يقال: إن الأزمة الرأسمالية العالمية الحالية كشفت عن أزمة أخرى تتعلق بالسياسة العالمية. وقد يكون العكس هو الصحيح، أى أن غياب السياسة العالمية كان سببا فى أزمة الرأسمالية. وفى حقيقة الأمر، لا تهم طبيعة العلاقة السببية بينهما، ولكن العنصر الحاسم هو أنه لن يمكن وضع نهاية للفوضى الناجمة عن الاقتصادات المأزومة، بدون النجاح فى تطبيق سياسة تتميز بالكفاءة. وقد يصبح المستقبل أكثر إشراقا؛ ذلك أنه من واشنطن إلى بكين، ومن برلين إلى بيونس إيرس، أصبح الجميع يدركون أهمية التكامل الاقتصادى. ولكن بينما أظهر الركود المتزامن أهمية هذا التكامل، إلا أنه دفع دولا كثيرة إلى الانكفاء على الداخل، لأن الناخبين يريدون ملاذا آمنا فى مواجهة العواصف التى تجتاح العالم. كما أن الحديث عن أسلوب جديد فى بناء النظام العالمى لا يستطيع التخفيف من غضب العاطلين وإحباط الذين فقدوا ممتلكاتهم. وخلال عقدين من الزمن، بدا أن الرخاء الذى تحقق بفعل العولمة وإن كانت آثاره لم تُوزع بالتساوى على الدول قادر على الاستمرار والمضى إلى الأمام. غير أن الأزمة المالية العالمية كشفت فشل العولمة وهشاشتها. ويظل السؤال الذى يحتاج إلى إجابة، هو مدى قدرة الحكومات على بناء أطر تساعدها فى استعادة شرعيتها السياسية. ويعد النظام الدولى الحالى بمثابة بقايا حقبة زائلة، حيث كان العالم ينقسم إلى أيديولوجيتين متنافستين، هما الديمقراطية الليبرالية والشيوعية. وكانت المؤسسات المسئولة عن الحكم العالمى رهن إرادة الدول الغربية الغنية. وجاء سقوط سور برلين فى نهاية الثمانينيات ليمثل دليلا على انتصار إجماع واشنطن هذا، فيما كان انهيار ليمان برازرز فى الخريف الماضى علامة تشير إلى أفوله أو نهايته. ويأمل البعض فى أن تتمكن قمة مجموعة ال20، المزمع انعقادها فى لندن فى بداية الشهر القادم، من تقديم حلول جديدة. ويقال: إن مجموعة ال20، تستطيع أن تدفع القوى الصاعدة فى الشرق والجنوب لأن يكونوا فاعلين فى النظام العالمى المتغير. وقد وعد جوردون براون، رئيس الوزراء البريطانى ومضيف القمة، بأن «الحكومات سوف تضطر فى النهاية إلى قبول الحلول العالمية التى نحتاج إليها لتجاوز الأزمة الاقتصادية». أما فيما يتعلق بإدارة أوباما الجديدة، فبعد فترة من عدم الاهتمام، أعلنت أنها على استعداد لتولى القيادة. ويطرح المؤيدون لمجموعة ال20 أنها يمكن أن تظهر كما لو كانت عرضا موسيقيا عالميا تشارك فيه القوى المختلفة، الأمريكيون والآسيويون، والأوروبيون والأفارقة، وقادة أمريكا اللاتينية، الذين سوف يجلسون جنبا إلى جنب، لتسوية النزاعات فيما بينهم، والعمل على تحقيق الرخاء والاستقرار. غير أن هذه المؤسسة وصلت بالفعل إلى نقطة حرجة؛ ذلك أن الدبلوماسيين المسئولين عن التحضير للقمة كشفوا أنه على عكس الاعتقاد الشائع، قمة مجموعة ال20 ليست فى حقيقتها قمة لمجموعة ال20. فصحيح أن الرؤساء ورؤساء الحكومات من كل بقاع الأرض، الشمال والجنوب والشرق والغرب، سوف يجتمعون فى لندن. ولكنه نتيجة أسباب معقدة للغاية لا يتسع المجال هنا لشرحها جرى دعوة 28 وفدا 23 أو 24 من القادة، إضافة إلى رؤساء المؤسسات الدولية مثل صندوق النقد الدولى. غير أن هذا الالتباس المتعلق بالعدد لا يفسر لماذا جرى تسمية الحدث «قمة لندن» بدلا من «قمة مجموعة ال20؟». فالمشكلة أعمق من ذلك بكثير. فالأمر الغريب هو أنه لا يوجد اتفاق بين المشاركين حتى هذه اللحظة، على أن مجموعة ال20 موجودة بالفعل. وكى لا يبدو ما أقوله غير مفهوم، دعونى أفسر العبارة الأخيرة. تجتمع مجموعة ال20 على مستوى وزراء المالية