تعنى وسطية العقيدة أنها عقيدة خيرة، سمحة واضحة، مستقيمة عادلة، لا إكراه فيها، ولا تعقيد، يؤمن العباد فيها بالله الواحد الأحد الفرد الصمد الذى لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوًا أحد، ويؤمن العباد فيها إيمانًا لا تمثيل فيه ولا تعطيل، لأن الله سبحانه وتعالى ليس كمثله شىء وهو السميع البصير. وكما تتجلى وسطية العقيدة فى عدم التمثيل والتعطيل فى الصفات فإنها تتجلى أيضًا فى الإيمان بالقدر، فنرى أهل السنة لا يقولون إن الإنسان مجبور على عمله، ولا ينكرون القدر،إنما وقف أهل السنة والجماعة الموقف الوسط، فيؤمنون بالقدر خيره وشره ولا ينفونه، وفى الوقت نفسه لا يقولون إن الإنسان مجبور على كل أعماله مسلوب الإرادة. إنهم يثبتون أن الله تعالى خالق كل شىء وأنه ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن ويؤمنون أيضًا بأن للعبد قدرة واختيارًا، فيقفون موقفًا وسطًا بين الذين ينفون اختيار العبد، والذين ينفون القدر، فيؤمنون بأن الله على كل شىء قدير، وأنه لا يكون فى ملكه إلا ما يريد، كما تتجلى وسطية العقيدة بعدم الإغراق والتوسع فى الإيمان بكل شىء سواء أكان حقًا أو غير حق، قام عليه دليل أو لم يقم، وأيضًا بعدم الركون إلى الماديين الذين يقولون: الحياة مادة، ولا يؤمنون إلا بالمحسوسات والتى يدركونها بحواسهم، فلا يؤمنون بالغيب ولا بما قامت الأدلة على وجوب الإيمان به، وإنما يؤمنون بالغيب وبما جاء به القرآن الكريم والسنة الصحيحة (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاة وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ) الآية 3- سورة البقرة). وتتجلى وسطية العقيدة فى الإيمان «بالملائكة» وأنهم عباد مكرمون لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، فلا ننزلهم عن مكانتهم كما فعل بعض المخالفين ممن حقروهم وقولوا عنهم إنهم إناث، ولا مغالاة فى شأنهم كالذين عبدوهم وألهوهم، فكلا الفريقين على خطأ، وإنما هم عباد الله خلقهم لمهمة سامية وجعل لهم وظائف كلفهم بها منهم ملك الوحى ومنهم ملك الموت ومنهم حملة العرش ومنهم السياحون فى الأرض ومنهم الحفظة إلى آخر الوظائف التى خلقوا لها. وفى الإيمان بالرسل تتجلى الوسطية فى عدم الغلو فى الإيمان بهم، كمن غالى حتى ألههم ولا نفرط فنساويهم بسائر الناس بل إنهم معصومون ويوحى إليهم من ربهم فالذين قدسوا الأنبياء وعبدوهم ورفعوهم إلى مرتبة الألوهية على باطل، والذين كذبوهم او قتلوهم - كبعض الأمم السابقة على باطل، فالأنبياء بشر ولكنهم يتميزون بالوحى الإلهى لهم وبعصمتهم. قال الله تعالى: ( قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَانَ لَنَا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُؤْمِنُونَ) آية 11 - سورة إبراهيم). وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تطرونى كما أطرت النصارى ابن مريم إنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله». رواه أحمد والبخارى والدارمى. وجملة القول أن دعوة الإسلام إلى العقيدة الحقة التى نؤمن فيها بالله ربًا وبالإسلام دينًا وبسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم نبيًا ورسولًا، دعوة فيها التوجيه الإسلامى، وليس فيها الإكراه عليها، كما قال الله تعالى لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنْ الغَيِّ (آية 256 - سورة البقرة). الوسطية فى العبادة من العبادات التى تتجلى فيها الوسطية: الصلاة، فليست كثيرة شاقة ولا قليلة لا تترك أثرًا، بل هى خمس صلوات فى اليوم والليلة، ولا تعارض بين أدائها و العمل فى الحياة، والسعى فى الرزق، فالمسلم يعمل ويكدح، ويسعى، فإذا نودى للصلاة، أجاب ثم يعود إلى عمله.. وهكذا فهو يعمل لدنياه ويعمل لآخرته. وفى يوم الجمعة يقول تعالى: ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (9) فَإِذَا قُضِيَتْ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (الآيتان 9 ،10 - سورة الجمعة). ولا تستغرق مساحة كبيرة من اليوم، وإنما حددها رب العزة سبحانه فى مواقيت معينة دون إفراط ولا تفريط، ولا مشقة فى أدائها ولا حرج: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا (آية 286 - سورة البقرة). وقال سبحانه وتعالى ) فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ (آية 16 - سورة التغابن). وفى أداء الصلاة والقراءة