صورة كلب أبيض يستمع للموسيقى من بوق كبير، وتحت الصورة عبارة «صوت سيده»، كانت شعارا لأشهر ماركات الجرامافون، ذلك الصندوق العجيب ذو البوق الكبير الذى كان شائعا فى البيوت القديمة لسماع الموسيقى قبل اختراع أجهزة السمع الحديثة.. صندوق خشبى صغير محفور عليه بعناية نقوشا شرقية جميلة، ومطعم بقطع صغيرة من الصدف ومبطن بقطعة من القطيفة، كانت النساء تستخدمه لحفظ مجوهراتهن وأشيائهن الثمينة وكان يسمى «شكمجية».. صينية من الخشب أو المعدن فوقها فناجين وكنكة وعلبتان للبن والسكر وموقد صغير يعمل بالكحول كنا نقول عليه «سبرتاية».. أشياء اندثرت، وربما رآها بعضنا فى محال بيع التحف أو حتى سمع بها، لكن المؤكد أن بقاءها فى الوجدان والمخيلة بات مهددا فى ظل التطور الطبيعى للحياة، مما يعنى فقدان جزءٍ مهم من موروثنا المصرى. الفنان الكبير حلمى التونى أدرك فداحة غياب تلك الأشياء، وحاول أن يحفظ ذلك الموروث وإنعاشه فى عقول النشء، فجاءت سلسلة كتبه «كان زمان» التى أصدرتها دار الشروق الموجهة للأطفال غاية فى الأهمية والقيمة، فهى ليست مجرد كتب لتسلية الأطفال. ولكنها ثلاث مطبوعات هادفة، تحوى معلومات مفيدة، تنمى القدرات، والذوق الفنى عند الأطفال، خاصة أن حصص التربية الفنية فى التعليم الأساسى أصبحت مهملة وتعامل على أنها حصة من الدرجة الثانية أو بتعبير المدارس «حصة فاضية». كان أول هذه المجموعة كتاب «مناظر مصرية» الذى أعادت الشروق طبعها مؤخرا، ويضم مشاهد رسمها التونى من الشوارع المصرية القديمة مثل الأراجوز، و«الزقازيق» مرجيحة المولد، وبائع الدندرما، ثم تلاه كتاب «أبواب مصرية» الذى رصد فيه الفنان أبواب البيوت المصرية بأشكالها المختلفة فى محافظات مصرة من الإسكندرية والوجه البحرى إلى الصعيد والنوبة، والتى وجد فيها لوحات فنية تعبر عن ثقافة المجتمع الذى شيدت فيه، والتى قاربت هى الأخرى الاندثار. ثم أخيرا كتاب «بيت العز» الذى يحوى الأثاث والأدوات المنزلية، وقد روعى فى طبع هذه الكتب أن تكون من القطع الكبير، كى تسهل رؤية الرسومات وتلوينها، كما أنها مزودة بنبذة عن كل مشهد مرسوم ليتعرف عليه الطفل.. لعله يورثه لأولاده، ويظل باقيا. عندما سألت حلمى التونى عن حكاية هذه الكتب الثلاثة قال: فى الثمانينيات ذهبت إلى بيروت بعد إرغامى أنا وبعض المثقفين على عدم العمل فى مصر، وقابلت المهندس إبراهيم المعلم، وطلب منى عمل كتب موجهة للأطفال، وقتها كنت أسمع كثيرا عن أن هناك ميولا للتغريب تحدث فى البيوت المصرية، لدرجة أن بعض الآباء والأمهات كانوا يعنفون أبناءهم عندما يتحدثون بالعربية، وهو الأمر الذى تخطى حاليا حد التغريب. وأصبح يصاحبه قدر كبير من ازدراء الروح المصرية، لدرجة أن كلمة «بلدى» التى كانت تدل على الأصالة، أصبحت سبة، وإدانة لكل ما هو محلى، وتطورت الكلمة أكثر فأصبحت «بيئة» لتجمع