يبدو أن رياح شتاء بارد تهبّ على القضية الفلسطينية وتنذر بتجميدها لفترة غير معلومة. الفلسطينيون مازالوا منقسمين متحاربين، وجهود الوساطة التى ترعاها القاهرة للمصالحة بين غزةورام الله قد تجاوزت شهرها العاشر بدون نتيجة، ومحمود عباس الذى انتهت فترة رئاسته للسلطة الفلسطينية منذ يناير الماضى أعلن أخيرا أنه لن يرشح نفسه فى الانتخابات المقبلة، فيما يعتقد أنها ورقة ضغط على القوى المؤثرة التى لا يبدو أنها تأثرت كثيرا، واللاعبين الإقليميين العرب، خاصة من يوصفون بالكبار، اكتفوا بالتصريحات التى لا تقدم ولا تؤخر شيئا بعد أن وضعوا بيضهم فى سلة الرئيس أوباما وانتظروا، وأوباما حائر بين أفغانستان وباكستان وإيران والتحديات الداخلية ومنها قضية التأمين الصحى الشامل للأمريكيين. وأما الشرق الأوسط وقضيته المركزية الفلسطينية فقد أصبح مشهدا جانبيا عبثيا يمرح فيه المبعوثون الأمريكيون ميتشل وكلينتون جيئة وذهابا لإعطاء انطباع وأهم بأن المياه الراكدة تتحرك.. اللاعب الوحيد، الواثق والفاعل، هو إسرائيل التى تتحرك بحرية كاملة فى ملاعبة جميع الأطراف، وهى تتقدم بجدية فى مصادرة الأراضى الفلسطينية والتوسع فى بناء المستوطنات بلا حدود، بينما توهم الجميع وتشغلهم بمقترحات زائفة عن السلام والدولة الفلسطينية المؤقتة. ومع الاجتراء الإسرائيلى، والإفلاس العربى والتقاعس الأمريكى، والفراغ السياسى بدأت تركيا وإيران بالتحالف مع سوريا فى التحرك على الهوامش لصياغة معادلة جديدة يحتاجها الشرق الأوسط. أطلقت إسرائيل بالونى اختبار جديدين موجهين بالأساس إلى الولاياتالمتحدة وإدارة أوباما، وبالتبعية إلى الدول العربية والفلسطينيين، لقياس ردود الفعل ومدى حرية الحركة المتاحة لها. الأولى هى قرار إنشاء 900 وحدة سكنية جديدة فى مستوطنة «جيلو» جنوبى القدس، والبدء فى إزالة منازل فلسطينية فى شرق القدس، ورفضت دعوات دولية لوقف الاستيطان. والبالون الثانى الموازى للاختبار الأول هو إطلاق خطة شيمون بيريز إيهود باراك للسلام بإنشاء دولة فلسطينية مؤقتة على جزء من الضفة الغربية (مع استبعاد غزة الملتهبة) ترسيخا للحجة الإسرائيلية بأن التقدم فى عملية السلام المزعومة لا يتعارض مع ابتلاع الأرض وإقامة المستوطنات الإسرائيلية عليها. وجاءت ردود الفعل ضعيفة كما هو متوقع. أوباما الذى يخوض معارك على عدة جبهات اعتبر قرار التوسع الاستيطانى «مثيرا للإحباط» على حد تعبير المتحدث باسمه. والسلطة الفلسطينية رفضت مشروع السلام المزيف، والدول العربية لم تعر المناورة اهتماما على اعتبار أنها تضليل فج لا حيلة لها فيه. وهذه هى ردود الفعل الضعيفة التى أرادتها إسرائيل حتى تمضى قدما فى سياستها الاستيطانية التوسعية. مع توقيع معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية عام1979سادت قناعة بأن الأرض مقابل السلام أصبح مبدأ قابلا للتحقيق. لكن عقيدة السلام والأمن الإسرائيلية كانت ترى أن التمسك بالأرض بالقوة هو أفضل ضمان للسلام. وقد ظهر ذلك جليا عقب توقيع المعاهدة إذ استأنفت حكومة مناحم بيجين بناء المستوطنات فى الضفة الغربية، وعندما احتج الرئيس السادات بأن اتفاقات كامب ديفيد تنص على وقف بناء