مصر ترفض مقترح إسرائيلي بشأن معبر رفح    واشنطن عن دعوة القمة العربية نشر قوات دولية في الأراضي الفلسطينيّة المحتلة: قد تضر جهود هزيمة حماس    اسكواش - خماسي مصري في نصف نهائي بطولة العالم    أزمة بسبب حل لجنة مسابقات القسم الثاني.. واتحاد الكرة يرد    الوادى الجديد: استمرار رفع درجة الاستعداد جراء عواصف ترابية شديدة    بسبب البخاري والعلمانية، أول خلاف يظهر للعلن بين يوسف زيدان وإبراهيم عيسى وإسلام بحيري (فيديو)    تعرف على المستفيدون من العلاوات الخمسة الدفعة الجديدة 2024    استشهاد فلسطينية وإصابة آخرين جراء غارة للاحتلال على مدرسة في مخيم النصيرات    الأمير تركي بن طلال يرعى حفل تخريج 11 ألف طالب وطالبة من جامعة الملك خالد    تعرف على.. آخر تطورات الهدنة بين إسرائيل وحماس    حزب الله اللبناني يعلن استهداف فريقا فنيا للجيش الإسرائيلي في ثكنة راميم    خصم نصف المرتب لمدة 6 شهور لهذه الفئة من الموظفين    تراجع سعر الحديد الاستثماري وعز والأسمنت بسوق مواد البناء الجمعة 17 مايو 2024    جهاد جريشة: لا بد من محاسبة من تعاقد مع فيتور بيريرا    الرياضيون الأعلى دخلا في العالم 2024، رونالدو يتفوق على ميسي    محمد شريف: التعادل مع اتحاد جدة ليس سيئا    سعر السكر والزيت والسلع الأساسية بالأسواق في ختام الأسبوع الجمعة 17 مايو 2024    موعد عيد الاضحى 2024 الأردن.. وإليك عدد أيام إجازة العيد    كاميرا ممتازة وتصميم جذاب.. Oppo Find X7 Ultra    بنده السعودية.. أحدث عروض الهواتف المحمولة حتى 21 مايو 2024    تحذير شديد من الأرصاد الجوية بشأن الطقس اليوم الجمعة 17 مايو 2024    القبض على المتهم بقيادة دراجة نارية والقيام بحركات استعراضية بالدقهلية    عيار 21 الآن بالمصنعية.. سعر الذهب اليوم الجمعة 17-5-2024 «بيع وشراء» في مصر (التفاصيل)    حظك اليوم برج الحوت الجمعة 17-5-2024 على الصعيدين المهني والعاطفي    حظك اليوم برج الدلو الجمعة 17-5-2024 مهنيا وعاطفيا.. مفاجآت سعيدة    حظك اليوم برج الجدي الجمعة 17-5-2024 على الصعيدين المهني والعاطفي    ميلاد الزعيم.. سعيد صالح وعادل إمام ثنائي فني بدأ من المدرسة السعيدية    بعد عرضه في «كان» السينمائي.. ردود فعل متباينة لفيلم «Megalopolis»    «السياحة» تلزم شركات النقل بالسداد الإلكتروني في المنافذ    طريقة عمل بيكاتا بالشامبينيون: وصفة شهية لوجبة لذيذة    للحفاظ على مينا الأسنان.. تجنب تناول هذه الفواكه والعصائر    تنظم مستويات السكر وتدعم صحة العظام.. أبرز فوائد بذور البطيخ وطريقة تحميصها    نتيجة الصف الرابع الابتدائى الترم الثانى.. موعد وطريقة الحصول عليها    شاهد.. انطلاق فعاليات قمة رايز أب لريادة الأعمال بحضور وزيرة التخطيط    بعد مد فترة تلقي الطلبات، المستندات المطلوبة للتقديم في وظائف القطار الخفيف    "التعليم" تعقد ورشة عمل بعنوان "الذكاء الاصطناعي مدخلاً لإعادة هندسة منظومة التعليم"    الفيوم تستضيف