بين المحلى والفقر، وهو بالمناسبة أمر أرى أنه يجب أن يكون مفزعا لمسئولى الثقافة، لأنها علامات على جفاف وموت الأمة، وهو أخطر ما نواجهه ثقافيا فى الوقت الحالى.. المهم أن هذا شجعنى، ودفعنى إلى البحث عن الأشياء التى من المفترض الاعتزاز بها فى موروثنا الثقافى والتى قاربت على الاختفاء من حياتنا لإحيائها، لأننى أرى أن الثقافة تتمثل فى طريقة الحياة، ووجدت أن الفن الشعبى الأصيل، يمثل مرجعية مهمة جدا، وعكفت على تأمله، فأنجزت كتاب مناظر مصرية، الذى يحتوى على صور للأدوات التى كنا نراها فى البيوت المصرية قديما مثل «الزقازيق»، و«الأراجوز»، ثم توالت السلسلة، وأصدرت كتاب «أبواب مصرية». لأننى اكتشفت أننا نمتلك ثروة فنية متمثلة فى أبواب البيوت فى محافظات مصر المختلفة من الصعيد إلى الوجه البحرى، نتجت عن تزاوج الثقافات المختلفة التى مرت على مصر عبر العصور، ولاحظت أن أشكال هذه الأبواب أيضا قاربت على الاختفاء. ثم جاء بعده كتاب «بيت العز» الذى يؤرخ للأدوات المنزلية التى تعد الآن من الفلكلور مثل «الشكمجية» أو «السبرتاية»، وكانت الكتب الثلاثة عند صدورها عبارة عن مجموعة من الرسومات التى تحتاج للتلوين فقط، ثم اقترحت السيدة أميرة أبو المجد مسئولة كتب الأطفال بدار «الشروق»، أن يتم إصدار الكتب مع وضع نبذة عن كل من الرسومات التى تحويها. وهل توقفت السلسلة عند هذا أم أن هناك احتمالات أن تتوالى كتب أخرى تنتهج نفس الأسلوب؟ بالفعل نستعد الآن لإصدار كتاب رابع فى السلسلة بعنوان «جدتى نفرتيتى» ليتناول الحياة اليومية عند «المصريين القدماء». ولنفس الأسباب تحاول الحفاظ على الأصالة المصرية فى لوحاتك التشكيلية رغم مواكبتها للحداثة الغربية؟ صحيح.. وأحيانا أشعر أننى أعيش بنفس الروح بين عالمين، عالم اللوحة التشكيلية، وعالم تصميم أغلفة الكتب، وإنتاج كتب الأطفال، وأتذكر أن أول معرض أقمته عام 1985، كان عاديا إلى حد ما، حيث طبقت فيه ما درسته فى كلية الفنون الجميلة، ولكن بعد ذلك حاولت أن يكون مشروعى مختلفا، وغلبت علىّ النشأة الصعيدية. وحبى للبساطة والحياة الشعبية، وهذا ينعكس على حياتى كلها، وأشار بحماس إلى قطعة أثاث عبارة عن «كومود» صغير بعدة أدراج، وملون برسوم مصرية، وقال: هذه القطعة من صنعى، ثم أشار إلى الأريكة الأرابيسك التى أجلس عليها بنفس الحماس قائلا: هذه «الكنبة» مثلا ليست من صنعى، ولكن أنا الذى اخترتها، ويكمل: فتجدنى على سبيل المثال أفضل أكل «الفول والطعمية» مثلا على أكلات كثيرة. إنجازك الكبير فى مجال الأغلفة وكتب الأطفال، والذى أخذ الكثير من الوقت والجهد، هل تراه مرضيا لشهوة الفنان التشكيلى داخلك، بمعنى أوضح هل ظلمت اللوحة التشكيلية لحساب الكتاب؟ بالتأكيد كانت هناك بعض المعاناة، ولكننى كنت ضمن بعض الفنانين القليلين الذين استطاعوا التغلب على هذه المسألة التى اضطر لها الفنانون التشكيليون عندما ابتعد الجمهور عن الفن التشكيلى، وأصبحت اللوحة غريبة فى وطنها. فحاولت أنا والبعض الذهاب إلى الجمهور، وكانت وسيلة مواصلتنا له هى الفن المطبوع الموجود فى الصحف والمجلات، وازدهر الرسم فى الصحافة، وهناك فنانون كبار عملوا فى الصحافة وقتها، مثل آدم حنين، والمشكلة الحقيقية فى هذا الأمر، هى أن بعض الفنانين تأثروا بالعمل فى الصحافة سلبا، لأن الرسم فى الصحافة يحتاج قدرا من المباشرة. وعدم الرمزية، وهو الأمر غير المحبب فى اللوحة. بعض الفنانين انتبهوا لهذه المشكلة وتداركوها، وأعتقد أننى نجحت فى نقل الإيجابيات الموجودة فى اللوحة إلى الرسم الصحفى، وأغلفة الكتب، من خلال عدم الاعتماد الكلى على الجرافيك والكمبيوتر، والاهتمام بوجود لوحة مرسومة على غلاف الكتاب، والرسم لمجلات تهتم باللوحة. المعروف أن فترة الستينيات التى نشأت فيها، كانت بها نهضة كبيرة فى مختلف أنواع الفنون، ولكن فى الفن التشكيلى تحديدا بدأ هذا التألق فى التراجع من أواخر السبعينيات إلى منتصف التسعينيات، لماذا حدث هذا التراجع؟ فترة الستينيات شهدت الاهتمام بنوع جديد من الطبقات، التى رأى النظام أنها سوف تسانده، وبدأ الفن يأخذ منحى جديدا، ويهتم بالقضايا الوطنية، وفى نفس الوقت كانت حركة الفن التشكيلى فى أوروبا تشهد فورة من نفس النوع، ونشأت المدارس الحديثة للفن، وتزاوجت الروح الوطنية مع التجربة الحداثية، وصاحب هذه الصحوة فى مصر وجود ثروت عكاشة كوزير للثقافة، واهتمامه بالفنون الشعبية، وتعريب الأوبرا، وتشجيع المصريين على دخولها، ثم انتهت هذه الصحوة بوفاة جمال عبدالناصر، ومجىء السادات بفكر جديد. وأتذكر أننى كنت ضمن مائة وأربعة مثقفين لا يحبهم السادات، مما منعنى من العمل داخل مصر، وكان هذا سبب سفرى لبيروت كما ذكرت من قبل، وبدأت أسمع من هناك عن العصر الجديد الذى سمى بالانفتاح، والأموال المتدفقة بعد زيادة سعر البترول، وكثرة رجال الأعمال، فى هذا الوقت انتشرت ظاهرة جديدة، وهى ظاهرة معارض الفن التشكيلى الموجودة فى المطاعم الفخمة، مثل قاعة «أرابيسك»، وكان رجال الأعمال يذهبون إلى تلك المعارض ويشترون اللوحات ليس لاهتمامهم بالفنون، ولكن على سبيل الهدية مثلا إلى عميل أو شريك أجنبى، لأن رجل الأعمال المصرى فى ذلك الوقت رغم عدم معرفته بالثقافة أو ارتباطه بها، كان يعلم ما تمثله هذه الأشياء بالنسبة للمواطن الأجنبى. عندما تدخل منزل حلمى التونى، تقابلك لوحاته المعلقة على جدران المكان، وكأنك داخل معرض للفن التشكيلى، وهذا أمر طبيعى، لكنك لو نظرت إلى يمين باب شقته، ستنتبه لأن أحد هذه الجدران لا تغطيه اللوحات. ولكن تحتله مكتبة معقولة الحجم، حرص صاحبها على جمع الكتب كيفيا وليس كميا. مما جعلنى أسأله عن أهمية العلاقة بين العاملين بالفنون المختلفة وباقى مجالات