«فى ذروة انشغال الجميع بالاحتفال ببداية عام جديد، مرت علينا الذكرى رقم 111 على ميلاد أسطورة الغناء العربى، كوكب الشرق أم كلثوم، ولكنها مرت بخفوت صادم وفى صمت رهيب، اللهم إلا يوم خصصته الإذاعة احتفالا بها واستضافت فيه بعض الشخصيات للحديث عنها وأذاعت مجموعة من أغانيها، ومر أيضا هذا اليوم دون أن يسمع عنه أحد إلا القليل من المهتمين بالإذاعة فى القرن الجديد. والسؤال الآن هل ستصبح ذكرى أم كلثوم وباقى رموز الغناء المصرى من الأشياء التى تسقط بالتقادم؟! جميع الدول المتقدمة تنتظر من عام إلى آخر ذكرى رموزهم الفنية والثقافية لاحيائها بجميع الطرق.. فى الشوارع والميادين وعلى الملابس وطوابع البريد وشاشات التليفزيون. وعن التقصير فى حق العظام كانت سطور هذا التحقيق: الملحن الكبير حلمى بكر تحدث عن الأمر بغضب شديد وقال: أين وزارة الثقافة؟! أليست هى الجهة التى كان ينبغى أن تولى اهتماما أكبر بالاحتفال بذكرى كوكب الشرق، أو على الأقل كان يجب أن تقوم بتنبيه باقى المؤسسات لتلك الذكرى؟ ولكن كالعادة يتم التعامل مع كل الرموز بإهمال شديد وتجد سير العظماء تختفى يوما بعد آخر فى خضم البحث عن الزيت والأرز!! وضرب بكر مثلا بالشاعر العظيم مرسى جميل عزيز الذى لا يهتم أحد بإحياء ذكراه إلا ابنه الذى يتولى بنفسه هذه المهمة، على الرغم من أن شاعرا كهذا لابد أن توضع ذكراه على قمة الاهتمامات لما قدمه لعالم الغناء من علامات عظيمة. قرارات غير ملزمة وتطرق بكر أيضا إلى منطق «السبوبة» الذى يحكم الأمور الآن، وقال: كل يوم تسمع عن أجهزة جديدة تنشأ ومؤسسات تبنى، وعندما تبحث عن نشاط تلك الهيئات تجده صفرا، وكأنها بنيت من أجل أن يجلس رؤساؤها على كراسى ويجمعون الأموال، لا من أجل الاهتمام بالفن والفنانين. وأكد بكر أن دور وزارة الثقافة هو الحفاظ على هويتنا الغنائية والمسرحية والسينمائية. ويبدى بكر تعجبه من دور لجنة الغناء بالمجلس الأعلى للثقافة والتى كان عضوا بها عام 1971، قائلا: تلك اللجان تنعقد بشكل دورى ولكن عندما تسألها عن قراراتها يقولون لك إنها غير ملزمة لأنها قرارات استشارية، ويضيف: وأنا أتساءل لماذا تنعقد هذه اللجان إذن، هل فقط من أجل الحصول على القيمة المادية فى مقابل كل اجتماع؟! وتطرق بكر إلى ما فعلته إسرائيل بإطلاق اسم أغنية انت عمرى على أحد شوارع القدسالمحتلة فى الذكرى الأخيرة لوفاتها، وقال: إسرائيل لم تفعل ذلك من أجل عيون أم كلثوم أو الطرب المصرى، ولكن من أجل أن تعرينا وتبرز إهمالنا لرموزنا فى حين تهتم هى بهم. وعن شكل الاحتفال المناسب بقامة أم كلثوم أكد بكر أنه لابد ألا يقل عن أسبوع فى جميع وسائل الإعلام المرئية والمسموعة، وأن تخصص وزارة الثقافة جائزة باسمها تقف عليها لجنة محترمة ومحايدة وتعطى الجائزة لمن يستحق وإذا لم تجد تحجبها حتى وإذا استمر هذا الحجب لسنوات. وأكد بكر أيضا أننا لن