكماء الأمة يتلهون بالسؤال أيهما أسبق البيضة أم الدجاجة.. الضبعة أم النجيلة؟ إما أن تكون الضبعة مكانا لزراعة حلمنا النووى، أو تصبح مقبرة لدفن نفاياتنا الأخلاقية.