الثقافة، حيث نرى أديبا ليست له علاقة بالفن التشكيلى، أو السينما، أو الموسيقى، والعكس، فقال: هذه النقطة تؤرقنى باستمرار، فمن غير الصحيح على الإطلاق، أن يكون هناك انقطاع للصلة بين المبدعين فى مجالات الفن المختلفة وبين باقى المجالات التى لا يعملون بها مباشرة، فقديما كانت كل الحركات المحترمة قائمة على هذه العلاقة المهمة. وربما تتفاجئ لو عرفت أن حركة السيريالية، المعروفة، والمرتبطة بالفن التشكيلى، لم يكن مؤسسوها فقط من التشكيليين، بل كان معهم مجموعة كبيرة من الكتاب، ومعظم الأسماء الكبيرة فى عالم الفن والثقافة كانت على صلة وطيدة بالفنون الأخرى، فكنت تجد على سبيل المثال لويس عوض يسافر خصيصا كمراسل صحفى من أجل حضور معارض فن تشكيلى للكتابة عنها. وكان يوسف إدريس يأتى لافتتاح معارضى، وأتصور أن هذه القطيعة، تعد علامة مهمة على الضعف الحضارى والثقافى، وعلى المستوى الشخصى تعد هذه العلاقة بالنسبة لى علاقة اعتمادية، بمعنى أننى عندما أفلس، وتفرغ روحى، أدعم نفسى، وأملأها بالقراءة. فأسترد عافيتى وصحتى الفنية، لدرجة أننى أحاول ألا أقرأ سوى الكتابات المهمة حتى لا تتلوث رؤيتى التشكيلية، لأننى عندما أقرأ نصا جيدا، تتزاحم الصور أمامى، ويكون هناك إلهام جيد. وأرى أن هناك مشكلة أكبر من ذلك فى علاقة المواطن العادى بالفنون، وأقصد هنا المواطن ميسور الحال، وليس بالطبع المواطن الفقير. ما سبب هذه المشكلة؟ قديما كانت الدولة تقوم بالأدوار الكبرى، وعندما تراجع دور الدولة، وقع على عاتق الشعب إدارة شئونه بنفسه، سواء كانت شئونا اقتصادية أو ثقافية، فأصبحت الأمور تدار بعشوائية.. سأقص عليك قصة ربما توضح ما أقصده «فى 1920، ذهب الأمير يوسف كمال منشئ كلية الفنون الجميلة، ومعه الحاشية وبعض الباشوات، ليفتتح أول معرض للفن التشكيلى فى مصر. وكان أغلب فنانى هذا المعرض من الأجانب، فكان الأمير يمر على اللوحة ويقول لمن يقف بجواره من الباشوات : ياباشا هذه اللوحة جميلة، فيخرج الباشا كارته الشخصى ويضعه على اللوحة ويحجزها كى يشتريها، واستمر هكذا إلى أن اشترت معية الأمير كل اللوحات بالمعرض» قل لى الآن من من «باشوات» اليوم لديه اهتمامات فى هذا الشأن، لو نظرت فلن تجد، ولو اهتم أحدهم، سيكون من باب المجاملة لصديق ليس أكثر. هل تقصد أنه لا يوجد مشروع ثقافى لدى الدولة حاليا؟ يقال إنه يوجد مشروع ثقافى، يتمثل فى المهرجانات، وترميم الآثار، وافتتاح المتاحف الجديدة، لكننى عندما أنظر إلى النتائج، فلا أجد شيئا، وهناك سؤال يجب طرحه لتقييم هذا المشروع.. هل تقدم هذا الشعب خطوة واحدة فى طريق التقدم، أم إنه يرجع إلى الخلف؟ المفترض أننا لا نقيس نجاح المشروع الثقافى للدولة بتشييد وترميم المبانى، بل نقيسه بانعكاسه على المواطن، فعندما يكون حال المواطن أفضل، نستطيع القول إن هناك مشروعا حقيقيا.