فى خطابٍ ربَانى لأمة الإسلام، يقول لهم تبارك وتعالى: «وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَة وَسَطا لِتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَاسِ وَيَكُونَ الرَسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدا» (البقرة 143) فالوسطية شميلة من شمائل الإيمان والإسلام. أرادت مشيئة الله تعالى أن يسبغها على المؤمنين به من عباده، بأن يجعلهم أمة وسطا.. وسط فى دينها، ووسط فى صفاتها، ووسط فى سلوكها.. بهذه الوسطية تستحق الأمة الشهادة على الناس بوسطيتها عقيدة ونهجا وسلوكا، وما جعل الله تعالى نبيه المصطفى شهيدا على الأمة، إلاَ لخُلقه الحميد، وشمائله الكريمة، ووسطيته واعتداله وعدله، فحمل أمانة الرسالة، وقام بها بالحكمة والموعظة الحسنة، ومسالمة الناس بوسطيته وأخلاقه وشمائله. الدين نفسه وسطٌ لا تطرف ولا مغالاة فيه. يقول تعالى: «وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِى الدِينِ مِنْ حَرَجٍ» (الحج 78) وفى حديث الصادق المصدوق عليه الصلاة والسلام: «إن هذا الدين متين، ولن يُشاد الدينَ أحدٌ إلاَ غلبه، فأوغلوا فيه برفق، فإن المنبت لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى». هذه الوسطية الإسلامية، ضابط لفكر المؤمن وخُلقه، وشعوره وسلوكه.. فالتوسط هو العدل والاعتدال، وهو القوام الآمن الحكيم بين النقائض وبين الإفراط والتفريط.. ومن هنا كانت الوسطية سُنة محمودة. يدل القرآن الذى يتجاوزه المتطرفون، على أن «التوسط» هو قوام الفضائل كلها.. فى العقائد، والعبادات، والمعاملات. ففى النسك والعبادة: «حَافِظُواْ عَلَى الصَلَوَاتِ والصَلاَةِ الْوُسْطَى وَقُومُواْ لِلهِ قَانِتِينَ». (البقرة 238). وفى صفة عباد الرحمن المتوسطين فى إنفاقهم بين السرف والتقتير: «وَالَذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاما» (الفرقان 67).. «وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَة إِلَىٰ عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوما مَحْسُورا» (الاسراء 29). وفى القصد والاعتدال فى الشعور: « لِكَيْلاَ تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَهُ لاَ يُحِبُ كُلَ مُخْتَالٍ فَخُورٍ» (الحديد 23).. إن المطالع للقرآن الحكيم يرى هذه الحفاوة بالوسطية فى كل ما زكاه من الخصال والسجايا والأخلاق.. فالكرم وسط بين الشح والتبذير، والشجاعة وسط بين الجبن والتهور، والتواضع وسط بين الكبر والمذلة أو الاستخذاء، والحياء وسط بين الخور والوقاحة، والحلم وسط بين الطيش وبين الظلم والمحاباة، والرفق وسط بين العنف والإضاعة.. وكذلك كل حميد من الخصال حث عليه القرآن الكريم. عن هذه الوسطية تحدث رسول القرآن عليه السلام فقال: «خير الأمور أوساطها»، وقال الإمام على الذى كان نجيبا فى مدرسة النبوة: «اليمين والشمال مضلة، والطريق الوسطى هى الجادة، عليها باقى الكتاب وآثار النبوة ومنها منفذ السنة، وإليها مصير العاقبة. هلك من ادعى وخاب من افترى».