الجلسة ال26 للجنة قطاع العلوم الأساسية على مستوى الجامعات    ضمن مسرح الطفل.. فرقة أحمد بهاء الدين ب أسيوط تقدم عرض «الفنان»    لا عملتها ولا بحبها ولن نقترب من الفكر الديني.. يوسف زيدان يكشف سر رفضه «مناظرة بحيري ورشدي»    لراحة القلب والبال.. أفضل دعاء في يوم الجمعة «اللّهم ارزقني الرضا وراحة البال»    إصابة 8 أشخاص في حادث تصادم سيارتين أعلى القوس الغربي بالجيزة    الدوري الإسباني.. برشلونة يتفوق على ألميريا في الشوط الأول    الإعلام الحكومي بغزة ينشر أسماء 100 أكاديمي فلسطيني قتلهم الاحتلال    توقيع الكشف الطبي على 1161 مواطنا في قافلة لصحة البحيرة    الاتحاد يتأهل إلى نهائي المربع الذهبي لكرة السلة    الناتو: القوات الروسية أثبتت قدرتها على التقدم بمرونة كبيرة    جامعة بني سويف من أفضل 400 جامعة عالميا.. والرابعة محليا    بالفيديو.. نصيحة هامة من الشيخ خالد الجندي إلى الأباء والأمهات    وزيرا التعليم والأوقاف يصلان مسجد السيدة نفيسة لتشييع جثمان وزير النقل السابق - صور    فانتازي يلا كورة.. الثلاثي الذهبي قبل الجولة الأخيرة في بريميرليج    أحلام الشباب في اقتناص ثروات الذكاء الاصطناعي تتحطم على صخرة الجامعات الحكومية    لجنة مركزية لمعاينة مسطح فضاء لإنهاء إجراءات بناء فرع جامعة الأزهر الجديد في برج العرب    15 يوما إجازة رسمية بأجر في شهر يونيو المقبل 2024.. (10 فئات محرومة منها)    وكيل الصحة بالقليوبية يتابع سير العمل بمستشفى القناطر الخيرية العام    هل يجوز الجمع بين الأضحية والعقيقة بنية واحدة؟.. الإفتاء توضح    بمشاركة مصر والسعودية.. 5 صور من التدريب البحري المشترك (الموج الأحمر- 7)    أعطيت أمي هدية ثمينة هل تحق لي بعد وفاتها؟.. أمين الفتوى يوضح    نتيجة الصف الرابع الابتدائي الترم الثاني 2024 عبر بوابة التعليم الأساسي (الموعد والرابط المباشر)    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الحياة الحلوة
نشر في الشروق الجديد يوم 23 - 11 - 2021

فى موقعى المعتاد على رصيف شارع رئيسى من شوارع روما الجميلة جلست أرشف من مشروبى المفضل وأدخن من السجائر نوعا عجل بعد سنين عديدة فى إصابتى بمكروه كثيرا ما يصيب مدمنى التدخين. لم يكن يخطر ببالى وأنا فى هذه السن المبكرة أنه يمكن أن أصاب بأى مكروه إلا بالحوادث لا قدر الله. غريبة هذه الأقدار، ففى هذه المدينة البديعة التى كلفت بالعمل فيها قدر لى أن أقرر إجراء عملية جراحية كبرى ثبت خلالها أن الأطباء أخطأوا التشخيص وقراءة صور الأشعة. فى النهاية، أى فى صباح اليوم التالى للجراحة التى ألقت نتائجها باللائمة على أطباء التشخيص فى كل من النمسا وإيطاليا اعترف الجراح الكبير بأن القديسة راعية هذا المشفى المسمى باسمها تدخلت فأنقذتنى قبل أن تمتد يد الجراح إلى معدتى تقطع منها أجزاء. قال وعيناه تفيضان بإيمان قوى وصادق، «القديسة تحبك. سبقتنى إلى موقع الألم والالتهاب وعندما وصلنا لم نجد أثرا لعلة أو أخرى».