ورؤساء البنوك المركزية، وتمتلك أمانة، وتجرى رئاسة المجموعة بالتناوب. لكنه لا يوجد إجماع على أن مجموعة ال20 يجب أن تتجاوز حدودها، الخاصة بالمال والاقتصاد، لتتحول إلى مؤسسة سياسية دائمة. والأكثر من ذلك، أن بعض الدول الغنية تتبادر إلى الذهن هنا اليابان وإيطاليا تخشى أن عقد قمم منتظمة لقادة المجموعة، قد يقوض نفوذ مجموعة الدول الصناعية العظمى الثمانى. ويرى آخرون أن مجموعة ال13، التى تضم مجموعة الثمانى، إلى جانب الدول الخمس الصاعدة الكبرى، ستكون بمثابة منتدى عالمى أكثر فاعلية. وقد تكون الضجة المرتبطة بهذه الحماقات البيروقراطية مبعث سخرية. فمن بخلاف الدبلوماسيين بوسعه أن يهتم بالعدد الدقيق للمجموعة، أو ما إذا كان علينا أن نطلق على القمة المرتقبة، قمة مجموعة ال20 أم قمة لندن. لكن ما يبعث على الاهتمام بالقطع هو أن كلا من الحكومات الغنية والصاعدة تسير فى نفس الاتجاه والخطى. ولعله من المحزن أن نقول إن هذا الطرح يمثل دليلا مؤلما على عمق المنافسة والاضطراب، اللذين يمثلان حجر عثرة فى طريق التعاون الدولى الفعال. ويتفق القادة السياسيون على أن حماية العولمة تتطلب نمطا من الحكم العالمى المتماسك. ففى حقيقة الأمر، كان أحد الأسباب الرئيسية للانهيار المالى هو الفشل فى تبنى سياسات ترتكز على التكامل الاقتصادى بين الدول. فقد سارت الأسواق العالمية بخطى أكبر من قدرة الحكومات على التنبؤ بالمستقبل أو حتى فهم ما يحدث. لكن اتفاق القادة على أهمية وجود نمط من الحكم العالمى، لا يعنى بالضرورة اتخاذ خطوة أكثر تقدما، عبر الاتفاق على طريقة لتوزيع السلطة والمسئولية فى النظام الدولى الجديد. ويرجع ذلك إلى أن الدول الغنية ترفض التخلى عن السلطات التى تتمتع بها، داخل المؤسسات التى أنشأتها فى منتصف القرن الماضى. والقوى الصاعدة، من جانبها خاصة الصين والهند تتساءل: لماذا عليها الاهتمام بنظام لا تتمتع بداخلة سوى بحصة صغيرة جدا. وفى هذا السياق، تعمل الولاياتالمتحدة على كبح أى اقتراحات تتضمن ترتيبات تعيق قدرتها على الحركة. وفى المقابل، يبدو الأوروبيون أكثر مهارة فى التحدث بلغة تتضمن إشراك الآخرين فى عملية توزيع المسئولية. غير أنه نتيجة التشبث بأوهام الماضى المجيد، مازال يصعب عليهم أيضا التنازل عن السلطة. وهذا هو السبب الأساسى فى أن اتحاد البنيلوكس يتمتع بأصوات أكثر من تلك التى تتمتع بها الصين فى صندوق النقد الدولى. لكن مظاهر التردد تلك لا تقتصر على القوى الكبرى التقليدية. بل إن الصين ترغب فى الحصول على النفوذ، دون أن تتحمل المسئولية؛ أى أنها تريد الإثراء من النظام العالمى دون أن تتحمل عبء دعم هذا النظام. أما الهند، فرغم إصرارها على أن يعترف بها العالم كقوة كبرى، فإنها تنظر بازدراء لأى مقترحات تتجاوز مصالحها القومية، بالمعنى الضيق للكلمة. ولن تستطيع قمة واحدة ولا حتى عدة قمم لمجموعة ال20 أو ال13 أو غيرهما تحقيق هدف التوفيق بين المصالح المتعارضة للدول. وكما هو الحال فى جميع القضايا العالمية اليوم، تتوقف سرعة التقدم الذى سيجرى إحرازه على الولاياتالمتحدة، التى مازالت القوة التى لا غنى عنها، رغم أن دورها وحده لا يكفى. ومن ثم، لاشك أن أولئك الذين يرغبون فى رؤية نظام دولى جديد كلية سوف يشعرون بخيبة الأمل. وفى أفضل التقديرات، قد تنشأ مجموعة تمثل خليطا من المجموعات، وتقبل بتوزيع السلطة والمسئولية بطريقة أكثر شمولا. غير أن الإشارات الواردة من واشنطنوبكين لا تدعو للتفاؤل. وقد تكون قمة الشهر القادم. أيا كان المسمى الذى سوف تتخذه، نقطة البدء فى تحقيق هذا الهدف.