المستوطنات أثناء مفاوضات الحكم الذاتى للفلسطينيين ادعى بيجن كذبا أن اتفاق وقف بناء المستوطنات يسرى فقط على فترة التفاوض بين مصر وإسرائيل، وهو ما نفاه الرئيس الأمريكى الأسبق جيمى كارتر وسيط المفاوضات الذى أيد رواية الرئيس السادات، بناء على الخطابات التفسيرية المتبادلة بينه وبين كل من السادات وبيجين. نجحت إسرائيل فى التحديات التى اختبرت بها إرادة أوباما بشأن عملية السلام، وقلبت المائدة على الفلسطينيين والعرب حتى أن إدارة أوباما الآن لا تجد غضاضة فى مواصلة المفاوضات مع استمرار بناء المستوطنات (المفاوضات دون شروط مسبقة على حد تعبير كلينتون)، وهو ما يرفضه الفلسطينيون وحتى محمود عباس. ومواجهة إسرائيل بهذا الشرط تحول فى أيدى هيلارى كلينتون إلى ضغط على الدول العربية لإظهار مزيد من المرونة وطمأنة إسرائيل بتطبيع العلاقات معها، ثم الضغط على فلسطينيى رام الله لاستئناف التفاوض فى جميع الأحوال باعتبار أنهم لا يملكون خيارا آخر. وكما طوّعت إسرائيل إدارة أوباما لتساير أطماعها فإنها نجحت أيضا فى إجراء مناورات عسكرية مشتركة مع الولاياتالمتحدة فى منتصف شهر نوفمبر لدعم موقفها، وردت إيران بمناورات ضخمة لاختبار قدراتها الدفاعية ضد هجوم محتمل على منشآتها النووية. كذلك اختطفت إسرائيل السفينة «فرانكوب» المسجلة فى أنتجوا فى عرض البحر الأبيض المتوسط واقتادتها إلى ميناء حيفا بشبهة لم تستطع إثباتها وهى أنها تحمل أسلحة من إيران لحزب الله، ثم فرضت نفسها كشريكة لدول حلف الأطلنطى فى تفتيش البحار بحثا عن الأسلحة التى يمكن أن تهرّب إلى لبنان تغطية لموقفها من اختطاف السفينة «فرانكوب» على شاكلة قراصنة الصومال، كل ذلك دون مراجعة من إدارة أوباما وتحت مظلة مواجهة الخطر الإيرانى. إسرائيل تريد أن تؤكد الانطباع بأنها تستطيع أن تلعب وحدها فى الساحة دون أن تخشى أحدا. ويبدو أن إدارة أوباما لمشاكل الشرق الأوسط إما قد حادت عن طريق خطابه الواعد فى القاهرة فى مايو الماضى أو أنها استسلمت للضغوط الإسرائيلية المضادة فى غفلة من العمل العربى المؤثر. وبسبب تراخى الدور العربى أو الترتيب المختلط للأوراق فإن إسرائيل دفعت بالملف النووى الإيرانى إلى قمة الأولويات فى المنطقة ودفنت الملف العربى الفلسطينى فى أسفل كومة الملفات، وهى الآن تقود جوقة أوروبية عربية إسرائيلية أمريكية تعزف لحنا نشازا عن التهديد النووى الإيرانى وعن «تدخل إيران فى شئون المنطقة». وهكذا انقلبت الآية: منذ 55 عاما كنا نرفض الطعم الأمريكى المدفوع من جون فوستر دالاس وزير الخارجية الأمريكى الأسبق للانضمام إلى أحلاف مضادة للخطر الشيوعى لأن جمال عبدالناصر كان يرى أن إسرائيل، لا الشيوعية، هى الخطر الأعظم. أما اليوم فقد انسقنا وراء الدعاية الإسرائيلية نردد معها أن إيران تهدد المنطقة،أما إسرائيل فهى مجرد شريك مشاغب، مهما قتل وسجن من فلسطينيين، وصادر من أراضى، وبنى من مستوطنات، وغزا لبنان وغزة، وقصف شريط الحدود المصرى. والاحتجاج بتدخل إيران فى الحرب الأهلية المستعرة فى اليمن مقصود به مؤازرة السعودية التى تتدخل للملمة أشلاء نظام ديكتاتورى قمعى هبط باليمن إلى مصاف الدولة الفاشلة كالصومال. ولأن