رئيس الوزراء يصدر 9 قرارات جديدة (تفاصيل)    تراجع طفيف.. سعر الريال السعودي اليوم الخميس 29-5-2025 الآن في البنوك    وزير السياحة يختتم زيارته إلى صربيا بلقاءات إعلامية لتسليط الضوء على آفاق التعاون بين البلدين    أسعار الخضروات في سوق العبور للجملة اليوم الخميس 29 مايو    «وزير الاتصالات»: الكلفة التقديرية للعام الأول ل«الرواد الرقميون» 3 مليارات جنيه    تباين مؤشرات البورصة في بداية تعاملات الخميس    آخر موعد لحجز وحدات سكن لكل المصريين 7 لمتوسطى الدخل    أولمرت: ما يحدث بغزة جريمة ولم نعد قادرين على الدفاع عن إسرائيل    صدمات لا تتوقف| إيقاف قيد جديد للزمالك    صباح يوم النصر.. صفقات الأهلي تظهر في التتش تمهيدا لكأس العالم    موعد نتائج امتحانات النقل للمرحلة الابتدائية بالقاهرة عبر بوابة التعليم الأساسي 2025 (روابط)    بعثة الحج تعلن وصول آخر أفواج حجاج القرعة إلى المدينة المنورة    طقس الخميس ربيعي مائل للحرارة نهارا ومعتدل ليلا    وزير العمل: صرف 980 ألف جنية تعويضات لضحايا حادث المنوفية    قصر ثقافة أسيوط يعرض «الإسكافى ملكاً» ضمن مهرجان المسرح الإقليمي    التفاصيل الكاملة لجوائز مهرجان الهلال الذهبي بالعراق في دورته السابعة    فيلم تامر حسني الجديد اسمه «ريستارت» ومتوفر في دور العرض    محمد سامي: «لو بتأثر بالنقد السلبي كنت بطلت من زمان»    كل ما تريد معرفته عن سنن الأضحية وحكم حلق الشعر والأظافر للمُضحي    وزير الصحة يعلن اعتماد قرار تاريخي لدعم أصحاب الأمراض النادرة    سعر الريال القطرى اليوم الخميس 29-5-2025 فى البنوك الرئيسية    بلاغ ضد عضو مجلس نقابة الأطباء بتهمة "إثارة الفزع" والنيابة تُخلي سبيله.. القصة كاملة    تفاقم المجاعة في غزة بسبب إغلاق المعابر ومنع المساعدات    أول تعليق من البيت الأبيض على حكم إلغاء رسوم ترامب الجمركية    صحة غزة: 37 شهيدا فى غارات إسرائيلية على قطاع غزة منذ فجر اليوم    كسوة الكعبة المشرفة.. خيوط من ذهب تُنسَج في قلب مكة المكرمة    استشهاد 23 مواطنا وإصابة آخرين فى مجزرة جديدة بمخيم البريج ومدينة خان يونس    وفاة شخصين في اقتحام مستودع للأمم المتحدة بقطاع غزة    إخلاء مركز السكر لنقل خدمات التأمين الصحي في دمياط    مصرع شاب فى مشاجرة بالبلينا جنوب سوهاج    مؤتمر صحفي للسياحة والآثار اليوم للإعلان عن تفاصيل معرض "كنوز الفراعنة" في إيطاليا    لمعلمي الأزهر، دليلك للوصول إلى لجان امتحانات الثانوية الأزهرية باستخدام ال "QR"    بناء على توجيهات الرئيس السيسي| مدبولي يكشف عن تعديلات قانون الإيجار القديم    المولدات تنقذ مرضى مستشفى قويسنا بعد انقطاع التيار الكهربائي عن المدينة    وفاة شخصين في اقتحام مستودع للأمم المتحدة بقطاع غزة    إيلون ماسك يغادر إدارة ترامب    زلزال بقوة 5.2 درجة يضرب إيران    بعد توجيه شيخ الأزهر.. صرف إعانة إضافية بجانب منحة عيد الأضحى اليوم    للعام الرابع على التوالي.. «مستقبل وطن» المنيا يكرم أوائل الطلبة بديرمواس| صور    ملف يلا كورة.. تتويج الأهلي.. إيقاف قيد الزمالك.. واحتفالات في بيراميدز    موعد أذان الفجر اليوم الخميس ثاني أيام ذي الحجة 1446 هجريًا    «احنا رقم واحد».. تعليق مثير من بيراميدز    الإفراج عن "الطنطاوي": ضغوط خارجية أم صفقة داخلية؟ ولماذا يستمر التنكيل بالإسلاميين؟    أمانات حزب الجبهة الخدمية تعقد اجتماعا لمناقشة خطط عملها ضمن استراتيجية 2030    مقتل سيدة على يد زوجها بالشرقية بعد طعنها ب 21 طعنة    النائب العام يستقبل عددًا من رؤساء الاستئناف للنيابات المتخصصة والنيابات    الشركة المنتجة لفيلم "أحمد وأحمد" تصدم الجمهور السعودي    نشرة التوك شو| ظهور متحور جديد لكورونا.. وتطبيع محتمل مع إسرائيل قد ينطلق من دمشق وبيروت    5 أيام متتالية.. موعد اجازة عيد الأضحى 2025 في مصر للموظفين والبنوك والمدارس    النحاس: أتمنى الاستمرار مع الأهلي بأي دور.. وطلبت من وسام إعادة نسخته الأوروبية    موعد أذان فجر الخميس 2 من ذي الحجة 2025.. وأفضل أعمال العشر الأوائل    إمام عاشور: نركز لتقديم مستوى يليق بالأهلي بكأس العالم.. وردي في الملعب    3 فترات.. فيفا يعلن إيقاف قيد الزمالك مجددا    ماريسكا: عانينا أمام بيتيس بسبب احتفالنا المبالغ فيه أمام نوتينجهام    حكم الجمع بين نية صيام العشر الأوائل من ذي الحجة وقضاء رمضان    الركوع برمزٍ ديني: ماذا تعني الركبة التي تركع بها؟    بداية حدوث الجلطات.. عميد معهد القلب السابق يحذر الحجاج من تناول هذه المشروبات    ألم حاد ونخز في الأعصاب.. أعراض ومضاعفات «الديسك» مرض الملكة رانيا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



حديث فى المنهج: الفرق بين التنوير والتدليس
نشر في الشروق الجديد يوم 16 - 05 - 2019

بما أن التنوير يعنى رفض أية وصاية على العقل الفردى من خارجه، ويفترض قدرة كل إنسان فرد على الوصول إلى الحقيقة والسعادة باستخدام عقله، فإنه يفترض أيضا الالتزام بقواعد المنهج العلمى فى التحليل والاستنتاج، واتساق هذا المنهج دائما، خاصة لدى من يحملون ألقابا مثل المفكر أو الكاتب أو الفيلسوف، وغيرها مما يتشابه معها، أو يقترب منها.
وما دمنا نرفض الوصاية على العقل من خارجه، فيجب أن نقبل حرية كل شخص فى الاعتقاد الدينى والسياسى، وفى الدعوة إلى ما يعتقد أنه الصواب بشرط التزامه بقواعد المنج العلمى كما سبق القول، وعدم المغالطة أو التدليس المنهجيين لأسباب مثل حب الشهرة، أو ممالأة السلطات، أو التربح المالى، أو ابتغاء الحظوة لدى الجهات الدولية النافذة فى السياسة والثقافة، أو الكراهية المطلقة لجماعة، أو دين.
بديهى إذن ألا تثريب لدينا على منكر للأديان أو القوميات أو حتى للمذاهب السياسية التى نراها الأفضل كالديمقراطية، والعدالة الاجتماعية، ما دام أنه قد وصل إلى هذه القناعة بمنطقه الخاص، وما دام أنه لا يخدع غيره على طريقة السوفسطائيين القدامى، وما دام يلتزم بالدستور والقوانين، ولكن التثريب كل التثريب يرد على كل أولئك الذين يمارسون المغالطة والتدليس للأسباب، التى ذكرناها فى الفقرة السابقة أو غيرها.
