تفتح الأزمة العالمية، بما تخلقه من ضغوط على جميع دول العالم، آفاقا جديدة للاستثمار تسمح بمعالجة قصور اجتماعى عالمى، كما أنها تحدد شكل جديد لخريطة التعاون على مستوى العالم. نيفين ندير تحاور كلاوس إيبرمان، رئيس مفوضية الاتحاد الأوروبى فى القاهرة حول الأزمة وأوربا ومصر. رئيس المفوضية الأوربية بمصر كلاوس إيبرمان: «الأزمة العالمية ليست أزمة مالية أو اقتصادية، بل هى فى الواقع أزمة اجتماعية من الطراز الأول»، هذا ما بدأ به كلامه، كلاوس إيبرمان، رئيس مفوضية الاتحاد الأوروبى فى مصر. فإيبرمان لا يعبأ أين نحن من الأزمة، أو متى ستنهى، بل كل ما يهمه، هو كيفية تدارك ومعالجة الجانب الاجتماعى منها. «الشبح الأكبر الذى يهدد العالم فى الوقت الراهن هو البطالة»، كما جاء على لسانه. دول العالم كله تواجه بالفعل تداعيات خطيرة على الجانب الاجتماعى منذ بداية الأزمة، فآلاف من العمال والموظفين تم تسريحهم من عملهم، وووفقا للإحصائيات الدولية، فقد العالم 62 مليون وظيفة منذ بداية الأزمة. «ومن هنا يظهر التحدى الحقيقى للأزمة، كيفية إنقاذ هؤلاء من فقد حياة كريمة» كما يقول إيبرمان مشيرا إلى أن الأزمة أفرزت فرصا حقيقية قد تم تجاهلها لفترة طويلة، فى جميع أنحاء العالم، وهذه الفرص هى «الأقدر»، كما يقول، فى الوقت الحالى على التقليل من أثار الأزمة على الجانب الاجتماعى. فعلى مدار السنوات بل القرون الماضية، تم التركيز على مجالات صناعية، لم تكن هى الأنسب،ِ وفقا لإيبرمان، لتحقيق التوازن بين النمو الصناعى والجانب الاجتماعى. والآن، جاءت الأزمة لتدفع بجميع دول العالم إلى مجالات أخرى مثل التكنولوجيا الحديثة، وتكنولوجيا المعلومات والطاقة البديلة، لما يوجد بها من إمكانيات أضخم وأقوى، ولما تتميز به فى نفس الوقت من قدرة على توليد فرص عمل عديدة. «فلقد تعرقلنا كثيرا فى هذه المجالات، وجاء الوقت لنعلم الآن، أنه فقط من خلال الاستثمار فيها، يمكننا (العالم) أن نصنع المستقبل. فهى تمثل مجال للاستثمار مضمون وطويل المدى كما أنها توفر فرص عمالة كبيرة»، كما يوضح إيبرمان مشيرا إلى ضرورة القيام ب«عملية تطهير» وإعادة هيكلة القطاعات الاستثمارية. أوروبا ومصر تنوعت محفظة الاستثمارات الأوروبية فى مصر منذ بدء عملية الإصلاح، فنجد فى مصر مناطق صناعية إيطالية، وألمانية، البنوك الفرنسة، مشاريع الغاز المسال، المترو، وغيرهم من المشاريع الاوروبية. فقد بلغ إجمالى الاستثمارات الأوروبية فى مصر عام 2007 2008، 4.1 مليار يورو، لتحتل المركز الثانى بعد الولاياتالمتحدة بإجمالى 4،8 مليار يورو. إلا أن الأزمة العالمية، وما تسببت فيه من ركود اقتصادى فى كبرى القوة الصناعية فى العالم، ستؤدى إلى «تثبيت هذا التعاون المتصاعد بين البلدين خلال الفترة القادمة بعد الأزمة العالمية»، كما جاء على لسان إيبرمان مشيرا إلى إنه فى الوقت الراهن «كل دولة ستبحث عن مصلحتها فى المقام الأول، ولذلك فإن دول العالم ستبحث عن مجالات التعاون التى تحقق لها المصلحة المشتركة». ولكنه يرى أن مصر