نجلس فى الجامعة فى انتظار لقاء الزملاء.. يأتى المستشفى لزيارة قريبه.. نتجمع لمشاهدة فيلم سينمائى.. يعود إلى وطنه بعد رحلة شاقة ليحتضن أحباءه.. تنتظر مقابلة والدتها ومعانقتها. أمور كانت عادية يقوم بها الفرد بصورة روتينية. الآن أصبحت استثنائية بعد تفشى الوباء. أحدثت كورونا شرخا فى العلاقات الاجتماعية من خلال عدم القدرة على الاقتراب والتلاحم فى الأفراح أو المآتم أو التجمعات أو المسارح أو المهرجانات أو حتى فى العمل حماية للجسد من العدوى. كما أحدثت تغييرا فى مراسم دفن الموتى، جاء الوداع عن بعد واغتراب فلا تسنح الظروف حتى للأقارب بتوديع من أحبوا وتغيرت مظاهر الاحتفال بالمناسبات من خلال الاكتفاء بالرسائل الالكترونية أو المحادثات الهاتفية، واختفى الفرد عن مجتمعه ليواجه معركته الداخلية فى الدفاع عن نفسه وتحصينها بعد عجز العلم. لم تعد كورونا مجرد مرض عضوى ولكن أحدثت أمراضا نفسية كالاكتئاب والفوبيا والوسواس القهرى. فمما لا شك فيه أن الآثار النفسية لكورونا تعدت التأثير الجسدى من جراء العزلة وتحديد الحركة سواء كانت إجبارية أو اختيارية. فلأول مرة يُطلب منا عدم اللمس وعدم الشم وعدم الاقتراب. هنا وُضعِت الإنسانية تحت الاختبار ووضع السلوك الإنسانى تحت حصار الجبر والإلزام المنافية لطبيعة البشر وعفويتهم ومن ثم إعادة النظر فى اكتشاف حواسنا من جديد وترتيب أهميتها ودورها. نرى لافتات عليها عبارات مثل « ممنوع اللمس»، «ممنوع المصافحة»، «ضرورة الالتزام بالتباعد الاجتماعى». وهو ما جعلنا نعيد التفكير فى واقعنا المحسوس. كنا نستخدم حاستى اللمس والشم لا إراديا فنلمس ونشم الأشياء لنختبرها وندركها ونشعر بها. التزم البعض منا بالإجراءات الاحترازية حسب قدرتهم وثقافتهم. بينما عجز البعض عن ذلك. التزم آخرون بارتداء الأقنعة والقفازات التى طمست وأخفت ملامحهم وأصبح المظهر لا يحتل الأولوية. وتم ابتكار طرق جديدة للمصافحة والتحية وتغيرت أساليب وطرق العمل. فالتعليم أصبح يدار من خلال المنصات الالكترونية وعمليات البيع والشراء تتم عن طريق التسويق الالكترونى أكثر من ذى قبل حتى بعض حفلات الزواج وأعياد الميلاد والتخرج تشارك فيها أفراد المجتمع افتراضيا. يحاول الجميع التعايش بابتكار هذه الأساليب المجتمعية الجديدة لاستئناف الحياة تحت دعوى ما يُطلق عليه «الطبيعية الجديدة». *** نعم أصبح الإنسان يعيد اكتشاف جسده ويتعرف عليه بعد أن كان يحرك هذا الجسد بعقله فقط للتعامل مع العالم الخارجى. لقد فرضت علينا كورونا نظرة جديدة للكون من حولنا فأدركنا أهمية حضور حاستى اللمس والشم. وأضحى الإنسان فى حالة من الارتباك والاغتراب فأعاد النظر فى ترتيب الحواس من حيث وظائفها وأهميتها. لا شك أن الإجراءات الاحترازية التى تحد من التلاحم والاقتراب والتواصل المباشر كبلت الإنسان وقيدت حريته وتدفق مشاعره وأصابت النفس بالتصحر والاغتراب. أصبح الجسد معزولا وسجينا عن العالم وبدأ الفرد يتعرف من جديد على ذاته ومجتمعه المحيط به عن بعد. العلم يخبرنا أنه منذ تكون الجنين فى رحم الأم فهو يتعرف على العالم باللمس فهى الحاسة الأولى التى تتطور لدى الجنين ويشعر من خلال التواصل بها مع أمه باللذة والألم ويبدأ فى إدراك عالمه قبل الميلاد. وبعد الولادة مباشرة تحتضن الأم طفلها ولا تبتعد عنه وذلك كشعور طبيعى ويؤثر هذا التواصل إيجابيا على البناء النفسى والجسدى السليم للطفل. وقد طالعتنا الأنباء قبل أيام بمولود بحجم كف اليد ينجو من الموت بأعجوبة بعد أن تم وضعه على أجهزة التنفس الصناعى ولم يستجب لها حينذاك فقد الأطباء الأمل، ولكن بعد لمس أمه له فوجئ الأطباء بارتفاع كبير فى نسبة تشبع الأكسجين لديه وكُتِبت له الحياة. *** إدراكنا لحواسنا كان يرتكز على عدم الوعى بجوهرية كل حاسة. كانت الأولوية لحاستى السمع والبصر وهى الحواس الأساسية الأكثر استخداما فى التواصل مع الآخرين. لكن بعد تفشى الوباء بدأنا ندرك بصورة أكبر جوهرية الحواس الأخرى مثل اللمس والشم والتذوق فقد تم تفكيك الحواس لنتيقن من أهمية كل منها على حدة. وتطالعنا اليوم مشاهد جدة تحتضن حفيدها من وراء ستار بلاستيكى، ابن يراقب أمه من خلف زجاج غرفة العناية المركزة، حفل زفاف وعقد قران من خلال الشاشات، شاب مريض بكورونا يحبس نفسه فى غرفته خوفا على أسرته من العدوى، حفل موسيقى يتابعه الملايين فى أنحاء العالم، فنان تشكيلى يرسم نفسه محاصرا داخل غرفة، تكريمات واحتفاءات بجنود الجيش الأبيض وحملات داعمة لمرضى كورونا عبر وسائل التواصل الاجتماعى. نعم لقد أصبح الحس والجوهر يتغلب على المظهر. فقد أشارت بعض التقارير إلى تراجع مبيعات مستحضرات التجميل وتحديدا أحمر الشفاه وزيادة الإقبال على مبيعات الكحول والكمامات والأدوية والفيتامينات. وهو ما يعكس الابتعاد عن المظهر والعمل على إدراك الجوهر. فهل يشى هذا ببداية انزواء مجتمع الفرجة والاستعراض والاستهلاك؟ أم ستتغير طبيعة هذا المجتمع للاستثمار فى الجسد المريض والمغترب؟ هل أدرك الأفراد أهمية هرمون الأوكسيتوسين الذى يُعرف بهرمون الحب والذى يُفرز أثناء المعانقة ومصافحة الآخرين أو مشاركتهم فى وجبة غذاء أو الغناء معهم؟ يلعب هذا الهرمون دورا حيويا للإنسان. فهو يقلل هذا الهرمون من المشاعر السلبية ويزيد المشاعر الإيجابية. بعد نحو عام من تفشى الوباء نحلم بالتخلى عن هذا العالم الافتراضى والعودة مجددا لعالم ما قبل كورونا. من المؤكد أن العالم سيعبر هذه الأزمة فقد تجاوزت الإنسانية أوبئة مثل الكوليرا والطاعون والإنفلونزا الأسبانية وعادت الحياة كما كانت وأفضل. لكن تأثير كورونا قد غير نظرتنا للأشياء ولن يزول هذا التأثير سريعا بعد أن أدرك الإنسان أهمية التعرف على جسده من جديد واختبر الإنسان هشاشته ووعى بجوهرية وجوده الإنسانى بعيدا عن المظهر. مدرس بقسم العلوم السياسية، كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، جامعة القاهرة