انقضى أسبوعان من التفاوض فى كوبنهاجن دون التوصل إلى اتفاق ملزم لمكافحة التغير المناخى لكى يحل محل بروتوكول كيوتو الذى تنتهى التزاماته عام 2012. وبدلا من إعلان فشل القمة توصلت مجموعة من الدول بقيادة الولاياتالمتحدة والصين والهند والبرازيل وجنوب أفريقيا إلى اتفاق غير ملزم يدعو جميع الدول متقدمة ونامية للعمل على عدم تجاوز الاحترار المناخى بأكثر من درجتين مئويتين، مع وعد باستثمار 30 مليار دولار لهذا الغرض حتى 2012. واذا صدقت الدول المتقدمة فى وعدها فسوف تظل الآليات المرنة التى أتاحها كيوتو صالحة لتنفيذ تلك الاستثمارات. فما تلك الآليات؟ تختلف التحديات التى تواجه الدول الصناعية فى مجال مكافحة مبتعثات الاحتباس الحرارى الناتجة من استهلاك الطاقة، عن نظائرها التى تواجه الدول النامية. فالدول المتقدمة استطاعت أن تحقق ما حققته من نمو اقتصادى بفضل ما اتيح لها من مصادر رخيصة من الوقود الحفرى، وخاصة النفط، خلال النصف الثانى من القرن الماضى (الشروق 15 و22/2/2009). وبالنظر لضخامة المستثمر فى المعدات الرأسمالية المستخدمة لذلك الوقود، فإن هذه الدول سوف تحتاج لوقت طويل حتى تتمكن من إحلال مصادر للطاقة ذات محتوى كربونى منخفض محل تلك ذات المحتوى الكربونى المرتفع، وحتى تتمكن أيضا من استبدال الأجهزة والمعدات اللازمة لذلك الإحلال. ومن هنا يتمثل التحدى الذى تواجهه الدول الصناعية المتقدمة فى استنباط سياسات وبرامج تستهدف حماية البيئة على المستوى العالمى، وتوفر لها فى نفس الوقت، المرونة الزمنية التى يتطلبها تعديل نظم الطاقة فيها بما يحقق تلك الأهداف. أما بالنسبة للدول النامية، فسوف يتطلب الأمر مواصلة كفاحها لتحقيق أهدافها التنموية، مع الاستفادة من تجارب الدول الصناعية فى مجال التنمية الاقتصادية. فالكثير مما يوجد الآن فى الدول الصناعية من تقنيات ومعدات رأسمالية مستهلكة للطاقة لايزال نظيره فى الدول النامية فى طور البناء. وفى ذلك ما يعتبر ميزة ينبغى استغلالها لكى تحسن الدول النامية الاختيار فيما تقتنيه من المعدات ومصادر الطاقة الأكثر مناسبة لتحقيق الأهداف التنموية والبيئية فى آن واحد. غير أن هذا الاتجاه قد يصطدم بحاجتها إلى الأموال اللازمة لاقتناء المعدات الحديثة، كما يصطدم بمشكلة النمو السكانى السريع الذى يحول دون الاعتماد على الأساليب ذات التقنيات المتقدمة والكثافة الرأسمالية العالية، ويفضل عليها الاعتماد على العمل البشرى لمكافحة مشكلة البطالة. ولعل مما يخفف من حدة المشكلة أن الدول النامية غير ملزمة بتحقيق أهداف بروتوكول كيوتو وأنها وعدت بمساندة الدول المتقدمة لتمكينها من المساهمة فى تلك الأهداف. وتختلف الدول الملزمة وفقا لبروتوكول كيوتو من حيث قدرتها على وضع وتنفيذ البرامج المحققة لتلك الالتزامات، وذلك تبعا لاختلاف كثافة الطاقة وكثافة الكربون فى كل منها (وهو ما نعالجه فى مقال مقبل)، وأيضا تبعا لمدى توفر البدائل غير الحفرية التى يمكن إحلالها محل الوقود الحفرى. وفد تضمن بروتوكول كيوتو قدرا من المرونة التى تساعد أعضاءه على الوفاء بالتزاماتهم، إذ أباح استخدام ثلاث آليات مرنة وهى: التبادل التجارى بين دول الملحق الأول «الملزمة»، ونظام المشروعات المشتركة، وآلية الإنماء النقى، وهو ما يساعد على خفض التكلفة المترتبة على تنفيذ التزامات البروتوكول. فالمادة 17 من البروتوكول تجيز التبادل التجارى فى المبتعثات Emission trading بين دول الملحق الأول وذلك من خلال إصدار تراخيص كربونية Carbon permits يتم تبادلها بين الدول. وقد أمكن وضع أول تطبيق عملى لهذه الرخصة فى أوروبا Pan-European emission trading عقب نفاذ بروتوكول كيوتو فى مستهل عام 2005. وبديهى أن حجم الطلب على هذا النوع من التراخيص سوف يعتمد على المقارنة بين تكلفة خفض المبتعثات محليا «Shadow price» فى الدولة الملتزمة بالخفض وبين السعر السائد فى الأسواق لتلك التراخيص والذى تسير الدراسات إلى أنه قد يبلغ نحو 50 دولارا لطن الكربون. كذلك تضمنت المادة 6 من البروتوكول نظام المشروعات المشتركة Joint implementation projects الذى يسمح بموجبه لدولة من دول الملحق الأول بالاستفادة