تمتلك من الإمكانيات فى المجالات الثلاثة التى ذكرها، والتى تعد بالنسبة له، «قاطرة المستقبل الاقتصادى والاجتماعى معا»، ما يؤهلها لأن تجتذب مزيد من الاستثمارات الأجنبية. فهى، بما لديها من طاقة للرياح وطاقة شمسية مستديمة، تستطيع أن توفر80% من إجمالى احتياجات اوروبا من الطاقة والكهرباء، بالإضافة إلى الأيدى العاملة المصرية الرخيصة والمؤهلة للعمل فى هذه المجالات. كما أن مصر استطاعت ان تجعل من نفسها مركزا لصناعة تكنولوجيا المعلومات بموقعها الجغرافى المتوسط، والإطار القانونى الذى يسهل إنشاء الشركات العاملة فى هذا المجال، وغيرها من الإمكانيات العديدة فى هذا المجال، «ليس من مجال الصدفة إذن كون رئيس الوزراء المصرى، خبيرا فى مجال التكنولوجيا». شهد التبادل التجارى بين مصر وأوروبا أيضا تطورا ملحوظا منذ بداية برنامج الإصلاح، فحجمه قد زاد ب20% منذ 2004 لتصبح أوروبا أول شريك تجارى لمصر بنهاية 2008 بإجمالى حجم تجارة يصل إلى 20 مليار يورو، أى 35% من إجمالى حجم تجارة مصر مع العالم، ولكن شأن جميع الدول، سيتقلص هذا الميزان التجارى نتيجة الأزمة. ولذلك، كما يقول إيبرمان، فإن الزراعة والخدمات تعد الفرصة الوحيدة للحفاظ على متانة التبادل التجارى بين البلدين مشيرا إلى أن تجارة الخدمات بين مصر وأوروبا تمثل40% من حجم تجارة الخدمات الإجمالى لمصر من العالم. وكشف إيبرمان، «أنه فى خلال أسابيع وليس شهور من الآن، ستتوصل مصر وأوروبا إلى اتفاق نهائى فيما يتعلق بالملف الزراعى بين البلدين فى إطار الشراكة الأوروبية». وكان الملف الزراعى نقطة خلاف بين الجانبين حيث قدمت أوروبا قائمة طويلة من السلع المصرية المحظور دخولها إلى الاتحاد الأوروبى فى الوقت الذى فاجأتها مصر فيه باستعدادها التام لفتح السوق على مصراعيه للحاصلات الزراعية الأوروبية فى فبراير الماضى. الأمر الذى أحرج الاتحاد الأوروبى واضطره لمراجعة موقفه وتقليل القائمة الحساسة، ومنذ ذلك الحين المفاوضات معلقة. ليس من المهم إيجاد الأموال بل إيجاد رؤية لتوظيفه الدول الصناعية الكبرى كانت الأكثر عرضة للأزمة العالمية، ولكن الدول النامية، وبينها مصر، كانت أقل تأثرا بها، وكما قال الخبراء، ففى وقت الأزمة «الأرنب يجرى أسرع من الفيل». فمنذ بداية الأزمة، والحكومة المصرية تؤكد إنها مقصدا آمنا للاستثمارات، خاصة مع متانة النظام المالى الذى حد من أثار الأزمة عليها، ومع حزمة الإنقاذ التى أقرتها الحكومة المصرية. فقد قامت الحكومة بضخ 15 مليار جنيه كحزمة إنفاق لتنشيط الاقتصاد من خلال 11 مليار تم توجيهها للبنية الأساسية لتنشيط عملية الإنتاج وتوفير فرصا للعمل، ومليار إضافية لدعم الصادرات، وتخصيص الباقى لعمليات تمويل التجارة. إلا أنه كما يقول إيبرمان، مازال من المبكر الحكم على قدرة هذه الحزمة على إنعاش الاقتصاد المصرى أم لا، فليس من المهم «إيجاد أموال، بل الأهم هو وجود رؤية تمكننا من استثمار هذه الأموال فى المجالات التى تؤمن المستقبل». ولكن، وفقا لايبرمان فإن هذه الحزمة والتى يذهب الجزء الأكبر منها للبنية التحتية قد تساهم فى تحسين نقاط الضعف فى الاقتصاد المصرى، فإن مصر «بها شبكة نقل متدهورة على جميع المستويات، كما إن بها نقص وعى صحى وتعليمى ملحوظ يقلل من كفاءتها». ويبقى السؤال: هل مصر بالفعل مقصد آمن للاستثمارات الأوروبية فى الفترة القادمة؟ يقول إيبرمان ان المحافل الاقتصادية العالمية أشادت بالاصلاحات المصرية، ونتيجة لتسهيلها الإجراءات الخاصة بتأسيس الشركات، إلا أنها «قد اضطرت تحت وطأة الأزمة اتخاذ العديد من الإجراءات الحمائية والقرارات التى تعوق الاستثمار بها». وكانت مصر قد أصدرت عدة قرارات فى مايو السابق تقلل من الحوافز الاستثمارية للمصانع والشركات العاملة فى المناطق الحرة، كما إنها أوقفت تصدير الأرز والأسمنت، وفرضت رسوم وقائية على العديد من السلع مثل السكر، والصاج والغزول. وأدى ذلك لإثارة غضب كثير من رجال الأعمال والمستثمرين الأجانب، وانسحاب بعض الاستثمارات من البلد مثلما حدث فى مشروع مصفاة التكرير لمجموعة الخرافى الكويتية، إلا أن ذلك وفقا لإيبرمان» ليس نهاية المطاف وإن كان يجب أن تتداركه الدولة، والتى قد قطعت ثلاثة أربع طريق الإصلاح». المعونة الأوروبية مستمرة «التعاون مستمر بيننا وبين مصر، لمصلحتنا ولمصلحتها»، هكذا قال إيبرمان مشيرا إلى عدم نية الاتحاد الأوروبى تخفيض المعونة الأوروبية الموجهة إلى مصر فى الفترة القادمة. ومن أهم مجالات المعونة الأوروبية تأهيل الكوادر وتدريبها، تطوير بعض القطاعات الهامة مثل البنوك والنقل. كان البنك المركزى المصرى ونظيره الأوروبى قد وقعا فى نوفمبر الماضى، مذكرة تفاهم لتطوير قطاع الرقابة والإشراف بالمركزى المصرى لمدة 3 سنوات مقبلة للبدء فى تنفيذ المرحلة الثانية من برنامج المعونة الفنية لتطبيق أسس ومبادئ اتفاقية «بازل 2» التى تبدأ اعتبارا من أول يناير المقبل وتنتهى فى أواخر ديسمبر 2011 . وذلك من خلال منحة لا ترد من المفوضية الأوروبية بقيمة 3 ملايين يورو. كما وقعا كلا من البلدين اتفاقية منحة قدرها 80 مليون يورو فى إطار برنامج لتطوير قطاع النقل المصرى. «مصر كانت وستظل من أكثر دول الشرق الأوسط المستفيدة من المعونة الأوروبية، فهذا الإصلاح على الجانب الاجتماعى سيفيد مصر، ولكنه سيصب أيضا فى مصلحة الدول الأوروبية»، كما يقول إيبرمان. وكان التقرير الصادر عن إدارة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا للبنك الدولى، بعنوان «رسم ملامح المستقبل.. منظور طويل المدى لانتقال الأشخاص والوظائف فى منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا»، قد أشار إلى أن بحلول عام 2050 ستشهد قوة العمل فى أوروبا تراجعا بنحو 66 مليون شخص، وهو انخفاض بمعدل الُثلث تقريبا، بينما سيتجاوز نمو القوة العاملة فى منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا 40 مليونا، دون وجود فرص موازية لهؤلاء للعمل. إلا أن التقرير يكشف أن المناطق التى تتمتع بوفرة فى الأيدى العاملة، ومن بينها الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، ليست