أماكن على تخوم المدينة يحكمها المجلس العرفى ومراكز القوى منها «الكيلو أربعة ونص» بالقرب من مدينة نصر، نحو مليون نسمة تلمع بينهم أسماء بعينها كأبوعزت زعيم الفيومية. هو أحد مراكز القوى بمستعمرة الفقراء. هنا بالكيلو 4.5 يبدو «أبوعزت» قطبا مهما فى تحريك الأحداث. منذ الوهلة الأولى تلمح قوة الرجل، كلمته نافذة رغم مستواه التعليمى البسيط. صلعة عريضة، جلباب نظيف وأصابع ناعمة لا سيما بعد أن تخلى «الفواعلى» القديم عن قصعته. فقد نزح «أبوعزت» من مسقط رأسه بإحدى قرى الفيوم فى منتصف التسعينيات. بدأ حياته عاملا بسيطا عمل على إعمار المنطقة، التى ما لبثت أن ازدهرت خاصة بعد قدوم نازحين إليها عقب كارثة زلزال 92 وسيول درنكة وسقوط صخرة المقطم. مع الوقت استطاع العامل البسيط أن يستفيد من الحراك الاجتماعى فى المنطقة لاسيما أنه عمل بالسمسرة وبيع الأراضى. ساعدته طفرة أسعار الأراضى على أن يتسلق السلم الاجتماعى ليصبح من» أهل القمة». كان متر الأرض قبل عام 90 يباع مقابل 50 قرشا وصل اليوم إلى 1200 جنيه، حسب تميز موقع القطعة قربا أو بعدا من مراكز العمران فى مدينة نصر ومنطقة الشروق. تحول «الفاعل» إلى سمسار «أد الدنيا» صاحب قهوة وسوبر ماركت وبيت ملك، أى دخل عالم أثرياء المنطقة من أوسع أبوابه وتخلى أيضا عن لقب «أسطى» بعد أن أصبح اليوم «أبوعزت بيه». لكنه لم يتخل عن جلبابه الذى يجعله أكثر قربا من الناس، من يدرى ربما خطر بباله فكرة خوض تجربة الانتخابات! أبوعزت هو كبير النازحين من الفيوم أو «الفيومية» كما يطلق عليهم سكان المنطقة. رأيه مسموع لديهم، ووجوده دائم فى حياتهم. هو يجامل وينقط فى الأفراح ويتدخل «ليخلص» فى الخناقات وبكلمة واحدة منه تحقن الدماء وتتحرك «عملية السلام». وهو أيضا يحتفظ «بعلاقات وثيقة مع أمناء الشرطة والعساكر ويخدم كويس»، كما يؤكد أبومنى واحد من بلدياته ومريديه: «عندما يقع واحد من الفيومية فى ورطة يذهب معه أبوعزت للقسم ويقوم بالواجب. فقد يكلف محامى بالدفاع عن المتهم أو يستعمل معارفه فى إدخال طعام وسجاير للمحبوسين». فى غضون خمسة عشر عاما مضت استطاع الرجل أن يكتسب شعبية واسعة وأصبح اليوم بمثابة زعيم «الفيومية» فى المنطقة بل ممثل عنهم فى العالم الخارجى وهمزة الوصل مع رموز السلطة. الكيلو 4.5 منطقة مترامية الأطراف، ولدت فى خضم أزمة السكن. بالفعل هى واحدة من 1034 منطقة عشوائية فى مصر تضم جميعها نحو 12 مليون نسمة، طبقا لتقديرات وزارة الإسكان. سكانها كسائر أهالى العشوائيات محرومون من أبسط حقوقهم كالأمن، فالمنطقة التى تمتد حتى أقدام حى مدينة نصر وتحدها من الشرق مدينة الشروق، بينما يقع فى جنوبها طريق القاهرةالسويس لا يوجد بها قسم شرطة واحد، رغم أن عدد السكان قد يتراوح وفقا لبعض دراسات الناخبين لقرابة المليون نسمة. أقرب نقطة شرطة هى نقطة الشروق وأقرب مراكز شرطة هما قسما مدينة نصر أول وثان الموجودان أسفل المستعمرة. ونظرا للغياب الأمنى فقد حقق السكان حالة من الاكتفاء الذاتى فى إدارة شئونهم، فظهرت وجوه وأشكال جديدة للنفوذ والهيمنة. يقول الباحث محمد العدوى الذى أجرى دراسة تحت عنوان «العشوائيات والأمن القومى» بالمركز المصرى لحقوق السكن إن «العشوائيات معناها أنه فى أماكن طلعت ومالناش دعوة بها، طلعت شيطانى لذا أطلق عليها مناطق غير مخططة، أما بالنسبة للأمن القومى، فأنا لا يمكن أن أعزله عن فكرة الأمن البشرى داخل هذه المناطق فانعدام الأمن داخل هذه العشوائيات خلق نوعا من الثقافات الفرعية». تفرض ثقافة العشوائيات وطبيعة المكان أشكال تلاحم واندماج لها تنظيماتها الخاصة، وتعتمد إلى حد كبير على التضامن والتطبيع الاجتماعى كما أكد الباحث عصام فوزى. حس قبلى جاء السكان من كل حدب وصوب بهدف البحث عن فرص عمل، فاختلط ناس