تأثرت أوضاع المصريين المهاجرين والمغتربين خلال العقدين الماضيين نتيجة عوامل داخلية وأخرى خارجية.. فالأوطان لم تقم لتُهجر، أو كما عبر أحد الكتاب عن ذلك بقوله: «لا تصدق من يخبرك أنه ترك وطنه ترفا». فخلال العقدين الماضيين فاقت عوامل الطرد فى المجتمع المصرى عوامل الجذب لعوامل وأسباب متعددة، وأصبحت هناك أعداد متزايدة تتطلع لفرصة هجرة أو اغتراب. فقد فاقت خصوبة الأم المصرية خصوبة الأرض نتيجة ما أدت إليه سياساتنا من إهدار للموارد سواء كانت بشرية أم طبيعية، وأصبحت هذه الأرض لا تتسع لكل محبيها، فنحن نشغل ما لا يزيد على 6% من مساحة الوطن الكلية. ويتوازى مع ذلك تراجع فرص الهجرة والاغتراب، وتعقد شروطها فى دول الاستقبال، خصوصا نتيجة تداعيات أحداث الحادى عشر من سبتمبر وما تلاها، والتى ربطت بين الهجرة ومشكلات الإرهاب.. وجعلت من الهجرة مشكلة أمنية تحل بوسائل استثنائية فتغير المدلول الاجتماعى والاقتصادى لمفهوم الهجرة، فتحولت ضمن هذا السياق من سياسات ليبرالية إلى سياسات انتقائية تمييزية، وتركزت بصفة خاصة على جذب النخب والكفاءات، وبالتالى ما زال مسلسل استنزاف العقول من دول الجنوب مستمرا. هذه التطورات وغيرها كانت تستوجب منا وضع إستراتيجية مصرية جديدة للهجرة، للتعامل مع هذه المتغيرات وغيرها. فسياسة الهجرة المصرية ما زالت تركز على مجرد إجراءات روتينية لتسهيل تدفقاتها، وليس إداراتها وتنظيمها وترشيد توجهاتها، بهدف تعظيم عائدها. وقد أعربت وزيرة القوى العاملة والهجرة مؤخرا عن نيتها فى وضع إستراتيجية جديدة للهجرة، وهو ما يعكس شعورا إيجابيا بالتطورات الضاغطة على الهجرة المصرية ومتطلباتها، غير أنها لم تفصح بعد عن الخطوط العريضة لهذه الإستراتيجية. لقد آن الأوان لتتبنى هذه الإستراتيجية مبادئ الشفافية والأخذ والعطاء، وصيانة وحماية رأس المالى الإنسانى المصرى خارج الحدود وتوفير آليات تحقيق ذلك. فقد غلب بُعد الجباية، وتضاءل بُعد الرعاية طوال الحقبة الماضية، ولم يتم وضع هذا القطاع فى المرتبة، التى يستحقها من اهتمام الدولة والتى تتسق مع وزنه النسبى على المستوى الاقتصادى والاجتماعى. إذ يلاحظ تراجع الاهتمام بهذا القطاع، فبعد أن كان فى السابق يحتل موضوع الهجرة والمهاجرين عدة فقرات فى بيان الحكومة، تقلصت إلى فقرة واحدة هزيلة، ثم اختفت تماما من البيانات الوزارية، رغم تزايد أهمية المهاجرين والمغتربين فى دعم اقتصاد الدولة وجهود التنمية. وأخيرا تنبه المؤتمر السادس المقبل للحزب الوطنى، وقرر مناقشة قضايا الهجرة والمهاجرين، ونرجو أن يتناول جوهر هذه القضايا. فقطاع الهجرة والاغتراب يهم أكثر من عشرة ملايين مصرى بين مقيم ومهاجر أو مغترب، إذا أخذنا بأقل التقديرات (3.5 مليون مغترب ومهاجر × 3 أفراد متوسط عدد أفراد الأسرة الواحدة). ويحقق هذا القطاع لمصر موردا مهما من العملات الحرة (قدرت تحويلاتهم عام 2006/2007 بقرابة سبعة مليارات دولار دون احتساب التحويلات الأخرى التى تمر عبر القنوات الرسمية)، فضلا عن أن قطاع الهجرة المؤقتة فى منطقة الخليج وحدها مثلا يوفر مليونى وظيفة على الأقل، ناهيك عن ما يسهم به المهاجرون فى قطاعات الاستثمار المختلفة وغيرها، ألا تدعونا هذه الأرقام وغيرها إلى التفكير الجاد فى توفير الرعاية والحماية المناسبين للمهاجرين والمغتربين؟ ومن هنا تجئ أهمية التفكير فى وضع إستراتيجية متكاملة للهجرة بشقيها الدائم والمؤقت، وأن تحدد أهدافها بشكل واضح ولعل فى مقدمتها على سبيل المثال: أن ترتبط هذه الإستراتيجية بخطط التنمية وأهدافها وتحدد المستهدف تحقيقه من قطاع الهجرة ليسهم فى تحقيق التوازن النسبى فى سوق العمل، وامتصاص جانب من حجم البطالة. وضع أنظمة حديثة للتدريب وإعادة التأهيل الجادين، وبشكل يتوافق مع تغير الطلب على مختلف المهارات فى مختلف أسواق العمل الدولى ومعاييرها. وقضية التأهيل الجاد مطلوبة فى الداخل والخارج معا. فقد أصبحت الأسواق الدولية تتسم بمنافسة حادة على فرص العمل المتاحة، فقد زاد عدد الدول المصدرة من 72 دولة إلى 127 دولة، كما اتسع عدد الجنسيات المستقبلة فى البلد الواحد. الارتقاء برؤيتنا للهجرة ورعاية المهاجرين إلى مستوى لائق، بتوفير منظومة متكاملة لرعايتهم وحمايتهم، وعلى نحو ما سبقتنا إليه دول عديدة مصدرة للهجرة، كتركيا والهند وباكستان وبنجلاديش وغيرها، التى أقامت هيئات أو صناديق خصصت لتوفير هذه الرعاية والحماية. بل إن بلدا كالفلبين تنظر للمهاجرين باعتبارهم «الأبطال الجدد»، وتخصص لهم يوما ثابتا كل عام للاحتفال بهم وتكريمهم، اعترافا بفضلهم فى دعم جهود التنمية والاستثمار، والتى أبقت على الاقتصاد الفلبينى طافيا رغم تعدد الأزمات التى واجهها. كما تجدر الإشارة إلى أن السياسة الخارجية الفلبينية تعتبر حماية حقوق المهاجرين ورعايتهم أحد الأعمدة الثلاثة الرئيسية لهذه السياسة، بجانب حماية الأمن القومى وضمان الأمن الاقتصادى من خلال تعبئة الموارد الخارجية (قدرت تحويلات المهاجرين الفلبينيين عام 2007 ب14.4% مليون دولار). وبالمقابل يلاحظ أن قانون الهجرة رقم 110/ 1983 نص فى مادتيه الثانية والثالثة على رعاية المصريين بالخارج. ورغم وضوح هذه النصوص ووجوبيتها فإنه حتى الآن لم يتم تفعيلها بتخصيص الموارد المالية اللازمة لذلك. فالرعاية لها تكلفتها المالية ولا تتضمن ميزانية وزارتى الخارجية والقوى العاملة والهجرة حتى الآن رصد أى مبالغ لهذه الرعاية، فكيف يتسنى لها القيام بأعباء هذه الرعاية؟! فالرعاية لا تكون بالكلام والتصريحات. وهناك مشروع لإنشاء هيئة أو منظومة لرعاية المصريين بالخارج ما زال مطروحا منذ عدة سنوات، ويعانى من الحيرة والتعثر فى الأروقة البيروقراطية، وما زال حبيسا لصراعاتها على الاختصاصات والصلاحيات، ويطفو إلى السطح من حين لآخر وفقا للاهتمامات الموسمية لأعضاء مجلس الشعب. وفى أثناء ذلك يتعرض المواطنون فى الخارج للعديد من المخاطر والحوادث فى ظل غياب مظلة للرعاية والحماية. وآن الأوان للتعامل مع هذه القضية بالاهتمام الواجب، فالدولة ملتزمة دستوريا وقانونيا وأخلاقيا بتوفير الحماية والرعاية للمواطنين فى الداخل والخارج. ولعل من المناسب أيضا أن تتضمن هذه الإستراتيجية الاهتمام الخاص بدعم وإعادة تنظيم روابط وجمعيات المصريين بالخارج، والتى تشكل الذراع الأهلية لدعم الوجود المصرى خارج الحدود. ومن المهم أيضا أن توفر هذه الإستراتيجية آليات وخطط عملية لبرامج التوعية الوقائية للمهاجرين والمغتربين حتى يكونوا على وعى مسبق بأوضاع الدولة المضيفة وأنظمتها الإدارية والقانونية وتقاليدها المرعية وغير ذلك من أمور. فضلا عن تعريف المهاجر أو المغترب مسبقا بحقوقه وواجباته، التى توفرها التشريعات الوطنية والدولية، إضافة لمعاونته على الاندماج فى مجتمعات الهجرة حتى تتزايد فاعليته وعطاؤه لمجتمعات الهجرة والاغتراب والوطن الأم. إن ثروة مصر الحقيقية ليست بأرضها ونيلها وتراثها الحضارى فحسب، وإنما ثروتها الفاعلة والمتجددة. التى تتمثل فى أبنائها بخبراتهم وعطائهم. فالمصريون خارج الحدود هم جزء مهم من هذه الثروة القومية، علينا العمل باستمرار على توفير كل أساليب الرعاية والحماية المكنة لهم.