يبدو أن كل معلومات الموقف المصرى إزاء قطاع غزة تحتاج إلى مراجعة وتصويب، تشهد بذلك المقارنة بين خطابى الرئيس مبارك فى مناسبة عيد الشرطة هذا العام والعام الذى سبقه. 1 أدرى أن القصة كلها لم ترو ولم تتكشف حقائقها بعد، يسرى ذلك على فصل الحسم العسكرى الذى وصف بأنه «انقلاب» فى غزة. كما يسرى على فصل الحصار الذى أسهم فيه الأشقاء مع الأعداء. ولا يختلف الأمر مع فصل العدوان الإسرائيلى على القطاع. لكن فصلا آخر فى القصة يعنينى فى اللحظة الراهنة لأسباب ستعرفها بعد قليل يتعلق بالحدود والأنفاق التى اخترقتها، واصلة بين القطاع وسيناء، وهو الفصل الذى أثار لغطا واسعا فى وسائل الإعلام المصرية طوال الأشهر الأخيرة. ولأن ذلك اللغط لا يزال مستمرا، فإن الصورة النمطية التى استقرت فى الأذهان عن الأنفاق أنها مصدر لتهريب السلاح وتصدير الإرهاب إلى مصر، وأنها تمثل عدوانا على السيادة المصرية، بما يعد تهديدا للأمن القومى للبلد، وحول هذه المحاور نسجت تفاصيل كثيرة تحدثت عن متفجرات وأحزمة ناسفة، وتسلل عناصر قامت بعمليات إرهابية فى سيناء. وصلات بين شبكات التهريب فى غزة وبين شبكات دولية ممتدة عبر البحر الأحمر واصلة إلى اليمن والصومال.. إلى غير ذلك من الادعاءات التى استنفرت الرأى العام، وملأته بمشاعر القلق والسخط. هذه التعبئة علت نبرتها بشكل ملحوظ فى أعقاب النبأ الذى سربته صحيفة هاآرتس عن إقامة جدار فولاذى فى بطن الأرض على الحدود بين قطاع غزةوسيناء، وذكر التقرير معلومتين مهمتين، الأولى أن الهدف من إقامة ذلك الجدار الذى يفترض أن يدفن فى الأرض بعمق 18 مترا (تعادل ستة طوابق) هو قطع الطريق على الأنفاق والقضاء عليها تماما. أما الثانية فهى أن ألواح الصلب التى سيشكل منها الجدار تصنع فى الولاياتالمتحدة بواسطة إحدى الشركات المتخصصة التى أقامت جدارا مماثلا على الحدود بين الولاياتالمتحدة والمكسيك. المفاجأة أبرزتها صحيفة «الشروق» فى 13/12 الماضى حين نشرت الخبر تحت عنوان رئيسى تحدث عن: «جدار رفح العظيم تحت الأرض»، وهو ما أحدث قدرا غير قليل من الحيرة والبلبلة. وفى مواجهة هذه الحالة أعيد إنتاج الكلام عن خطورة الأنفاق ورياح الإرهاب التى تهب على مصر من خلالها، وضرورة تأمين الحدود لحماية الأمن القومى. 2 فى خضم التعبئة الإعلامية الضاغطة، لم ينتبه كثيرون إلى أن مسألة تهريب السلاح لم تكن شكوى مصرية يوما ما، ولكنها ظلت هاجسا إسرائيليا ملحا، وهى التى لم تكف عن إثارة الموضوع فى كل مناسبة، سواء مع مصر أو مع أصدقائها وحلفائها فى أوروبا والولاياتالمتحدة. حدث تطور مهم فى 16 يناير عام 2009، قبل أيام قليلة من مغادرة الرئيس بوش للبيت الأبيض، إذ وقعت الولاياتالمتحدة وإسرائيل اتفاقية لوقف تهريب السلاح إلى غزة، كان طرفاها كل من كوندوليزا رايس وتسيبى ليفنى وزيرتى خارجية البلدين، نص الاتفاقية موجود على شبكة الإنترنت، وقد ذكرت فى ديباجتها أن محاربة إمداد غزة بالسلاح والمتفجرات ليس أولوية لدى الولاياتالمتحدة وإسرائيل فحسب، ولكنها مهمة يجب أن تقوم بها القوى الإقليمية والعالمية أيضا، وأوردت بعد ذلك ستة قرارات تم الاتفاق عليها، بينها أن يعمل الشريكان مع الدول المجاورة (مصر هى الدولة العربية الوحيدة المجاورة للقطاع وليس المقصود إسرائيل بطبيعة الحال)، وبشكل متواز مع المجتمع الدولى لمنع إمداد السلاح للمنظمات «الإرهابية» التى تهدد أيا من الشريكين، نصت القرارات أيضا على أن تعمل الولاياتالمتحدة مع شركائها الإقليميين وحلف شمال الناتو لمواجهة مشكلة تهريب السلاح ونقله وشحنه لحماس. كما نصت على تعهد الولاياتالمتحدة بالعمل مع شركائها الإقليميين «مصر» على تأمين وظائف وأموال لأولئك الذين كانوا