من هؤلاء أصحاب تفسير نبوة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وما صحبها من صراعات وحروب بأنها ليست سوى إحياء مشروع جده عبدالمطلب بن هاشم لإقامة دوله قومية عربية، وهو المشروع الذى يقال إن عبدالمطلب اقترحه على الملك اليمنى سيف بن ذى يزن، وكأن محمدا (صلعم) كان مجرد نسخة قديمة من ميشيل عفلق، أو نجيب عزورى، أو ساطع الحصرى، أوكأن محمدا كان أول من دعا إلى دين توحيدى فى تاريخ البشرية.
كان يكفى لدحض هذه النظرية تذكر أن مقتضاها كان يحتم على جميع أعمام النبى، وعلى جميع الهاشميين حاملى إرث عبدالمطلب، ثم القرشيين الانخراط بسهولة فى الدعوة الجديدة، ولكن الذى حدث كان النقيض على طول الخط، فلم ينضم من أبناء عبدالمطلب إلى محمد سوى عمه حمزة، من باب الحمية ضد عدوان أبى جهل على النبى فى البداية، ثم عمه العباس بعد فتح مكة، بل إن العم الأكبر كافل محمد، وزعيم بنى هاشم (أبا طالب) لم يتحول إلى الإسلام، ومات على الكفر، رغم المحبة المتبادلة بينه وبين بن أخيه، وعلى الرغم من الحماية المطلقة والفعالة التى أسبغها على النبى، وليس عداء العم أبى لهب الشرس هو وزوجته لمحمد ودعوته مجهولا لاحد، وهو عداء وصل إلى إجبار ابنيهما على تطليق ابنتى محمد.
كذلك كان عداء الغالبية الغالبة من أبناء أعمام النبى لدعوته واضحة، وتجسده قصة النضر بن الحارث، أما عداوة قريش فى معظمها «لمشروع دولة محمد القومية العربية» فيشكل مجمل تاريخ هذه الدعوة حتى فتح مكة، من أول الاضطهاد والتعذيب، حتى الحصار لمدة ثلاث سنوات فى شعب أبى طالب، ثم الدعاية المضادة لدى قبائل العرب، وأخيرا إجبار المسلمين على الهجرة، والحروب من بدر إلى أحد إلى الخندق، والتحالف مع يهود يثرب، والقبائل المحيطة لاجتثاث المسلمين والإسلام.
فإذن كيف فات على قريش أن محمد يخطط لإقامة دولة تجعلهم أسياد العرب؟! سؤال لم يقدم أصحاب هذه النظرية إجابة مقنعة لهم، ولكنهم بدلا من ذلك ركزوا على ما حدث من بعد من تطورات سياسية واجتماعية دفعت بالقرشيين للسيادة على الدولة الناشئة، والاستئثار بمواردها، إلى حد الاستغلال الطبقى أحيانا، والاستعلاء العنصرى فى أحيان أخرى.
وفى نموذج آخر للتدليس باسم التنوير قال البعض إن اعتماد القرآن الكريم على العقوبات البدنية فى تشريعاته الجنائية ليس إلا انعكاسا لقسوة ووحشية الحياة والطبيعة فى مكة المكرمة، وامتدادا لنمط معيشة قبلية يقوم على القتل والثأر والسلب والنهب، أى إنها نتاج طبيعى للبيئة الجبلية الصحراوية، والأعراف والعادات الاجتماعية، وقد رددت على القائل بهذه الرؤية بأن تشريعات حمورابى فى بيئة زراعية حضرية فى بلاد الرافدين كانت تنص على هذه العقوبات، وبأن توراة بنى إسرائيل فى بيئة مختلفة سواء فى مصر، أو فى فلسطين قد نصت عليها أيضا، وأن الفكر الحديث قد أسمى هذه العقوبات بأنها جزء من القانون الطبيعى، بغض النظر عن الجدل حول ملاءمتها للعصر الحديث أم لا؟
كما رددت على حديثه عن ما سماه وحشية العرف الاجتماعى فى مكة وبيئتها القتالية قائلا إن مكة بالذات كانت استثناء من كل ذلك، فقد كان القتال فيها محرما، وإنها اعتمدت فى حياتها التجارية على «الإيلاف» أى التحالف الذى أقامه هاشم بن عبدمناف مع قبائل الشمال والجنوب لتأمين رحلتى الشتاء والصيف، وأضفت أن العرب كانوا يتندرون على عدم إتقان قريش للحرب، مثلما كانوا يتندرون على عدم نبوغها فى الشعر، المتصل عضويا بفكرة الحرب (حتى إن جرير لم يعترف بشاعر قرشى سوى عمر بن ربيعة قائلا: ما زال هذا القرشى يهذى حتى قال شعرا).
