أخى وصديقى وزميلى العزيز صلاح عامر.. هذه رسالة شوق ومودة أبعثها إليك من عالمنا الضيق الصغير إلى الرحاب الكبير الكريم الذى رحلت إليه منذ أيام وأبدؤها بأن أذكرك ببيت من الشعر كنا نردده معا حين نفتقد الود الخالص والوفاء فى بعض من يحيطون بنا فى عالم المنافسة والانحصار على الذات وهو قول الشاعر: أيقنتُ أن المستحيل ثلاثة . . . الغول والعنقاء والخِل الوفى أما الغول والعنقاء فهما مخلوقان خياليان صنعهما تراث عربى قديم حتى صارا رمزين للأمور البعيدة الوقوع وللشىء النادر الذى يتعذر الوصول إليه ولايزال هذا القول مترددا بيننا حين نشكو من قلة الوفاء وتراجع الإخلاص وندرة الصحبة الطيبة فى أزمنة زاد فيها واتسع عدد المعارف والزملاء ولكن تلك الزيادة قد جاءت على حساب عمق المشاعر وصدق المودات وحميمة الصلة بين الأهل والأصحاب والزملاء. ولهذا كله كانت صدمتنا أشبه بالصاعقة حين نعى إلينا الناعى الرحيل المفاجئ، لك أنت «الخل الوفى» فى زمن تبلدت وتجمدت فيه كثير من المشاعر الإنسانية النبيلة، حتى أحسسنا أن من واجينا من خلال كلمات التأبين والرثاء أن نعيد تقديمك لأبناء جيلٍ يحتاج أشد الحاجة إلى قدوة حية عرفها وعايشها ليتأسى بها وهو يكسر جدار الشك وفقدان الثقة الذى يملأ الفضاء الفكرى والوجدانى لحياتنا هذه الأيام. لقد كنت يا أخانا العزيز على الأحوال كلها ودودا مع الناس كل الناس، ولا أذكر رغم معرفتى وزمالتى لك على امتداد أكثر من أربعين عاما أنك دخلت مرة واحدة فى خصومة حادة أو قطيعة قاطعة مع أحد أو أنك توقفت مرة واحدة عن الإحسان لمن أساء إليك أو قبول عذر من قصّر فى التواصل معك، يعرف ذلك عنك تلاميذك وزملاؤك الذين شاركوك رحلة العلم ثم مسيرة التعليم والبحث العلمى فى الجامعة، حيث تألقت أستاذا عالمنا ورئيسا لقسم القانون الدولى، كما يعرفه الذين زاملوك فى مهنة المحاماة دفاعا عن المظلومين وتعزيزا لحقوق الإنسان وحكم القانون كما عرفك عن قرب شديد جميع أعضاء المجلس القومى لحقوق الإنسان الذين سعدوا بصحبتك ورأوا طوال السنوات التى مضت من عمر ذلك المجلس مقدار تفانيك فى العمل وأمانتك فى أدائه ومبادرتك التى لم تنقطع يوما للإسهام فى جميع أعماله، وكان آخر هذه المساهمات الكبيرة عطاؤك للجنة التى تولت باسم المجلس إعداد تقرير عن حالة حقوق الإنسان فى مصر والذى تم إرساله للمجلس الدولى لحقوق الإنسان فى جنيف قبل أسبوعين من رحيلك المفاجئ عن عالمنا وكأنما كانت هذه المساهمة تعبيرا رمزيا وتتويجا لعطائك الفياض بأسلوب عف لا يتسلل إليه لفظ جارح أو عبارة خشنة أو معنى مسىء. لذلك ومع أن المجلس قد نعاك فى بيان أصدره رئيسه وشارك فيه جميع اعضاء المجلس وأنا منهم والعاملون فيه من الخبراء والباحثين والإداريين إلا إننى رأيت من حقك علىّ باسم السنوات الأربعين التى جمعتنا معا أن أكتب لك وعنك من وراء حجاب الغيب هذه الرسالة الشخصية متذكرا قول الشاعر: «فإنما المرء حديثُُ بعده فكن حديثا حسنا لمن وعى»، والله يشهد إنك كنت أحسن حديث لجيل بأكمله من أبناء مصر وأبناء الأمتين العربية والإسلامية علما وأمانة واجتهادا وشجاعة فى قول الحق والعمل به. وأما البيت الذى أحب أن أختم به هذه الكلمات فأنا لا أعرف صاحبه ولكنى أعرف أن أم المؤمنين عائشة رضى الله عنها قد تمثلت به ورددته حين بلغها استشهاد على بن أبى طالب رضى الله عنه وقد تذكرت هذا البيت وأنا أستعرض سيرتك العطرة وتنوع عطائك وكثرة أسفارك من بلد إلى بلد ومن منظمة دولية إلى منظمة أخرى تخدم بها الرسالة التى آمنت بها بالكلمة والموقف حتى أذن الله لك أن تستريح راحة المقاتل الصامد بعد جهاد طويل لم يتوقف فاختارك إلى جواره الكريم مع الشهداء والصالحين، يقول هذا البيت: «فألقت عصاها واستقر بها النوى . . . كما قر عينا بالإياب المسافرُ». رحمك الله رحمة واسعة أيها الأخ العزيز وأنزل السكينة والرضا على زوجتك الفاضلة وأسرتك الصغيرة التى صاحبتك فى هذه المسيرة وشاركتك فى تحمل أعبائها كان الله معهم ومعنا بعد أن كتب عليهم وعلينا غيابك المبكر عن مجالسنا وأنديتنا ولقاءاتنا فى زمان صعب قل فيه الأخلاء والخلصاء والأوفياء ورفقاء الطريق.