فيها لا يجهر بها ولا يخافت، كما قال الله تعالى: وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً (آية 110 - سورة الإسراء). وألا يؤدى صلاته بسرعة دون طمأنينة ولا يطيل بالمصلين إذا كان إماما إطالة تشق عليهم، بل عليه أن يؤدى صلاته بكامل أركانها مطمئنًا بها خاشعًا لله وألا يطيل بالناس. وعندما أطال معاذ فى صلاته، وشكا منه بعض المسلمين قال له الرسول صلى الله عليه وسلم «أفتان أنت» قالها ثلاث مرات، ثم قلا: «فلولا صليت بسبَح اسم ربك الأعلى، والشمس وضحاها، واليل إذا يغشى، فإنه يصلى وراءك الكبير والضعيف وذو الحاجة» رواه أحمد والجماعة. وقد وجه الرسول صلى الله عليه وسلم بعض الذين أرادوا أن يشددوا على أنفسهم بعد أن سمعوا موعظته وجههم إلى الوسطية وعدم المغالاة. عن أنس رضى الله عنه أن نفرًا من أصحاب النبى صلى الله عليه وسلم سألوا أزواج النبى صلى الله عليه وسلم عن عمله فى السر، فقال بعضهم: لا أتزوج النساء، وقال بعضهم لا آكل اللحم، وقال بعضهم: لا أنام على فراش، فحمد الله وأثنى عليه فقال: «ما بال أقوام قالوا كذا وكذا لكنى أصلى وأنام وأصوم وأفطر وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتى فليس منى» رواه مسلم. وقد أمرنا الله تعالى بأن نقتدى برسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً (آية 21 - سورة الأحزاب). وهكذا كان الرسول صلوات الله وسلامه عليه - وهو الأسوة الحسنة والنبى المعصوم المقتدى به - يحث على الوسطية وينهى عن المغالاة، والتشدد، وقد قال رب العزة سبحانه. وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ (آية 195 - سورة البقرة). وعن ابن مسعود رضى الله عنه أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: «هلك المتنطعون، هلك المتنطعون» وهم المتعمقون الذين يتشددون فى غير موضع التشديد. والحديث رواه مسلم. ساعة وساعة إن رحمة الإنسان بنفسه لها أهميتها وأثرها، حتى ولو كان ما يأتيه الإنسان عملًا من أعمال العبادة، فالإسلام يدعو الإنسان إلى إعطاء جسده قسطًا من الراحة، ليستطيع القيام بأعماله وعباداته. عن ابى ربعى حنظلة بن الربيع أحد كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لقينى أبو بكر الصديق رضى الله عنه فقال: كيف أنت يا حنظلة؟ قلت: نافق حنظلة، قال: سبحان الله ما تقول؟، قلت نكون عند رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكرنا بالجنة والنار كأنا رأى عين، فإذا خرجنا من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات (أى: مارسنا ولاعبنا) نسينا كثيرًا، قال أبو بكر رضى الله عنه:فوالله إنا لنلقى مثل هذا، فانطلقت أنا وأبو بكر حتى دخلنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم: فقلت: يا رسول الله نكون عندك تذكرنا بالنار والجنة كأنا رأى العين، فإذا خرجنا من عندك عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات، نسينا كثيرًا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «والذى نفسى بيده لو تدومون على ما تكونون عليه عندى وفى الذكر لصافحتكم الملائكة على فرشكم وفى طرقكم، ولكن يا حنظلة ساعة وساعة، ساعة وساعة». رواه مسلم تلك هى رحمة الإنسان شرعها الإسلام وجعل تعاليمه تنادى إليها وتحرص عليها. وكما نلاحظ الوسطية فى الصلاة نلاحظها أيضًا فى الزكاة فلم تفرض فى كل وقت، ولكن: «وآتوا حقه يوم حصاده»، وعند بلوغ النصاب وفى النقدين بعد مرور حول، وإذا كان الجهد المبذول أكثر كان ما يدفع أقل، وإذا كان الجهد أقل كان ما يدفع أكثر فما سقى من الزروع والثمار بماء السماء أو بدون آلة أو تعب ففيه العشر، وما كان بتعب أو آلة ففيه نصف العشر، وما كان فيه تعب أكثر وجهد أكثر ففيه ربع العشر كزكاة النقدين وعروض التجارة، وما جاء بلا تعب كالركاز ففيه الخمس. وإذا نظرنا إلى الصيام وجدنا أنه يرخص بالفطر للمريض والمسافر والحامل والمرضع، وعليهم القضاء بعد ذلك، وأن الحج إنما يجب مرة واحدة فى العمر كله وهو على المستطيع. وهكذا نرى أن العبادات لا مشقة فيها ولا حرج، قال تعالى:( يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ) (آية 185 - سورة البقرة). وقال الله سبحانه:( وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ )(آية 78 - سورة الحج). كما قال الله تعالى: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ) (آية 286 - سورة البقرة).