واشنطن أصبحت البوابة الرئيسية للعرب فى تناول مفردات الصراع الفلسطينى الإسرائيلى فقد صارت إسرائيل هى صاحبة السيادة فى إدارة الصراع وتوجيه ما يسمى بالعملية السلمية من وراء ستار الرباعية الدولية. لذلك فإن من دواعى انزعاجها البالغ أن تدخل طهران وتركيا على الخط عن طريق سوريا لتزاحمها على الانفراد بالعرب والفلسطينيين، خاصة أن الأولى توجه إليها اتهامات وصفات قاسية، والثانية تتباعد عن دور الحليف الاستراتيجى المطلق الذى تشكّل على أيدى العسكريين الأتراك فى تسعينيات القرن الماضى. إسرائيل تنفرد بقتل الفلسطينيين والعرب مشغولون بالخطر الإيرانى على ممالكهم. وإيران تحاول اختراق الحصار الذى تحاول الولاياتالمتحدة إحكامه عليها لصالح إسرائيل بالتواصل مع دول الخليج الذين تترابط معهم جغرافيا وعرقيا وثقافيا رغم محاولات التطويق التى تقوم بها قلة من الدول العربية التى وظّّفت بعض المشايخ لتخويف السنة من المد الشيعى المزعوم كى تدفع عن نفسها مخاطر المد الثورى الإيرانى. حان الوقت لتصويب زاوية النظر العربية إلى مستقبل المنطقة. إن إسرائيل قد أثبتت طوال أكثر من ستين عاما أنها العدو الأول والخطر الأكبر على مستقبل المنطقة العربية، بغض النظر عن معاهدات السلام والأحضان الدافئة والكلمات الخادعة. العرب وفى مقدمتهم مصر خرجوا من حلبة الصراع المسلح ولا يرغبون ولا يستطيعون العودة إليه، حيث تمتلك إسرائيل جميع عناصر المبادرة العسكرية التى لم تتخل عنها أبدا فى جميع الأوقات. ولم يبق أمام العرب فى مواجهة الغطرسة والعدوان الإسرائيلى سوى خيارين: المقاومة الفلسطينية، وقوة الردع الإيرانى. ودول الاعتدال العربية المتحلّّية بالحكمة الأمريكية تحاول بإصرار ومعها محمود عباس محاصرة المقاومة الفلسطينية ونزع فتيلها، وكذلك تحجيم إيران وتقليم أظافرها على أساس أن الولاياتالمتحدة سوف ترغم إسرائيل على قبول سلام عادل ودائم فى المنطقة، ينهى احتلال الأراضى ويعيد للفلسطينيين حقوقهم. ومعنى ذلك القبول فى سلم الأولويات بأن إيران لا إسرائيل هى الخطر الداهم الماثل فى المنطقة العربية. لكن الأيام القادمة سوف تثبت هذا الخطأ الفادح فى تقديرات المعتدلين العرب المتاخمين لإسرائيل. فدول الخليج الصاعدة، غير المثقلة بتركة الصراع العربى الإسرائيلى، تبدو أكثر اقترابا من إيران مما يبدو للناظر. ومن المضلل تصوير أن قوة إيران النامية تمثل تهديدا لجيرانها مثلما تمثل إسرائيل تهديدا لمن حولها من العرب. وجذور الثقافة والعلاقات الإسرائيلية العربية لا تدانى جذور الحضارة والتاريخ والأعراق العربية الإيرانية. وبالرغم من توابع الحرب العراقية الإيرانية فى الثمانينيات فإن إيران لم تقتل أو تشرّد من العرب أو تستولى على الأراضى العربية ما يقارن بما فعلته إسرائيل. ولعل الزيارة التى قام بها مؤخرا الشيخ ناصر آل محمد الصباح رئيس وزراء الكويت لإيران واجتماعاته مع قمة قياداتها دليل على حيوية العلاقات الخليجية الإيرانية رغم الخلافات على بعض الجزر (طنب الكبرى وطنب الصغرى وأبو موسى) والخلاف مع الكويت التى بدأت رئاسة مجلس التعاون الخليجى هذا الشهر حول حقل درّه للغاز فى المنطقة الحدودية بينهما.