يحدد التعريف الكلاسيكى حالة «الدولة الفاشلة» بأنه غياب السيطرة الكاملة للدولة على أراضيها، وتراجع القدرة على الاستخدام المشروع لوسائل القوة، وتآكل السلطة الشرعية لصنع القرار، وعدم القدرة على توفير الخدمات العامة، وانتشار الفساد والجريمة، وتدهور الاقتصاد، وانفلات العنف الطائفى. تلك هى بعض مظاهر الدولة الفاشلة طبقا لعلماء الاجتماع والاقتصاد السياسى وعلى رأسهم العالم الألمانى الأشهر ماكس فيبر. ونظام الحكم فى مصر قد يعترف بوجود مشاكل لا تختلف عن المشاكل التى تواجهها دول أخرى لكنها لا تشكّل بأى حال عرضا من أعراض الدولة الفاشلة. ويرد علماء الاقتصاد والسياسة والاجتماع بحجج وأرقام تبين أن حالة الانهيار فى مصر تجعلها مؤهلة للانضمام إلى قائمة الدول الفاشلة التى تسودها الفوضى وانهيار القانون وانتهاك سلطة الدولة. الفارق بالطبع يكمن فى السؤال ما إذا كانت ما تعانى منه مصر هو من تأثيرات المشاكل أم من أعراض فشل الدولة، وإلى أين يمكن أن يؤدى دلك. فهناك كتيبة من رجال الاقتصاد والسياسة والعلوم الاجتماعية وخبراء القانون ونشطاء حقوق الإنسان، مع حزمة من التقارير الدولية والبيانات المحلية يرسمون صورة لا تدعو للزهو عما ألحقه نظام الحزب الواحد والسلطة المطلقة لحكم الفرد بحال مصر. وقائمة الأوجاع طويلة وممتدة، من بينها انهيار الخدمات الصحية والتعليمية والمواصلات وغلاء الأسعار الذى أدى إلى انخفاض مستوى المعيشة،وانتشار الرشوة والفساد والعمولات، والإثراء غير المشروع من نهب ثروات الشعب التى تؤتمن عليها الدولة، وزيادة معدلات الجريمة المنظمة والعنف فى الجرائم الفردية وانفجار العشوائيات. ويضيف خبراء الاقتصاد أن مصر تعانى من ارتفاع معدلات البطالة التى بلغت نسبتها 9.4 % قبل الأزمة المالية العالمية فى 2008، وازدياد الركود الاقتصادى وانخفاض معدلات الناتج المحلى الإجمالى، وتدهور قيمة الجنيه المصرى نتيجة العجز فى ميزان المدفوعات مما يؤدى إلى ارتفاع الأسعار وتكاليف المعيشة. كما تسجل الإحصائيات أن أكثر من 40 % من مجموع سكان مصر يعيشون دون المعدل العالمى للفقر (أفقر الدول). أما نشطاء حقوق الإنسان والمنظمات الحقوقية فيرون أن الحكومة قد قايضت الشعب على الحرية السياسية والديمقراطية برغيف الخبز الذى لا تنتجه حيث أن مصر تستورد تقريبا نصف ما تستهلكه من الغذاء. كما أن تقرير التنمية البشرية الذى يوثق أداء مصر خلال عام 2008 فيؤكد الدور الذى يمارسه الأمن فى إعاقة تسجيل وعمل العديد من الجمعيات الأهلية خاصة تلك المعنية بالديمقراطية وحقوق الإنسان، وأن هناك دورا مؤثرا لأجهزة الأمن فى مدى السماح بإصدار تصاريح العمل لها، «وهو دور غير قانونى يتم من وراء الستار» كما يقول التقرير. وفى التقرير العربى للتنمية البشرية هبط مركز مصر عن حالتها فى العام السابق.. وهذه الإحصائيات ليست مجرد أرقام صماء، فالناس يشعرون بوطأتها فى كل خطوة من خطوات حياتهم اليومية. ظاهرة فشل الدولة ليست جملة إنشائية يرددها المتشائمون والمتحذلقون ولكنها حقيقة ماثلة فى عدد من الدول تتحول فيها البلاد إلى حالة من الفوضى والعنف وغياب القانون وانهيار منظومة المجتمع والقيم وتصبح الدولة عاجزة عن السيطرة المشروعة على النظام العام. وفى هذه الظروف لا يأمن أى فرد على حياته أو على أسرته أو ممتلكاته أو مسكنه أو عشيرته، ويتحول عشرات الآلاف من الأفراد إلى لاجئين بلا موطن فى وطنهم أو فى أوطان أخرى، يتهدد حياتهم العنف والمجاعة. والحالة الماثلة التى لا يشار إليها كثيرا هى الصومال الدولة العضو فى الجامعة العربية التى تحولت إلى واحدة من أسوأ أمثلة الدولة الفاشلة منذ الإطاحة بالديكتاتور السابق محمد سياد برى فى عام 1991. منذ ذلك العهد تقوضت سلطة الدولة وتحولت الصومال إلى ساحة للحرب الأهلية، مقسمة بين أمراء الحرب وميليشيات القبائل المسلحة وراح ضحية الصراعات والقتال والمجاعة ما يزيد على مليون شخص من مواطنى الصومال، حتى إن منظمة «مراسلون بلا حدود» صنفتها فى عام 2008 على أنها «أخطر دولة فى العالم».. حكم سياد برى الصومال بقبضة عسكرية حديدية منذ أن استولى على الحكم بانقلاب عسكرى عام 1969، واتسم حكمه بالاعتقالات السياسية والتعذيب واغتيال المعارضين السياسيين والتمييز العرقى ضد العشائر. وبعد إصابته بجروح خطيرة فى حادث سيارة حاول برى ترتيب توريث الحكم لأبنه «مصلح» لضمان استمرار مكانة أسرته وعشيرته فى مركز القوة والحكم، لكن احتكار السلطة والقمع واعتناق «الاشتراكية العلمية» الماركسية كفلسفة للحكم فى البلاد أدوا إلى تفاقم الاضطرابات ونشوء ظاهرة أمراء الحرب والنزاع المسلح بين مختلف طوائف الشعب وعشائره مما زعزع سلطة الدولة وهيبة القانون وأدى إلى الإطاحة بسياد برى نفسه وفراره إلى نيجيريا كلاجئ عام 1991. والمفارقة أنه على الرغم من سقوط الصومال كدولة منذ 18عاما عصفت بها خلالها الحرب الأهلية، فإن رموز الدولة من حكومة إلى برلمان إلى رئيس للجمهورية لاتزال قائمة فى البلاد ولكنها لا تحكم شيئا. ومنذ أسابع قليلة حاول البرلمان الصومالى عقد اجتماع فى مقديشيو لكن قنابل الهاون أمطرت المبنى وأرغمت النواب على الفرار. اليمن حالة ماثلة من الدولة الفاشلة التى تعصف بها حرب أهلية دخلت شهرها السادس، وتكاد تتحول إلى حرب إقليمية أطرافها المملكة العربية السعودية، وبشكل غير رسمى إيران والولايات المتحدة، فى ظل رئيس حاكم بأدوات الديكتاتور الفرد منذ 31 عاما. وهذا يستدعى الذاكرة كيف تحول لبنان إلى دولة فاشلة خلال الحرب الأهلية من 1975حتى 1990قبل أن تتسلق حافة الهاوية مرة أخرى وتعود إلى حالة السلام الحذر. وحالة الدولة الفاشلة لا تنفجر فجأة دون مقدمات بل هى نتيجة تراكمات طويلة للمشاكل التى يفرزها الاحتقان السياسى وتدهور الظروف الاقتصادية والاجتماعية،وصعود طبقة نخبوية إلى قمة المجتمع والسلطة والنفوذ السياسى مع انحدار وتلاشى الطبقات الأخرى، مما يعمق مشاعر الظلم والتهميش الاجتماعى الذى يساهم فى تفجير الوضع العام. وقد يدعى البعض، خاصة أولئك الذين يتربعون هلى قمة السلطة، أن أعراض الفشل إنما ترجع إلى تراخى قبضة الدولة وتسامحها مع مظاهر المعارضة والتنظيمات السياسية المضادة. ولكن الثابت من أمثلة كثيرة