سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
هشام مطر: وباء الطاعون وكل أوبئة «الموت الأسود» قلبت موازين الحضارة الإنسانية وأثرت على الفن كيف صاغ الدين والعلمانية اللوحات الفنية الإيطالية فى عصر النهضة؟
شارك الكاتب الليبى العالمى هشام مطر بعضا من خواطره لصحيفة الجارديان البريطانية حول وباء الطاعون القديم، أو كما هو معروف عنه ب«الموت الأسود»، وكيف غير بها وجه الفن فى العالم بصفة عامة، وفى مدينة «سيينا» الإيطالية التى لطالما عشقها هشام مطر؛ لزخرها باللوحات الفنية التى تحمل عبق عصر النهضة بصفة خاصة، قائلا إنه عندما فرغ من كتابه «العودة» عام 2016 الذى يوثق رحلته إلى ليبيا بعد مرور 33 عاما على انقطاعه عنها لأسباب سياسية، وفشله فى العثور على والده المعارض السياسى الليبى، ذهب إلى المدينة الإيطالية «سيينا» وقضى شهرا فى مقاطعة «توسكان»، قاصدا المعارض والمتاحف الفنية هناك؛ حيث انخرط فى عشق اللوحات التى تبعث الفن السيينى العتيق إلى الحياة، والتى تضم أعمالا من القرن الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر. وكشف عن أن تلك الأعمال أسرت قلبه بما تمنحه من حيوية ومتعة للناظرين منذ رآها لأول مرة فى المعرض الوطنى بلندن، قبل ربع قرن تقريبا، عندما كان يبلغ من العمر 19 عاما فقط، وهو نفس العام الذى اختطف فيه والده، وقال إن الوقت الذى قضاه فى «سيينا» وهبه فرصة التأمل فى التشابك المعقد بين المفاهيم المجردة كالشعور بالحب ومرارة الخسارة وتجرع الموت وتذوق الفن. وأضاف هشام مطر الحائز على جائزة «البوليتزر» أن المدرسة السيينية فى الفن، تلك التى تتأرجح فى نشأتها ما بين الضعف الذى آل بالكنيسة المسيحية الشرقية وبزوغ عصر النهضة، تغيرت بشكل كبير بسبب وباء الطاعون القديم، أو «الموت الأسود» الذى غزا الأخضر واليابس عام 1348، فكان من أكثر الحوادث تدميرا فى تاريخ البشرية؛ فهو لم يغير شكل المجتمع البشرى فحسب، بل غير الخيال نفسه، الذى هو لبنة الفن، ويمكن رؤية تبعاته المدمرة حتى اليوم، بل وخاصة فى تلك الأيام الصعبة. وأردف أن البشر فى الماضى لم يصدقوا بسهولة وجود وباء يتفشى بهذه السرعة ويقتل الآلاف، لا سيما مع افتقارهم إلى التكنولوجيا الحديثة، وكانوا فى ذلك أكثر تشككا منا بكثير حيال الوباء فى أيام انتشاره الأولى، وأوضح أن الموت الأسود قد احتل عالم العصور الوسطى خلال عام واحد تقريبا، وقلل عدد سكان كل دولة بمتوسط 45 ٪، وخلال تلك الفترة كان الفنانون الإيطاليون فى «سيينا» بمعزل نسبيا عن الوباء؛ حيث كانوا منخرطين فى التعاون الفنى المثمر لإنتاج اللوحات الفنية، وأيضا فى خلق وإدارة الورش الفنية من أجل تدريب الفنانين الشباب على احتراف الرسم، ولهذا بدت المذبحة التى يرتكبها الوباء بالنسبة لهم بعيدة جدا، وكانت التقارير التى تضم أرقام القتلى غريبة للغاية على مسامعهم لدرجة أنه بالكاد يمكن تصديقها، ولكنهم عندما سمعوا أن «صقلية» قد سقطت تحت رحمة الوباء، أدركوا أن الموت الغامض أصبح قاب قوسين أو أدنى من طرق أبواب مدينتهم الغافية، فاجتاحهم الرعب والخوف، وفر بعضهم إلى الريف طلبا للآمان، بينما فر البعض الآخر إلى قلب المدينة باعتبارها الملاذ الآمن الوحيد، ودخلوها عبر بواباتها