تعودت قضاء ساعتين أو ثلاث مرتين كل أسبوع فى هذا المقهى الشهير (كافيه دى بارى Café de Paris) أشاهد نوعا مختلفا من بنى البشر يمشون على الرصيف ذاته الذى انتصبت فيه الشماسى واصطفت الموائد والمقاعد. المتمشون رجالا ونساء يتفرجون على الجالسين نساء ورجالا. كلهم بدون استثناء يرتدون أفخر ما فى خزائنهم من ملابس وأحذية. منتهى الأناقة كما اشتهرت بها إيطاليا فى مدن الأزياء فى ذلك الحين. العروض تتوالى على امتداد السهرة. مشروبى المفضل يتكرر هو نفسه بدون استئذانى معظم المرات وبهزة رأس وابتسامة من النادل خفيف الظل مرات أخرى. حدث كثيرا أن يمر شخص أعرفه أو يعرفنى فيتوقف ليتحدث فيما يعنينى أو لا يعنينى ويواصل سيره إن لم يجد الترحيب أو بوادر استعداد لتوجيه دعوة استضافة. دعونى أعترف أننى فى الحقيقة لم أكن أرحب بهذا النوع من الزيارات. أولا كانت أثمان المشروبات والمأكولات فى هذا المقهى على وجه الخصوص مبالغا فيها وثانيا كانت مرتباتنا أنا وزملائى متواضعة. كان البعض منا يخصص فائضا للإنفاق على نزهة نهاية الأسبوع على شاطئ «اوستيا» القريب من روما ويتجاهل متعة الجلوس على مقاهى هذا الشارع العتيد، وكان البعض الآخر ينفق جانبا من الفائض على سهراته بهذا المقهى والجانب الآخر ينفقه على زيارة سريعة للشاطئ فى يوم من أيام نهاية الأسبوع.
هذا التقتير فى الإنفاق لم يحرمنى من إقامة صداقات مع بعض زبائن هذا الشارع الذى اشتهر فى العالم الخارجى باسمه الإيطالى (فيا فينيتو Via Veneto). تعرفت من خلال هذا المقهى، بين من تعرفت، إلى شاب مصرى يحضر للدكتوراه فى فرع من فروع تاريخ القانون الرومانى وإلى سيدة فى عمر الشباب من اليمن تدرس باختيارها وعلى نفقتها الخاصة تطور الفنون الإيطالية وعلاقة هذه الفنون بأحوال إيطاليا الاجتماعية أى بتطور النظام الطبقى وأدوار الكنيسة. أحببت جدا هذه الصحبة ولم أبخل على استضافتهما عند زياراتهما منفردين أو مجتمعين إلى المقهى. بفضلهما، وأفضال غيرهما، اطلعت على الحقيقة الإيطالية شبه كاملة. إيطاليا التى عرفتها لا تختفى وراء مساحيق. تعرف أنها جميلة بطبيعتها بل خلابة. تسلب الألباب ولا تنتظر ثناء أو مديحا. تعرف أنها تستطيع أن تعيش فى بحبوحة لقرون عديدة أخرى فالرومان على امتداد الزمن تركوا آثارا وأبدعوا فنونا لا تفنى. يبقى الأمل معلقا بالبشر، سلالة هذا التاريخ الممتد، ليجددوا ويحفظوا ما تركه الأسلاف.
•••
سألتهما «تعيش إيطاليا هذه الأيام مرحلة أطلق عليها الغرب تعبير المعجزة الإيطالية نسبة إلى ما تحقق من إنجازات اقتصادية فى ظل ديموقراطية من نوع فريد، وفى ظل مذهب دينى متزمت. أريد منكما، أو من أحدكما على الأقل، شرحا تفصيليا لظاهرة «الحياة الحلوة» (لا دولشى فيتا La Dolce Vita) الظاهرة التى استحقت إعجاب وحسد شعوب ودول كثيرة. أعرف أنكما تقفان فى وسط هذه الظاهرة مستمتعين ومنبهرين. أعرف أيضا أنها انعكست عليكما فتقاربتما فى العلاقة حتى الاندماج عاطفيا.
