ظنى أن التجديد فى الدين، يستوجب فيما يستوجبه تصدير قيمه النبيلة إلى الناس.والإسلام عامر بالقيم الحكيمة النبيلة التى تحتاط لشطط الناس وتطرفهم أو مغالاتهم فى الفهم والسلوك. اختلاف الناس سنة كونية، نوّه إليها القرآن الحكيم ، فأورد أن الناس خُلقوا مختلفين، ولا يزالون مختلفين إلاَّ من رحمه ربه.. يقول تعالى: «وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ» ( هود 118 ، 119 ). وحمل القرآن الحكيم إلى الناس كافة، بوصلة مواجهة هذا الاختلاف، فجاء فى سورة الحجرات، فى خطاب إلى الناس كافة، لا إلى المؤمنين خاصة:« يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ» (الحجرات 13). ولا يكون هذا التعارف والتقارب والتعايش إلاَّ بالوسطية البعيدة عن التطرف والمغالاة.. ففيهما ضرر محقق للفرد وللإنسانية كلها. فى خطاب ربانى لأمة المؤمنين المسلمين ، يقول لهم سبحانه وتعالى: « وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا» ( البقرة 143). فالوسطية شميلة من شمائل الإيمان والإسلام . أرادت مشيئة الله تعالى أن يسبغها على المؤمنين من عباده، بأن يجعلهم أمةً وسطًا.. لا تتطرف ولا تغالى ولا تشطط ، وسط فى دينها، ووسط فى صفاتها، ووسط فى سلوكها . بهذه الوسطيّة لا بغيرها ولا بالعنف أو الشطط أو المغالاة تستحق الأمة الشهادة على الناس، فالشهادة على الناس المتباينين المختلفين لا تكون إلاَّ بالوسطية.. عقيدةً ونهجًا وسلوكًا، وما جعل الله تعالى نبيه المصطفى شهيدًا على أمته، إلاَّ لخُلقه الحميد ، وشمائله الكريمة ، ووسطيّته واعتداله وعدله، وقد وصفه سبحانه بأنه «على خُلق عظيم»، وحمله أمانة الرسالة ، فقام بها بالحكمة والموعظة الحسنة، ومسالمة الناس بوسطيته وأخلاقه وشمائله. الدين نفسه وسطٌ لا تطرف ولا مغالاة فيه . يقول تعالى:»وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِى الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ « ( الحج 78 ) ويقول جل شأنه: «يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ» (البقرة 185). وفى حديث الصادق المصدوق عليه الصلاة والسلام: «إن هذا الدين متين، ولن يُشادُّ الدينَ أحدٌ إلاَّ غلبه، فأوغلوا فيه برفق، فإن المنبت لا أرضًا قطع ولا ظهرًا أبقى». هذه الوسطية الإسلامية، ضابط لفكر المؤمن وخُلقه، وشعوره وسلوكه.. فالتوسط هو العدل والاعتدال، وهو القوام الآمن الحكيم بين النقائض وبين الإفراط والتفريط.. ومن هنا كانت الوسطية سُنّةً محمودة ، وغايةً مرجوّة ، لم تُذكر فى الإسلام إلاّ فى معرض التزكية والثناء . ومن اللافت أن العامة قد التقطوا الخيط وفهموه والتزموه، بينما غاب عن المتنطعين والغلاة الذين أفرطوا على الناس وعلى أنفسهم، وعلى الدين . يجرى فى حِكَم وأمثال العامة: «خير الأمور الوسط». فهم البسطاء ذلك من المنابع الأصيلة التى ضل عنها الغلاة والإرهابيون. فلو لم تكن الوسطية ركيزةً ومقوّمًا من مقوّمات الشخصية والسلوك، لما جعلها الله تعالى سببًا لمقام الشهادة على الناس ، ولا لشهادة الرسول عليه السلام على أمته.. يدل القرآن الذى يتجاوزه المتطرفون، على أن «التوسط» هو قوام الفضائل كلها.. فى العقائد، والعبادات، والمعاملات. ففى النسك والعبادة:« حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ والصَّلاَةِ الْوُسْطَى وَقُومُواْ لِلّهِ قَانِتِينَ» ( البقرة 238 ). وفى صفة عباد الرحمن المتوسطين فى إنفاقهم بين السرف والتقتير: «وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا» ( الفرقان 67).. » وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا « ( الاسراء 29 ) . وفى القصد والاعتدال فى الشعور: «لِكَيْلاَ تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ» ( الحديد 23 ).. «ولَا تَمْشِ فِى الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا» ( الاسراء 37 ). إن المطالع للقرآن الحكيم يرى هذه الحفاوة بالوسطية فى كل ما زكاه من الخصال والسجايا والأخلاق.. فالكرم وسط بين الشح والتبذير، والشجاعة وسط بين الجبن والتهور، والتواضع وسط بين الكبر والمذلّة أو الاستجداء، والحياء وسط بين الخور والوقاحة، والحلم وسط بين الطيش وبين الظلم والمحاباة، والرفق وسط بين العنف والإضاعة.. وكذلك كل حميد من الخصال حث عليه القرآن الكريم. والوسطية الإسلامية ليست حجرًا على العقول، ولا هى غلق للاجتهاد أو دعوة للجمود ، وإنما هى معيار موضوعى منارُ المؤمنِ فيه القرآنُ والسنة، وهما لم يغلقا بابًا للرأى أو بابًا للاجتهاد الذى تمثل الوسطية سمةً أساسيةً من سماته. عن هذه الوسطية تحدث رسول القرآن عليه السلام فقال: «خير الأمور أوسطها«، وقال الإمام علىّ الذى كان نجيبًا فى مدرسة النبوّة:» اليمين والشمال مضلّة، والطريق الوسطى هى الجادة، عليها باقى الكتاب وآثار النبوّة ومنها منفذ السنّة، وإليها مصير العاقبة. هلك من ادعى وخاب من افترى». ترك المتطرفون والغلاة وجافوا هذه الشميلة والقيمة الإنسانية، المزكاة فى القرآن الحكيم وفى السنة النبوية وفى الأثر. هذا الترك وهذه المجافاة دليل على أنهم لم يستوعبوا الإسلام ولم يفهموه، أو أنهم يعرفون شريعته وأحكامه ولكنهم يتحايلون ويغالطون، وهما على الحالين. ليسوا موضع ثقة، ولا يمكن أن يكونوا منارة للاقتداء! لمزيد من مقالات رجائى عطية