وفى حرب الفجار التى تعد أشهر حرب وقعت فى مكة انهزمت قريش أكثر من مرة، ثم إن هؤلاء يتناسون حلف الفضول الذى تأسس لنصرة المظلومين فى مكة قبل الاسلام، فكيف يستقيم أن توصف هذه البيئة الاجتماعية بالوحشية والعنف، وأن يستخدم هذا الوصف باعتباره مصدر التشريعات الجنائية فى الاسلام.
كان أكثر ما أدهشنى من ردود هذا القائل وأشياعه على مداخلاتى أنهم حدثونى عن عبس وذبيان، والبسوس وغير ذلك من أيام العرب الحربية دون التفات عن عمد لخطأ تشخيصهم لأحوال مكة، ومن سمى خطأ نظريتهم فى تفسير العقوبات البدنية فى القرآن الكريم، فإذا لم يكن هذا تدليسا باسم التنوير، فماذا يكون التدليس، ولكن بالطبع دون مصادرة منا على حق أى إنسان فى رفض ما يريد أن يرفضه، ما دام متسقا فى منهجه، دون خداع أو تدليس، ودون إنكار حق الاجتهاد فى تطبيق الحدود عند من يستوفى شروطه من المسلمين.
نموذج ثالث يتمثل فى القائلين بتاريخية النص القرآنى، فهم لا يطبقون هذا المنهج على ما يصفونه «بمسبة» إقرار الاسلام للرق، إذ يقتضى منهجهم قبول هذا الإقرار بسبب رسوخ هذه الممارسة وانتشارها، لأنه يستحيل عقلا إبطالها أو الحد منها دون تدرج فى وقت يشتد فيه الصراع حول فكرة التوحيد الإلهى نفسها، ثم يتجاهل هؤلاء أن الاسلام حرّم كل مصادر الرق إلا الأسر فى الحروب، ثم حث على المن على الأسير بالحرية، أو قبول الفدية، إلى سائر ما هو معروف من الكفارات عن الذنوب بتحرير الرقاب، وقصارى القول فى مسألة الرق كغيرها من التطبيقات الاجتماعية الجدلية كتعدد الزوجات إن الاسلام لم يوجب هذه التطبيقات كركن من أركانه، بل أباحها فقط، بمعنى أن المسلم يكون مسلما صحيح الاسلام دون أن يعدد الزوجات، أو يقتنى رقيقا بل الأفضل ألا يفعل ذلك، أعود فأذكر أننى أتحدث فى المنهج فى المقام الأول على الرغم من الاستطراد السابق.
من الصعب استقصاء كل حالات التدليس باسم التنوير، ولكن بوسع القارئ أن يقيس على ذلك كثيرا من «الفرقعات التليفزيونية» التى تقال سعيا وراء جائزة دولية، أو اجتزاء لواقعة هنا أو هناك فى التاريخ من سياقها سابقا ولاحقا، حين يعترف صاحب هذه الواقعة بأنه أخطأ، أو بسبب الانخراط فى ترويج سياسات معينة فى الاقليم، وبالطبع لا يقل فداحة عن ذلك ما يرتكبه المتطرفون والمتنطعون باسم الاسلام من شرور ومفاسد وكراهية ومغالطات وتدليس.. ولهذا حديث آخر.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.