يعملون فى تهريب السلاح لحماس! الاتفاقية أغضبت مصر التى اعتبرتها تدخلا فى سيادتها على سيناء، وعبرت عن ذلك مختلف وسائل الإعلام. من ذلك أن الأهرام نشر على صفحته الأولى يوم 19/1/2009 تقريرا إخباريا كان من عناوينه أن: الاتفاق الأمنى الأمريكى الإسرائيلى يخالف أحكام معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية وأن: مصر ترفض محاولات التشكيك فى سيطرتها الكاملة على سيناء. وفى التقرير أن الاتفاق «أثار غضب مصر لأسباب عدة على رأسها أنه يبعث برسالة خبيثة تحاول بعض الأطراف الإقليمية فى مقدمتها إسرائيل ترويجها، وهى أن مصر ليست لها سيادة كاملة على أرض سيناء، ومياهها الإقليمية ومجالها الجوى، مما يسهل تهريب السلاح إلى حماس». 3 طغى العدوان على غزة «27/12 إلى 17/1» على أصداء الاتفاق الإسرائيلى الأمريكى. وبمضى الوقت هدأ الغضب المصرى إزاءه، حتى لم يعد يذكر الاتفاق بعد ذلك، فى حين أن خطى تنفيذه كانت مستمرة على الأرض دون إبطاء، وحين أقيم الاحتفال بعيد الشرطة فى يوم 4 فبراير 2009 ألقى الرئيس حسنى مبارك كلمة تبدو الآن مثيرة وبالغة الأهمية لأنها تعرضت لموضوع الأنفاق على نحو يتناقض تماما مع الانطباع السائد عنها الآن، كما انتقدت الاتفاق الأمريكى الإسرائيلى. نص الكلمة نشرتها كل الصحف القومية فى اليوم التالى (5/2)، كما أنه موجود حتى هذه اللحظة على موقع مصلحة الاستعلامات الإلكترونى. فى تلك الكلمة قال الرئيس مبارك ما نصه: «لقد روجت إسرائيل خلال العامين الماضيين لموضوع التهريب والأنفاق. وعاودت التركيز على هذا الموضوع بعد عدوانها على غزة وخلال اتصالاتنا لوقف إطلاق النار. وأقول إن تهريب البضائع هو نتيجة للحصار، وأن الاتفاق الإسرائيلى الأمريكى لمراقبة تهريب السلاح لا يلزمنا فى شىء. وأقول إننا كدولة مستقلة قادرون على تأمين حدودنا. ولن نقبل بأى وجود لمراقبين أجانب على الجانب المصرى من الحدود. ونتمسك بأن تبتعد أى ترتيبات إسرائيلية دولية عن أرض مصر وسمائها ومياهها الإقليمية». حين يدقق المرء فى هذا النص المتميز سيلاحظ على الفور ما يلى: * إن الشكوى من التهريب عبر الأنفاق إسرائيلية بالدرجة الأولى. * إن مصر على علم بوجود الأنفاق وتعتبر أن وجودها مبرر فى ظل استمرار الحصار المفروض على قطاع غزة. * إن مصر مدركة أن ما يتم تهريبه عبر الأنفاق هو البضائع، التى تلبى الاحتياجات المعيشية للمحاصرين. ولم يخطر على البال احتمال أن تكون بابا لتهريب السلاح إلى مصر. * إن الاتفاق الإسرائيلى الأمريكى على مراقبة تهريب السلاح لا يلزم مصر فى شىء. * إن مصر ترفض وجود أى مراقبين أجانب على أراضيها، وتتمسك بأن تبتعد أى ترتيبات إسرائيلية مستجدة عن حدودها. * إن مصر التى اعتبرت الأنفاق من الضرورات التى ترتبت على الحصار لم تر فى وجودها اعتداء على السيادة ولا انتهاكا للحدود، ولا تهديدا للأمن القومى. فى عيد الشرطة هذا العام (25/1/2010) ألقى الرئيس خطابا تطرق فيه إلى بعض جوانب الموضوع، بلغة ولهجة مغايرتين، حيث قال ما نصه: «إن مصر لا تقبل الضغوط أو الابتزاز، ولا تسمح بالفوضى على حدودها أو بالإرهاب والتخريب على أرضها.. إننا قد نصبر على حملات التشهير والتطاول ولكن ما لا نقبله ولن نقبله هو الاستهانة بحدودنا.. أو استباحة أرضنا.. أو استهداف جنودنا ومنشآتنا.. إن الإنشاءات والتحصينات على حدودنا الشرقية عمل من أعمال السيادة المصرية، لا نقبل أن ندخل فيه فى جدل مع أحد أيا كان. أو أن ينازعنا فيه أحد كائنا من كان. إنه حق مصر الدولة، بل وواجبها ومسئوليتها، وهو الحق المكفول لكل الدول فى السيطرة على حدودها وتأمينها وممارسة حقوق سيادتها تجاه العدو والصديق والشقيق على حد سواء». إذا