العديدة التى أحاطت بها كالأفواه المفتوحة النهمة. وعن الطابع العلمانى لمدينة «سيينا»، والذى وقف صامدا إلى حد كبير فى مواجهة التيار الكنسى المتشدد فى تلك العصور الغابرة، الذى زاده وباء الطاعون بلة، قال «مطر» إن إيطاليا كانت فى الماضى تتكون من مجموعة من المدن الصغيرة التى يحكمها إما إحدى عائلات النبلاء التى تتمتع بالنفوذ والسلطة أو أسقف إحدى الكنائس، وكانت «سيينا» استثناء لتلك القاعدة؛ لأنها فضلت الحكم المدنى، وهذا يفسر جزئيا الطابع الفريد لفنها، كما أنها جادت بلوحة «رمزية الحكم» أو Allegory of Good and Bad Government للفنان الإيطالى أمبروجيو لورينزيتى، المعروضة حاليا فى قصر «بابليكو»، وهى واحدة من أقدم اللوحات «المدنية / العلمانية» وأكثرها أهمية، وأضاف: «وإن كان لنا أن نتخيل وجود كنيسة خاصة بالحكم المدنى، فستكون تلك المدينة بكل تأكيد هى محرابها، لاسيما مع وجود الفضول الإنسانى النادر الذى ميز فنانيها، وتأملهم فى علم النفس البشرى وأفكار الإنسان الخاصة الذى انعكس حتى فى تصويرهم للمشاهد الدينية». وتابع أن العقل الجمعى آنذاك كان ينظر للموت الأسود على أنه عقاب من الله، وهى النظرة المسيحية الأوروبية النمطية للأمراض فى العصور الوسطى؛ فقد آمن أغلب المتدينين أن جميع الأمراض جاءت من الله بهدف تكفير ذنوب البشر، وفى قصيدة إنجليزية من العصور الوسطى من القرن الرابع عشر بعنوان «بيرس بلومان Piers Plowman»، أتى على لسان مؤلفها ويليام لانغلاند فى أحد الأبيات: «كانت الأوبئة كفارة للخطايا الخالصة»، كما قال «بترارك» شاعر مدينة «توسكان»، وهو يرقب جثث الموتى المهجورة الملقاة عبر الطرقات جراء الوباء: «يا شعب المستقبل السعيد، الذى لم يعرف مثل هذا البؤس والحظ التعس، والذى سيحسب حتما أننا ضرب من ضروب الخرافات، نقول لكم إننا استحققنا جميعا تلك العقوبات وأكثر». وبين أن الكنيسة فى تلك الفترة شجعت مثل هذه التفسيرات الخارقة للطبيعة، ورفض العديد من الكهنة مباركة المصابين على أساس أنهم كانوا يتلقون عقاب الله، وكرس معظم المؤمنين أنفسهم للصلاة وممارسات التوبة وإصلاح الكنائس وإقامة الدور الدينية، وقال إن وباء الموت الأسود القديم بكل صوره الحديثة والتى تشمل وباء «كورونا» الحالى غير بالكامل نظرتنا تجاه مفاهيم الحياة والموت فى جميع أنحاء العالم، وذكر أن المؤرخ التونسى «ابن خلدون» رائد علم الاجتماع، فقد والديه بسبب الطاعون، وقد ارتأى «ابن خلدون» الأمر حينها على أنه حدث ذو أهمية عالمية هائلة، ولكنه كان أيضا بمثابة إهانة شخصية له بسبب أنه قضى على والديه، فدفعه التفكر فى الأمر إلى استنتاج أن الموت الأسود كشف عن نقاط ضعف عميقة فى الحضارة الإنسانية، فأضحى يراها فى ضوء الفلسفة الداروينية حتى قبل ظهورها، وقال: «لقد جعل الوباء الحياة تبدو كما لو كانت خليقة بدائية تكرر نفسها لفترة ثم يعقبها ظهور عالم جديد للوجود». وكشف «مطر» عن أن هذا الأمر حقيقى للغاية؛ فمع استمرار دورة حياة الطاعون المهلك للحضارة، ظهر عالم جديد للوجود؛ وهو عصر النهضة وعصر الباروك (هو الفترة الممتدة من أواخر القرن السادس عشر وحتى أوائل القرن الثامن عشر فى أوروبا)، وأضاف أن الطاعون لم يظفر بفنانى تلك العصور على غرار