لدول وقعت فى حالة الفشل أن الإفراط فى استخدام سلطة الدولة، وليس التفريط فى هيبتها، هو من الأسباب الرئيسية التى تسارع بدخول الدولة فى حالة الفشل والفوضى. فمن السهل على الدولة القمعية وأجهزتها ورموزها أن تسقط فى حالة من خداع النفس تتصور فيها أنها وحدها تملك الحكمة السياسية وتحتكر الحقيقة، وأن من يعارضها فى ذلك إنما هى «قلة مندسة» أو ديكور سياسى يعرف حدوده ولا يتخطاها، وأن دور الدولة ورموزها فى هذه الحالة هو أن تناور لتقمع، لا أن تحاور لتقنع. ومن بين حالات خداع النفس أيضا التظاهر إلى حد التصديق بوجود مؤسسات ديمقراطية حقيقية ومستقلة. ولكنها-مثل حالة الاتحاد الاشتراكى فى ستينيات القرن الماضى هياكل ورقية تنتظم بأمر سياسى وتنفض بأمر سياسى، وكأنها لم تكن. ومن بوادر انزلاق الدولة نحو حالة الفشل الاعتماد المكثف على القوة الأمنية والقوانين الاستثنائية والتهديد بها لإدارة أمورها والتعامل مع الأفراد والتنظيمات الشعبية التى لا تتوافق معها.. وهذا الأسلوب يعزز الشعور بالقمع والظلم الذى يسارع بالانفجار والانهيار. والشواهد كثيرة على أن القبضة الأمنية مهما بلغت من سطوة ودهاء لا يمكن أن تحمى النظام من الانهيار إذا دفع بالشعب إلى حافة اليأس، وإلا لكانت قد أنقذت حكم شاه إيران منذ ثلاثين عاما، أو نظام تشاوشيسكو فى رومانيا منذ عشرين عاما. ومن علامات خداع النفس نظرية أنه من الممكن مقايضة الشعب على حريته بلقمة العيش. ويستند المنظرون فى ذلك إلى تجربة الصين وماليزيا حيث يبدو أنهما قمعا سلطة القانون.. لكن الحقيقة أن الدولتين المذكورتين حاربتا قوى الفساد بأقسى القوانين والعقوبات ولم تتحالف معها لأهداف سياسية، ووظفت القوانين لإطلاق برنامج جاد وصارم للإصلاح لا لقمع الشعب، ثم إن برامج الإصلاح الجادة منذ 1975فى الصين، و1981فى ماليزيا أدت بالتدريج إلى الليبرالية السياسية التى تتطلبها المصالح والعلاقات الاقتصادية مع دول العالم الخارجى. ماليزيا طبقت القانون بصرامة يتساوى فيها الجميع، ولم تسمح بحلفاء النظام بالهروب من أحكام القضاء، أما الصين فقد قضت ونفت أخيرا أحكاما بالإعدام على ثلاثة أشخاص أدينوا بتهمة غش ألبان الأطفال بمساحيق صناعية أدت إلى وقوع وفيات. كما أن رئيس وزراء ماليزيا وصانع نهضتها اختار طواعية ألا يجدد الولاية لنفسه ليفسح الفرصة أمام جيل جديد من السياسيين.. ولم يسع أى من هؤلاء السياسيين إلى تعديل الدساتير والقوانين للاستمرار فى السلطة أو لفرض وريث لهم، حيث إنهم يحترمون الدساتير والقوانين ولو كان ذلك فى مناخ شمولى أو شبه شمولى.. فالثابت أن الالتفاف على القوانين والسيطرة على جميع السلطات مؤشر سيئ لمسار أى دولة وأى نظام. إن التفاف أى نظام للحكم على القوانين الدستورية الثابتة تحقيقا لأهداف غير دستورية أو لتفصيل الدستور لمصالح خاصة إنما يعكس خوف القائمين بالحكم على مصالحهم الشخصية، وليس على مصالح الشعب، وهو من المظاهر الماثلة على تآكل سلطة الدولة فلا يبق لها سوى القوة الأمنية القهرية التى لم يثبت التاريخ الحديث أنها أقوى الضمانات لاستقرار الدولة.