مما يتم بصورة مشتركة فى دولة أخرى من دول الملحق الأول من مشروعات تحقق خفضا فى المبتعثات، أو امتصاص جانب منها كمشروعات التشجير والتخضير. فوفقا لنظام المشروعات المشتركة يمكن للدولة المستفيدة، فى مقابل ما تقدمه من دعم للدولة التى يتم على أرضها المشروع، وبالاتفاق فيما بينهما، أن تحصل على رخصة موثقة تعفيها من الالتزام بخفض مماثل فى مبتعثاتها. وفى تلك الحالة لا تستفيد الدولة التى تحقق المشروع على أرضها بالخفض الذى استفادت به الدولة التى حصلت على الترخيص. ويستخلص مما ورد بشأن نظام المشروعات المشتركة أنه يطبق على دول الملحق الأول وأن دول أوروبا الغربية هى المستفيد الأساسى من هذا النظام. ونظمت المادة 12 من البروتوكول آلية الإنماء النقى (Clean Development Mechanism CDM) التى يسمح بموجبها لدول الملحق الأول «الملزمة» بالحصول على رخصة خفض مبتعثات (Certified Emissions Reductions CERs) نتيجة لمشروع تقوم بتمويله ويتم فى دولة من خارج الملحق الأول Non-Annex I. وتعتبر تلك الآلية المنفذ الوحيد الذى تستطيع الدول النامية أن تحصل من خلاله على استثمارات لدعم جهودها فى مجال حماية البيئة وتخفيف الآثار الضارة للتغير المناخى مع أنها غير ملزمة بتنفيذ أهداف بروتوكول كيوتو. وقد شكل للإشراف على تنفيذ مشروعات CDM لجنة لتقييم المشروعات المقدمة للحصول على موافقتها قبل التنفيذ CDM Accreditation Panel CDM-AP. وتمارس اللجنة أعمالها بالتعاون مع لجنة المشروعات المشتركة التى سبق ذكرها. وقد قامت لجنة CDM فى أكتوبر 2005 باعتماد أول شهادة بقيمة 37 ألف CER «كل رخصة CER تعادل طنا مكافئا من ثانى أكسيد الكربون»، وذلك عن مشروعين للطاقة الكهرومائية أقيما فى هندوراس بتمويل إيطالى. ويتضمن تقرير اللجنة المقدم لمؤتمر كوبنهاجن عددا كبيرا من الدراسات والمقترحات التى تحتاج للمناقشة وإصدار توصيات بشأنها. ويتبين من ذلك التقرير أن عدد المشروعات التى قدمت لها حتى الآن (2009) بلغ 43 مشروعا موزعة جغرافيا بين 25 فى آسيا ومنطقة المحيط الهادى و16 فى أوروبا ومناطق أخرى، ومشروع واحد فى كل من أفريقيا وأمريكا اللاتينية. ومن المشروعات ال43 يوجد 16 مشروعا فى الدول خارج الملحق الأول Non-Annex I وهى دول نامية غير ملتزمة بتنفيذ كيوتو. وقد حصل على موافقة اللجنة حتى الآن 27 من المشروعات ال43. وهنا يثور السؤال: أليس فى مقدور مصر أن تجتذب قدرا من هذا التمويل الخارجى لمكافحة المبتعثات الملوثة ومنها السحابة السوداء، ومبتعثات الصناعات وخاصة الأسمنت، كما تشمل تلك المشروعات توليد الكهرباء بمصادر غير الوقود الحفرى مثل الطاقة الكهرومائية وطاقة الشمس والرياح وغيرها مما يتوفر لتنميتها فى مصر إمكانات كبيرة. بالإضافة إلى آليات المرونة التى تقدم شرحها، تستطيع أية مجموعة من دول الملحق الأول أن تقيم فيما بينها مظلة Umbrella تلتزم بموجبها أن تحقق هدفا جماعيا وفقا لأحكام البروتوكول. وبمقتضى ذلك النظام يتم الاتفاق بين المجموعة على توزيع الحصص بين الدول المشاركة فى المظلة، كما يتم بينها تبادل حقوق المبتعثات، بحيث يتحقق فى النهاية الهدف الجماعى للخفض الذى التزمت به المجموعة. وقد تباينت وجهات النظر فى أثناء مفاوضات مؤتمر الأعضاء الرابع COP4، وذلك فيما يتعلق بآلية الإنماء النقى، إذ أصر الاتحاد الأوروبى على ضرورة أن يبدأ الاعضاء بتنفيذ التزاماتهم على النطاق المحلى ثم تأتى الآلية المرنة كعنصر مكمل وليس كوسيلة للتهرب من الالتزام. ومن هذا المنطلق اقترح الاتحاد الأوروبى وضع حد أعلى للتبادل التجارى فى صكوك المبتعثات، كما أعلن أن أغلب مشروعاته لخفض المبتعثات سيتم تنفيذها محليا. كذلك تقدمت مجموعة الدول النامية المعروفة باسم ال77 ومعها الصين وساندها الاتحاد الأوروبى بتوصية مؤداها أن يقترن بالآليات المرنة فرض ضريبة على صكوك التجارة فى المبتعثات الكربونية. وفى المقابل، عارضت مجموعة دول المظلة، وأهمها الولاياتالمتحدة «التى تملصت من تنفيذ البروتوكول فى عهد بوش» واليابان وروسيا، فرض أية قيود على تلك التجارة، سواء اتخذت تلك القيود صورة ضرائب أو تحديد نسبة معينة لما يتم تبادله تجاريا.