مايكل أنجلو و«رامبرانت» و«فيرمير» وإن كان يقال إن تيتيان قد توفى بسببه ولكنه تمكن من غزو عقولهم جميعا، وطبع صورة الموت فى أذهانهم على أنه الضيف الآتى لا محالة، والرفيق الصامت الذى سيكون له حتما الكلمة الأخيرة، وبدأ خيال الفنانين يميل بالتبعية إلى تصوير نهايات الأشياء، حتى أن مايكل أنجلو كتب رسالة إلى نظيره «فاسارى»، قال فيها: «لا تولد فى ذهنى فكرة قط إلا وقد نقش عليها أحرف كلمة الموت». وعن التحول من العلمانية إلى الدين، قال «مطر» إن تهافت الناس على الدين بعد وصلات الدعاء والتضرع للنجاة من الموت الأسود فى «سيينا»، خلق رابطا قويا بينهم وبين الكنيسة، فبعد مرور 7 سنوات تقريبا انتهى الحكم المدنى للمدينة عام 1355، وتولى رجال الدين نظام الحكم، وقد أتوا محملين بقدر كبير من المال والنفوذ والخطط، وقاموا ببناء كنيسة جديدة تنقض القيم المدنية التى صورتها لوحة «رمزية الحكم»، وأضاف أنه تعين على تاديو دى بارتولو، الفنان المكلف بتزيين جدران الكنيسة، إحياء التقليد السيينى فى الفن، وإعادة صياغته بشكل ما ليتوافق مع ذوق الوصى الدينى الجديد. وقال إن «بارتولو» حين انتهى من الكنيسة كان قد تم تزيين كل سطح، وكل سنتيمتر من الأرضية والجدار والسقف، وقد نجح من خلال حس اليقين المصنع، والإيمان الراسخ المغلف بالفخامة، فى إرضاء رجال الدين، وفى الوقت نفسه التعبير عن مشكلة الإيمان الأزلية؛ فليس هناك ثمة إيمان حقيقى بغض النظر عن نوعه لا يحمل فسحة للشك، وأردف أن الأمر كان يبدو وكأن «بارتولو» كان يقلد ذلك التصريح الماكر لشاعر مدينة «فلورنسا» الشهير «بوكاتشيو»، عن الموت الأسود، حين قال: «يبدو أنه مهما فعلنا، قد قدر الله الذى خلق كل شىء له أن يكون فكان». وذكر أن لوحة «جنازة العذراء The Funeral of the Virgin» هى مثال واضح على الفن الذى خضع للدين؛ فموت العذراء لم يكن تيمة فنية مألوفة فى الفن السيينى، ومن المستحيل النظر إلى اللوحة بدون استحضار للذهن ذكرى جثث قتلى الطاعون فى «سيينا»، وهى متراكمة على الأرصفة؛ لأنه لا يوجد من يدفنها، وقال إن كل الرسل الذين يحملون العذراء وكذلك جمهور المتفرجين كانوا يبدون فى اللوحة وكأنهم منغلقون بشكل ما على أنفسهم، لتأثرهم العميق بفكرة الموت. وفى النهاية قال «مطر» إنه اعتقد أنه ذهب إلى «سيينا» بغرض تأمل الفن فحسب، لكن بعدها اتضح أنه ذهب أيضا ليحظى ببعض الوقت لرثاء والده المفقود، والتطلع لآفاق جديدة فى الحياة وفى العمل، ووضح أن تلك الأفكار راودته إبان كتابة «شهر فى سيينا»؛ حيث كان عليه أن يفكر فى الكيفية التى يغير بها الموت كل الأشياء، وأعرب عن اندهاشه من الكيفية التى آلت بعالمنا إلى وباء تجذبه جذبا نحو براثن الموت، وهو الأمر الذى جعله يتذكر تصريح الشاعر والروائى الإيطالى سيزار بافيسى فى القرن العشرين بأن الفن «دفاع ضد جرائم الحياة»، وأردف أنه على الرغم من أنه يرى ذلك الدور «طموحا للغاية» بالنسبة للفن، أو أعلى مما يقوى على تقديمه، إلا أن الفن الحقيقى دائما ما يكون مصدر وحى وإلهام للبشر المحيطين، كما أن له دورين سرمديين يلعبهما ببراعة؛ فهو يمنحنا السعادة والعزاء، ويعمل أيضا كعدسة مكبرة تسلط الضوء على الحاضر، ومكاننا فيه، وتجعلنا ندرك على أية أرضية نقف.