جمعت الإشارات فى السياق إلى «الفوضى على الحدود» و«الاستهانة بها» و«استباحتها»، وإلى «عمليات الإرهاب والتخريب على أرض مصر»، وأضفت إلى ذلك مفردات الدفاع عن الجدار الفولاذى الذى وصف بأنه «إنشاءات وتحصينات من أعمال السيادة»، فإن حاصل الجميع سيوفر لك خلاصة مختلفة تماما عن تلك التى خرجت بها إثر قراءة النص السابق الذى ورد فى خطبة عام 2009. هذا التفاوت فى موقف ولغة الخطابين يثير الانتباه ويستدعى سؤالا كبيرا حول الأسباب التى أدت إلى الانتقال من حالة التفهم إلى حالة الاستفزاز والغضب التى عبر عنها الرئيس مبارك، وعكستها وسائل الإعلام المصرية على نحو روج للصورة النمطية السلبية التى سبقت الإشارة إليها. 4 فى تفسير هذا التحول فى الموقف هناك أربعة احتمالات. الأول يكون توتر العلاقات المتصاعد بين القاهرة وبين حماس قد ألقى بظلاله على المشهد. وهو التوتر الذى بدأ منذ حسمت حماس الموقف لصالحها فى قطاع غزة، واعتبرت مصر ذلك انقلابا على سياساتها، باعتبار أن أبومازن يعد حليفا طبيعيا لها، ولا يستبعد أن تكون القاهرة قد استشعرت غضبا خاصا حين رفضت قيادة حماس التوقيع على ورقة المصالحة المصرية، إضافة إلى أنها لابد أن تكون غير سعيدة لاصطفاف حماس إلى جانب معسكر الممانعة فى المنطقة المراد تصفيته نهائيا فى الظروف المواتية حاليا، إقليميا ودوليا. الاحتمال الثانى: أن تكون خطبة السيد حسن نصرالله فى مناسبة عاشوراء، التى ألقاها فى 28/12/2008 (أثناء العدوان الإسرائيلى على غزة) قد أحدثت نقطة تحول فى الموقف المصرى إزاء حزب الله أوصل الأمور إلى ماوصلت إليه. ذلك أن الأمين العام لحزب الله كان قد دعا الجيش والشعب فى مصر إلى مطالبة الرئيس مبارك بفتح معبر رفح أمام الفلسطينيين فى القطاع. وكانت إشارته إلى الجيش بمثابة تجاوز خط أحمر استفز القيادة المصرية. وهو ما أحدث رد فعل عنيف للغاية فى الدوائر السياسية والإعلامية المصرية. إذ إلى جانب حملة التجريح التى استهدفت «السيد» والحزب، فإن الأجهزة الأمنية استثمرت المناخ فى اتجاه آخر. فحولت قضية عضو حزب الله والمجموعة التى ألقى القبض عليها معه فى 18/11/2008 (قبل نحو أربعين يوما من بدء العدوان الإسرائيلى)، من اتهام بمحاولة إرسال أسلحة إلى غزة كما دلت التحريات والاعترافات الأولية، إلى مؤامرة للتخريب وإثارة الفوضى داخل مصر (القضية منظورة الآن أمام المحكمة المختصة). وفى ظل سيناريو المؤامرة تغيرت لغة الخطاب. وأصبح الحديث عن استباحة الحدود وعن الإرهاب والتخريب فى مصر من التداعيات المفهومة. الاحتمال الثالث أن مصر قد تعرضت لضغوط خارجية كانت فوق احتمالها لحسم مسألة الأنفاق وإحكام الحصار حول غزة. فاضطرت للقبول بإقامة الجدار الفولاذى مع القطاع، بإشراف وتمويل أمريكى. وتكتمت الأمر فى البداية، إلى أن تسرب الخبر من إسرائيل. فكان لابد لتبرير وتغطية الحدث أن تطلق الحملات الإعلامية التى روجت للمخاطر والتهديدات التى تمثلها الأنفاق للسيادة والأمن القومى المصرى. (الاتفاق الأمريكى الإسرائيلى ألمح إلى اتهام مصر بالتسامح فى تهريب السلاح لغزة وحفر الأنفاق، وشكك فى عدم قدرة مصر على ممارسة سيادتها على سيناء، وهدد بفرض عقوبات فى حالة عدم التعاون فى وقف التهريب). الاحتمال الرابع والأخير، ألا يكون هناك أساس للتفسيرات السابقة، وألا تكون هناك أى خلفية سياسية للتغير الذى حدث فى لغة الخطابين اللذين ألقاهما الرئيس مبارك، لأن الخطب كثيرا ما تتبنى أفكارا وانطباعات تناسب المقام. وأن خطبة عيد الشرطة فى عام 2009، التى ألقيت بعد وقف العدوان على غزة جاءت مناسبة للأجواء السائدة آنذاك. وعندما تعكرت الأجواء فى 2010 تمت صياغة خطبة مناسبة لذلك المقام والله أعلم.