مهيأة بوضعها الحالى لتلبية الطلب العالمى على العمالة، الذى سيتزايد بشدة خلال السنوات القادمة، حيث ستتطلب فرص العمل مؤهلات أعلى على كافة المستويات المهنية، لا تتوافر فى معظم هذه الدول، مما يعوق تصدير العمالة واستقبال الأنشطة التى تسعى للاستفادة من العمالة الرخيصة نسبيا. «أوروبا ليست الأرض الموعودة، نحن سنحتاج بالفعل إلى عمالة بحلول عام 2050، نتيجة لانعدام وجود الشباب فى أوروبا، ولكن هذا لن يترك باب الهجرة إلى أوروبا مفتوحا على مصراعيه»، كما يقول إيبرمان. الاحتياطى الأجنبى والسياسة النقدية حائط صد للهجمات المضادة شهد الجنيه المصرى تراجعا ملحوظا منذ بداية الأزمة أمام الدولار الأمريكى، فقد تجاوز سعر الدولار 5،72 جنيه فى الأسبوع الماضى قبل أن يتدخل المركزى ويضخ ما يقرب من مليار دولار لينخفض سعر الدولار 7 قروش مرة واحدة، إلا أن كبرى بنوك الاستثمار فى مصر تتوقع أن يرتفع سعر الدولار ثانيا ليستقر ما بين 5،80 و6،10 جنيه بنهاية العام الحالى. فى الوقت نفسه، ارتفع اليورو بما يقرب من 5% أمام الجنيه الخميس الماضى، مما يضع علامة استفهام على مدى تأثير ذلك على الميزان التجارى الخاص بمصر. ولكن، رئيس المفوضية الأوروبية، يرى إن هذه الظاهرة ليست إلا مؤقتة، وسرعان ما سترتفع قيمة الجنيه المصرى مرة ثانية، خاصة أمام اليورو، لما تملكه مصر من احتياطى «قوى ومرتفع» للنقد الأجنبى وسياسة نقدية حاسمة «تصد أى نوع من الهجمات المضادة»، كما جاء على لسانه. «الدولار أمره مختلف وذلك يرجع إلى اعتماد التعاملات الأساسية كلها فى مصر عليه»، كما يقول إيبرمان نافيا أى تأثير سلبى لانخفاض أى منهما على الميزان التجارى للدولة. الحمائية ليست إلا تخبط وقتي اتخذت كثير من الدول الصناعية الكبرى منذ بداية الأزمة كثير من الإجراءات الحمائية، فنجد على سبيل المثال حكومة الرئيس أوباما الجديدة، أعلنت منذ توليها الحكومة عن شعار جديد وهو Buy american، بالإضافة إلى ذلك قامت العديد من الدول الأوروبية بدعم المزارعين الأوروبيين وأخيرا جاءت خطة باريس، والتى تقضى بمنح قرض ضخم لشركات تصنيع السيارات الفرنسية، والمطالبة بالمقابل بالتعهد بمعاملة تفضيلية للشركات والموردين الفرنسيين. الأمر الذى أثار قلق العالم بشأن مصير جولة الدوحة القادة وإمكانية نجاح مستقبل مفاوضات التجارة العالمية، إلا أن إيبرمان، لا يرى فى ذلك إلا مجرد تخبطات وقرارات مؤقتة ليس من الممكن تنفيذها، لأنه كما يقول، ليس من الصحيح أن «نقوم بحل الأزمة على حساب الآخرين». وكان ذلك، كما أوضح إيبرمان، محور اجتماع الربيع السنوى لقادة دول الاتحاد الأوروبى الذى انعقد امس وأمس الأول بالعاصمة البلجيكية بروكسل، حيث اتفق الجميع على إن التجارة الحرة، وإن لن تكون الحل للخروج من الأزمة، إلا أنها تسهم فى تنشيط الاقتصاد، وتقوم بتوفير فرص عمل، ولذلك فليس من الطبيعى القضاء عليها عن طريق اتخاذ اجراءات حمائية من شأنها «تحقيق رفاهية الفرد على أكتف الغالبية»، كما جاء على لسان إيبرمان.