زيارة الدكتور أحمد نظيف إلى أثيوبيا على رأس وفد ضم حشدا من الوزراء ورجال الأعمال خطوة مهمة فى الاتجاه الصحيح، تأخرت كثيرا عن موعدها. وأرجو أن تؤخذ على محمل الجد. ولكى تدرك أهمية هذا البلد، فيكفى أن تعلم أن 40 مليار متر مكعب من 55 مليارا هى حصة مصر من مياه النيل تأتى من الهضبة الأثيوبية. وأن الرئيس السادات هدد بإعلان الحرب على أثيوبيا يوما ما حين علم أنها بصدد بناء سد كبير على النيل الأزرق يمكن أن يؤثر على تلك الحصة. رغم الأهمية الاستراتيجية القصوى لأثيوبيا بالنسبة لمصر، فإنها لم تلق ما تستحقه من اهتمام طوال العقود الثلاثة الأخيرة، التى انتابت مصر خلالها غيبوبة باعدت بين مصر وبين محيطها العربى ومجالها الأفريقى. بل بلغ بنا الاستخفاف والإهمال حدا دفع مصر إلى إيفاد السفراء المغضوب عليهم إلى العواصم الأفريقية، الأمر الذى أهدر مصالح استراتيجية مهمة نحاول الآن تداركها. لذلك تمنيت فى لحظة الإفاقة التى نحن بصددها أن تؤخذ زيارة رئيس الوزراء إلى أثيوبيا على محمل الجد. بمعنى ألا تكون تعبيرا عن حماس مؤقت، وإنما تصبح خطوة لتصويب الرؤية الاسترايجية التى اختلت. إذا جاز لنا أن نتصارح فى هذا الصدد فإننى أخشى على هذا التوجه نحو دول حوض النيل من «النفس القصير» الذى تتسم به السياسة المصرية، الذى كثيرا ما يخضع المصالح الاستراتيجية للتوجيه وأحيانا المزاج السياسى. كأن يتراجع الاهتمام بأفريقيا مثلا ونخاصم السودان لعدة سنوات بسبب محاولة الاغتيال الفاشلة التى تعرض لها الرئيس مبارك فى عام 1994. لقد قرأت تصريحا منسوبا إلى الدكتور نظيف قال فيه إن العلاقات بين مصر ودول حوض النيل يجب أن تتعدى حدود الحديث عن اقتسام مياه النيل إلى الحديث عن التنمية الشاملة لدول الحوض، بما يحقق تحسين مستوى المعيشة لمواطنى هذه الدول (الأهرام 28/12) وهذا كلام صحيح تماما. لكن المؤسف أنه بدا «اكتشافا» وخبرا أبرزه الأهرام فى استعراضه لوقائع لقاء رئيس الوزراء مع 75 من رجال الأعمال والمستثمرين المصريين قبل إتمام الزيارة وأعنى أن فكرة المشاركة فى التنمية الشاملة لدول حوض النيل كان ينبغى أن تظل أحد المحاور الثابتة للاستراتيجية المصرية فى أفريقيا إن لم يكن تأمينا للعمق الاستراتيجى، فعلى الأقل للحفاظ على علاقة تبادل مصالح وثيقة مع دول حوض النيل، بهدف الحفاظ على احتياجات مصر من المياه التى أصبحت محل لغط فى السنوات الأخيرة. وليس سرا أن مصر لم تعاود اهتمامها بتلك الدول إلا بعدما تحول اللغط إلى دعوة جادة لإعادة النظر فى اتفاقيات توزيع المياه، الأمر الذى أثار قلق مصر وأزعجها، ومن ثم حاولت ترميم علاقاتها مع دول حوض النيل لإنقاذ ما يمكن إنقاذه. وهذا هو السياق الذى تحرك فيه الدكتور أحمد نظيف، وتحرك فيه أيضا وزراء ومسئولون مصريون آخرون خلال الفترة الأخيرة. ولا بأس فى ذلك. لأن تصحيح الخطأ أفضل من التمادى فيه، وأن تأتى متأخرا خير من ألا تأتى أبدا. لقد أنشأت مصر منذ عشر سنوات صندوقا للتعاون مع أفريقيا تابعا لوزارة الخارجية، لكن ميزانيته السنوية كانت فى حدود 400 مليون جنيه، وهو مبلغ بسيط نسبيا يعادل ميزانية مزرعة ورد واحدة تقيمها إسرائيل فى إحدى تلك الدول. فما بالك به لو وزع على دول حوض النيل كلها. الدور الذى تريد مصر أن تقوم به فى أثيوبيا ليس سهلا، لأن ثمة دولا أخرى نشطت هناك خلال السنوات الأخيرة، فى مقدمتها الصين والهند وتركيا. لكن إسرائيل سبقت الجميع، لأن مخطط انتشارها فى شرق أفريقيا وفى منطقة حوض النيل بالذات بدأ تنفيذه فى الخمسينيات. وكان هدف تلك الاستراتيجية هو إيجاد منفذ لها إلى البحر الأحمر والتمكن من منابع النيل ومحاصرة السودان للضغط على مصر فى نهاية المطاف. لذلك احتلت أثيوبيا موقعا أساسيا فى تلك الاستراتيجية، التى بمقتضاها اخترقت إسرائيل أعصاب الدولة. وأصبحت لها اليد الطولى فى الجيش والشرطة فضلا عن جهاز الإدارة. وهو ما يشكل تحديا آخر للجهد المصرى الذى يسعى لاستعادة الحضور فى أثيوبيا وتعويض ما فوتته سنوات الانكفاء والغيبوبة، والاعتماد على الفهلوة دون الاستراتيجية.