«تسألانى من أين نبدأ. أجيب أن الفضول يطاردنى كلما وصلت إلى مسمعى قصة حب. هل أبالغ إذا قلت إن العواطف التى تتبادلانها تكشف عنها عيونكما. هذه النظرة لم تكن موجودة عندما قدمتكما قبل شهور قليلة الواحد إلى الأخرى. أستطيع أن أصف نظرتك يا صديقتى فى الأيام الأولى لك فى روما. نظرة حالم تحقق حلمه. رأيت فيها حب إنسانة لكل شىء هنا. رأيتك تعشقين الحجر، تفهمت هذا الحب. فالحجر هنا له تاريخ، تاريخ أقدم من تاريخ الوطن والدين والمواطن وملايين الإيطاليين. توقعت ذات يوم وأنت جالسة أمامى على نفس هذه المائدة تنظرين معى إلى المارات والمارين على الرصيف، توقعت أكثر من مرة أن تنهضى من مقعدك لتحضنى شابا أو آخر من بين المارين. كنت تسألين، أو فى الحقيقة تستشهدين برأيى، إن كان هذا الشاب أو ذاك يشبه الرجال فى التماثيل المنتشرة فى ميادين روما وبعض كنائسها. عرفتك فنانة تدرس الفن وتتفهم ما وراءه وتحفظ ما نسج حوله من حكايات. وعرفتك امرأة تلفت الأنظار بجمال تقاطيعها وسمرتها الأخاذة وشعرها الأسود المتوهج لمعانا يخطف الأفئدة، عرفتك امرأة كاملة لا تحفلين إلا بالرجل الكامل».
قاطعتنى بعد استئذان قائلة «صديقى الغالى، هل تصدقنى إن قلت لك إن لفحة من السحر زرعت الحب فى قلبى. عشت فى هذه المدينة فتاة فى حالة حب عام إن ينفع التعبير. لم أكن وحدى. وجدت الناس، كل الناس، فى حالة حب. المعلمة التى تعلمنى فلسفة الجمال انطلقت تعلمنا فلسفة الحب. اكتشفت، كما قالت، إن الحب والجمال وجهان لظاهرة واحدة تتجدد خلال القرون، هى الحياة الحلوة. مرحلة فى حياة أمة يزدهر فيها الحب ومعه تنتعش التجارة والصناعة وترتقى الفنون ويتطهر السياسيون ويحلو العيش وتصفو القلوب. قررت مديرة المعهد أن نقضى كل صباح ساعة نغنى. صدقنى وأنا أقول إننا اكتشفنا أن لنا أصواتا جميلة. أعدك بأن أسمعك صوتى يغنى لك من روائع الغناء الإيطالى الحديث والأوبرالى ما تختار. لن أخجل. صرت أغنى وأنا أشتغل بالبيت، وأنا أعد طعامى. وأنا أحتفى بأحبائى. اسأل الرجل الذى أحبه حبا جما، الرجل الجالس أمامك. اسأله كم غنينا معا. اسأله كيف اكتشف نفسه من جديد، هنا ومعى.
«صديقى، أجبتك. أسألك بدورى، ألم تشعر أنت نفسك بلفحة السحر هذه التى حدثتك عنها. أعرف أنها لفحتك. أعرف فأنا امرأة وأعرف لأنك شغوف باللحظة التى تعيشها. أعرف لأنك اخترتنى من بين ملايين النساء لأكون من المقربات».
•••
عدنا فالتقينا بعد عشرين عاما. جرى اللقاء فى عاصمة عربية. رفعت النادلة صحون العشاء. لم تمس الكئوس، تركتها فارغة ولم تهتم بإعادة ملئها ولم نهتم. سألتنى صديقتى «أما وقد رفعت الصحون وفرغت الكئوس أجد من حقى عليك أن أطلب منك النظر إلى وجهى، أسألك بعد أن لاحظت أنك لم تنظر إليه كما تعودت نظرتك الفاحصة الدافئة، أو كانت دافئة، أسألك الرأى فيه. تجاهلت السؤال وطال الصمت. أشحت بوجهى والعرق متصبب والألم جارح، بعد الصمت الطويل رحت أسأل عن أحوال عائلتها الممتدة، سألت عن جدودها وجداتها وعن الأعمام المقيمين فى القاهرة، لم أسأل عن حبيبها الذى كانت تغنى له ومعه فى روما فى زمن الحياة الحلوة...


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.