من بحرى والصعيد «الجوانى» بفقراء العاصمة ليحدثوا مزيجا فريدا من الوجوه البشرية، التى لا يجمع بينها سوى عشوائية المكان والبيوت المتلاصقة كعلب الكبريت. تنظيمات غير رسمية ولكن لها سطوة، أبوعزت زعيم الفيومية، أما الصعايدة فقد اتخذوا لهم كبيرا عملا بالمثل القائل: «من ليس له ظهر يضرب على بطنه!» يحكى أحمد حلاق من سكان المنطقة أنه منذ عدة شهور حدثت مشادة بين سائق سيارة نصف نقل من الفيوم وبائع روبابكيا من الصعايدة، تجمع الفريقان وتحولت المنطقة إلى ترسانة حربية تحت وطأة الأعيرة النارية. «كانت مجرد مناورات لاستعراض القوى بين الفريقين، ولم يتدخل البوليس فتدخله وقتيا، ولن يحل المشكلة من جذورها. الكبار كان لازم يقعدوا مع بعض ويحلوها رغم الهدوء النسبى فإن الاحتقان ما زال موجودا»، هكذا يعلق أحمد الذى فقد زبائنه من الصعايدة لأنه انحاز إلى «نسايبه» من الفيوم. من ليس له «ظهر» فى المنطقة يستطيع العيش بأساليب أخرى تحت حماية أحد مراكز القوى، فرأى المجلس العرفى مسموع لدى الجميع. مثلا عندما فسخ سيد خطبته لبنت الجيران وتحدث عنها بسوء غضبت أسرة الفتاة، وكادت تصبح «عركة» لولا أن الأسرتين ارتضيتا التحكيم عن طريق مجلس عرفى من سكان المنطقة الأثرياء أو «الشبعانين» على حد تعبير أم سيد المشهود لهم بحسن السمعة. تضيف أم سيد: «حكم علينا أن ندفع 4500 جنيه تعويض كرد شرف لأهل البنت. اضطررت أن أخضع لكلام المجلس رغم ضيق ذات اليد فأنا عاملة بسيطة أجرى على أولادى. لكن لو لم أنفذ الحكم لأصبحت منبوذة فى المكان ولا أحد يتعامل معى فى أى شىء لأننى ببساطة ليس لى كبير. فكنت سأخسر ما هو أكثر من هذا المبلغ». خلف التبة مقهى وإذا كان كبير القبيلة أو قضاة المجالس العرفية يمثلان أحد أقطاب مراكز القوى فى مستعمرة الكيلو 4.5 فثمة أشكال أخرى تستغل عشوائية المكان لتنسج بخيوطها فارضة نفوذها بالقوة. فخلف التبة المرتفعة هناك من يستغل الطبيعة الجغرافية للمكان للقيام بأعمال منافية للقانون حيث توجد أحد المقاهى سيئة السمعة. كثير من الشباب، الذين يعانون من البطالة يصطادهم صاحب القهوة ليبيع لهم البانجو أثناء مشاهدة الأفلام الإباحية بل لترويج المخدرات خارج المنطقة لأبناء الأغنياء. لدى صاحب هذا المقهى مجموعة من»البلطجية» و«القبضايات» القادرين على فرض سيطرتهم على الشارع بأكمله وتكميم الأفواه. حنان، 26 سنة عاملة فى أحد المصانع، تتأذى من وابل الشتائم والألفاظ النابية تمطر عليهم كطير الأبابيل: «أصبحنا لا نستطيع العيش فى هذا الشارع. إذا فتحت شباك لأنشر الغسيل يجب أن أتحمل تعليقات الحشاشين، بل الأكثر من ذلك هو استقطاب صاحب القهوة لإخوتى. أصبحت الحياة لا تطاق، كنت خايفة شقا عمرى يضيع مع دخان البانجو المتصاعد، خفت على إخوتى فهربت واستأجرت منزلا أغلى بإيجار 600 جنيه شهريا لكن بعيد عن مركز القوى ده وبلطجيته». ويؤكد العدوى فى دراسته عن العشوائيات أن هناك بعض الأسر أو «البلطجية» الموجودين فى هذه المناطق تتم توظيفها من قبل العديد من الأجهزة فى سبيل خدمة تأمين هذه المناطق وضمان عدم ثورتها على النظام القائم، بل قد يقوم بعض المسئولين بحماية هؤلاء «البلطجية» نظرا لما قد يقدمونه من خدمات أثناء الحملات الانتخابية من حيث جمع الأفراد أو إرهاب المنافسين. غياب الدولة ليس السبب الوحيد لتقوية شوكة تلك المراكز سواء الشرعى منها أو غير الشرعى. فمراكز القوى فى الكيلو أربعة ونص أصبحت تستمد نفوذها من نشأة جيل جديد فى رحم العشوائيات، جيل لم ير فى حياته أشكالا أخرى للسكن سوى هذه المستعمرات، تربى على ثقافتها وأنماط ووسائل إدارة حياة الناس لشئونهم بها. فهناك 200 ألف نسمة سنويا يولدون فى العشوائيات، ولم يروا أحياء غيرها ولا يربطهم بالعالم الخارجى سوى بطاقة الرقم القومى.