نتقدم فى شىء طالما نضع أناسا فى غير موقعهم، وضرب مثلا بسقطة الإعلام فى أزمة الجزائر. وفى النهاية رأى بكر أن ما يحدث من إهمال أمر طبيعى فى زمن نستورد فيه الأفخاذ والصدور العارية من دول مجاورة وتكون هى المعيار للفن، وكلما زادت الأنوثة والعرى زاد هذا من قيمة الفنانة! تدليس إسرائيلى أما الإعلامى الكبير وجدى الحكيم فبدأ حديثه مشيدا بما فعلته الإذاعة المصرية بتخصيص يوم كامل على جميع شبكاتها لسيدة الغناء، ورأى السبب فى عدم انتشار صدى تلك الاحتفالية عند الجمهور فى إهمال بعض وسائل الإعلام لنشاط الإذاعة. ورأى الحكيم فى ذلك الاحتفال امتدادا لذاكرة الحنين لدى المواطن المصرى والتى لا توجد فى دول كثيرة، فلا تجد مثلا سوريا تحتفل بنجيب السراج، أو لبنان مثلا يحتفل بميلاد أى من مطربيه، وتجد هذا فى مصر فقط وبدليل انتشار ظاهرة أعمال السيرة الذاتية فى مسلسلات التليفزيون. ولكنه رأى التقصير من باقى الهيئات راجعا إلى أن تلك الفترة مكتظة بالمناسبات، ودار الأوبرا مثلا تضع جدول أعمالها قبل الأحداث بشهور وكان لابد أن يتذكروا تلك المناسبة، ولابد أن توضع بعد ذلك فى جدول الأعمال. ورأى أيضا أن الاحتفال بذكرى أم كلثوم يجب أن يتم بعد ذلك بشكل متكامل بين جميع الأجهزة الإعلامية والثقافية، حتى تمتد سير عظمائنا من جيل لآخر. لأن الانتماء ليس بخريطة على الحائط ولكن الانتماء هو الإحساس بقيمة البلد وهذا يتم من خلال حب رموز البلد. وعما فعلته إسرائيل قال: هذا تدليس إسرائيلى، لأن الدولة الرقيقة التى تهتم بفنان وتطلق اسم أغنياته على أحد شوارعها لا تقوم مطلقا بجرائم حربية على شعب أعزل أو تتهجم ببجاحة على المسجد الأقصى وغيره من رموز فلسطين، وتلك «الحركة» ما هى إلا تدليس ووسيلة لتهدئة بعض المشاعر فقط تجاه ما ترتكبه من جرائم. ألماظ حر ويقول الملحن الكبير محمد سلطان: الاحتفال فى الأوبرا بأم كلثوم يتم على مدار العام عن طريق الحفلات الخاصة باسمها والتى تعيد أغانيها بشكل دورى، وليس من مهام الأوبرا أن تنظم احتفاليات بميلاد الفنان، ولكن الأمر يقع بين يدى أجهزة الإعلام، فهى من تتحمل مسئولية ذلك وكان يجب أن تنظم احتفالية مناسبة لقيمة أم كلثوم. ورفض سلطان فكرة أن أم كلثوم أو غيرها ممكن أن تسقط بالتقادم، لأن الفنان مثل الألماظ الحر كلما مر عليه الزمن ازدادت قيمته. كما رأى أن أم كلثوم ليست فى حاجة لأن يقام لها احتفاليات أو غيرها من أشكال الاحتفال لأنها قيمة تفرض نفسها على مدار الأيام، ومهما فعل الإعلام لن يزيد من قيمتها أو ينقص فهى أكبر من كل ذلك. وكان يمكن أن يقام مثلا احتفال على مدار اليوم فى شتى وسائل الإعلام وأن يشارك الكتاب والأدباء فى إحياء تلك الذكرى سواء على مستوى الكتابات أو بالحديث لوسائل الإعلام. حروب ضد مصر أما محسن فاروق رئيس لجنة التراث بالمجلس الأعلى للثقافة، فاتسم حديثه بالغضب الشديد وقال: إن هذا التجاهل يمارس بشكل منظم مع جميع رموز الفن خصوصا الجيل الأول من الرواد الذين يعاملون بمهانة شديدة لا تليق بتاريخهم على الإطلاق، وهذا نابع من عدم فهم الأجهزة الفنية والإعلامية لفكر الدولة وهذا ما أدى لانحدار ثقافة المجتمع لدرجة «بحبك يا حمار». وقال إننا وصلنا لمرحلة لن يجدى فيها نفعا أى اصلاح لما أفسدته الإذاعة والتليفزيون المصرى اللذان يدعيان أنهما منارة للتنوير. لا أفهم هذا الاهتمام بقنوات فضائية لا تصدر إلا الفن الهابط. وإذا تحدثنا عن دار الأوبرا أقول «كل سنة وأنتم طيبون» الأوبرا أصبحت الآن فقط من أجل حفلات الباليه وأهملت جميع أشكال الغناء، وهذا يبرز الحرب التى تواجهها مصر الآن على جميع المستويات الفنية. وعن دور لجنة التراث فى مثل هذه المواقف كشف محسن أن عمل اللجنة متوقف منذ عام كامل نتيجة لقيام الرئيس الأسبق للعلاقات الخارجية بإيقاف عملها لسبب عجيب للغاية، وهو أن اللجنة كانت تعمل على مشروع ضخم لتوثيق التراث الموسيقى فى أطلس وهو مشروع تم العمل فيه لمدة عام وتوصلوا أثناء العمل لمواد تراثية وتسجيلات يرجع تاريخها إلى 130 عاما مضت، وهى تسجيلات غاية فى الندرة حيث إن أقدم تسجيل متعارف عليه كان منذ 100 عام فقط، وبعد كل هذا العمل لمدة عام أصدر رئيس اللجنة قرارا بوقف عملها وقال «إحنا مالنا، نعمل ليه أطلس للموسيقى العربية»!! ولم يعط حتى للمشتغلين أى حقوق بعد عام كامل من العمل! وكشف محسن أيضا عن إهمال خارق يكشف عنه نادى الأسطوانة العربية فى باريس، وهذا النادى يضم ما يمكن تخيله وما لا يمكن أيضا بصوت أم كلثوم، ويملك تسجيلات لها وهى فى الرابعة عشرة وكل هذا مسروق من مصر ولا يسأل عنه أحد. كما جاء لمصر عدد من الفرنسيين اشتروا أصول جميع المطربين المصريين العظام وتنتج الآن وتباع فى فرنسا دون أى حقوق لمصر. واجب وطنى أما الدكتور زين نصار أستاذ النقد الموسيقى بالمعهد العالى للنقد الفنى بأكاديمية الفنون بالقاهرة، وصاحب موسوعة الموسيقى والغناء فى مصر فى القرن العشرين فأكد أن الإذاعة تحرص على إحياء ذكرى أم كلثوم، وهو نفسه مكلف كل عام بحلقة عنها فى ذكرى وفاتها. ولكنه يرى أن الإذاعة لديها أكثر لتقدمه عن تلك العظيمة ولباقى الرواد أيضا، فمثلا يمكن الاستعانة بالتسجيلات واللقاءات للفنان والموجودة فى أرشيف الإذاعة. كما أكد أن التليفزيون مقصر جدا فى هذا الأمر، والذى يراه نصار واجبا وطنيا وليس أمرا قائما على مزاج رؤساء القنوات، فإحياء ذكرى الرموز واجب وليس اختيارا. كما يجب على دار الأوبرا أن تنظم احتفالية بجانب ما تقوم به من حفلات طوال العام، وتكون تلك الاحتفالية مصحوبة بدراسات جديدة عن الفنان المحتفل به وتتضمن تعريفا لاسهاماته وإسهامات من حوله حتى تكون توثيقا يفيد الأجيال الجديدة من طلبة الفنون والجمهور، كما يجب أيضا العودة لنظام الندوات التى كانت تقام فى السابق.