أجابتها السيده دالية: «تاريخ الشعب فى بلادنا متصل، ومطرز كما الثوب بما نثرته حوله الحضارات». قدم لنا الروائى الفلسطينى يحيى يخلف فى تلك الرواية «جنة ونار» الصادرة لعام 2011 عن دار الشروق، السؤال الأهم متمثلا فى رحلة سعى سماء، التى تبحث فى تلك الرحلة عن جذور وتاريخ المكان والناس، تقودها رغبتها فى التعلم أكثر لتكتشف هويتها، يموت أبو حامد ويترك سماء وزوجته السيدة سميحة، ويترك سره حبيسا فى صندوق مغلق فيه القطعة المزركشة على قماش الحقيبة هى قطعة ثوب أمها، الذى هو ثوب «جنة ونار». نسيجه فى مجدل عسقلان، وتطريزه على الأرج تم فى بيت دجل. فجنة ونار هو ثوب فلسطينى يحتفظ بتراثه الثقافى ومدلوله الشعبى لبيئة فلسطينية معينة تسكن فى مجدل عسقلان أو الأرج أو بيت دجل»، وهذا ما ستعلمه سماء مستقبلا. مع وفاة أبو حامد يتوافد الأقارب للعزاء، نتعرف على هذا الحاج حسين صديقه الصدوق، وهذه بدرية زوجة نجيب التى أتت من الشام لواجب العزاء وستمكث معهم، بدرية تقوم بدور الربط بين أوصال التاريخ فى مخيلة سماء تمهيدا منها لكى تطلعها على السر، مرورا بالنكبة وأحداث الحرب إلى ما قبل الخراب والغوص فى أغوار التاريخ لتتعرف سماء من خلال حكايات بدرية عن الخراب الذى تسببت فيه الحرب من دمار ولجوء الأهل إلى البلاد المجاورة يسكنون المخيمات كما هو الحال الآن، تحكى حال الألفة والحب الذى كان يغلف الوضع ويكسوه فى الماضى. يصف لنا الكاتب يحيى يخلف الفائز بجائزة ملتقى الرواية العربية بالقاهرة فى دورته الأخيرة، بدرية ساردا: «بل إن بدرية تبدو كما لو أن لها وجه إمرأة، وجسد سمكة، كما لو أنها غزالة كنعانية ترعى فوق جبال من الغيوم». بعدما علمت سماء السر الذى خبأته عنها أسرتها بالتبنى المتمثلة فى أبو حامد وسميحة فقد وجدها أبو حامد فى حطام الحرب إثر النكبة، ومعها قطعة قماش مطرزة وغطاء رأس لأمها هذه القماشة التى ترمز للإرث الشعبى الذى يحتفظ بذاكرة المكان الحضارية والثقافية الفلسطينية ويؤكد هويتها التى تتذكرها الأجيال جيل بعد جيل، فهى الشابة اليافعة التى تبحث عن أمها، فتسافر من بيروت إلى فلسطين إلى الأردن. لعل اختيار اسم سماء ليس صدفة، فهى هبة للأرض هبة السعى نحو الجذور والغوص حول الهوية فكون القدس مهد الحضارات ومهبط الأنبياء فكل ذلك كان من السماء، فسماء هى حكاية الحضارات وحكاية التاريخ تبدأ من هنا. تعود بدرية إلى بيتها فى دمش مشتاقة لزوجها نجيب، وسرعان ما تعرف بأنه سافر فى رحلة وسيعود، تتمنى أن يعود سالما فهى تشغل المذياع فتجد الخبر: «خبر ساخن تحدث عن غارات جوية على جنوبى لبنان.. على مواقع الفدائيين فى الهبارية، الخيام، النبطية.. استنفرت أعصابها. وقع قلبها قفزت إلى عقلها صورة نجيب..». «حاولت أن تبعد الهواجس، أن تتسلح بقوة تطرد هذا الوسواس الذى يغزو أفكارها.. حاولت أن تتذكر كلام نجيب الذى قال لها عندما قصف الإسرائيليون قواعد الفدائيين فى قطاع الجولان: إذا سمعت أن هناك غارات إسرائيلية فلا تقلقى، لأن الفدائيين فى وقت الاستنفار ولدى سماعهم أزيز الطائرت ينتشرون ويختبئون فى الحفر وخلف الصخور.. لذلك يكون القصف عشوائيا، وعلى المواقع التى تم إخلاؤها». وأصبح لدى سماء هدف تركت كل شىء وراءها لأجل البحث عن الجذور ومعرفة ما حدث ولأجله تركت البيت والجامعة وبيروت، وذهبت إلى بدرية فقد علمت وتحتاج لمن يساعدها، تبدأ بدرية بمساعدتها. هناك طريقان يسردهما القاص والكاتب يحيى يخلف، بإنتظام سردى طريق سماء وطريق الإنجليزى الذى يدخل فى رحلة البحث كذلك فهو أيضا فلسيطينى. لكنه تربى فى مجتمع إنجليزى. وتبدأ الفتاة المشاكسة والعنيدة كالشباب، سماء فى بحثها وبمساعدة بدرية إلى أن تصل لأمها كما لو أن العودة تمثل فى الوطن هى أمة تعود بل تستقبل أولادها. سماء التى تتمسك بالتعرف على التاريخ فى سبيل الوصول للهوية والجذور التى توصلها إلى أمها، تقول: «كلما عرفت شيئا عن تلك الحضارة أشعر بأننى اقتربت من العثور على أمى». تخبر بدرية فى حديث سردى متسلسل زمنيا عن تاريخ الثوب الفلسطينى قائلة: «الأثواب الفلسطينية تمثل روح حضارة الشعب الفلسطينى فأصول الثوب الفلسطينى تعود إلى آلاف السنين، تعود إلى أجدادنا الكنعانيين». وتتمسك سماء بالعلم، فهو ملجأ للمعرفة ومن هنا لكن تساعدها بدرية فى التعرف على هدى الصفدى، وبمساعدة دالية أستاذة تاريخ مختصة بالتراث خاصة فى الشأن الفلسيطنى تحكى لها والفتاة تسمع بنهم شديد، دالية تمثل العقد المنصرف الذى يملى على الأجيال القادمة معنى الحضارة، وتحلل لها الرسوم والمطرزات الموجودة معها على الشال. قراءة هذه الأحداث فى سبع وثلاثين فصلا، عن عملية بحث حول الجذور والعودة من حيث البداية كانت من هنا مهد الحضارات، المتمثل فى شخص دالية حيث معرفة التراث بشكل علمى سليم دون شعوذة أو جهل، فإن مشقة الطريقة طويل إلا أن سماء كانت تؤمن بقضيتها التى سعت لمعرفتها بالشكل الصحيح فلجئت إلى الأنثروبولوجيا وهو علم الإنسانو دراسة البشر وسلوك الإنسان والمجتمعات الماضية والحاضرة، وكانت مثابرة حول التساؤلات التى كانت تقدمها وبمقدار سعيها احتفظت بتلك المعلومات حتى يتثنى لها الرجوع لها فى دفترها التى تدون فيها، على الرغم من الصمود وشجاعتها حول مواجهة هذا المحتل ودخولها السجن والمحاكمة أد إلى تحقيق الغاية والهدف، فإن الغاية تبرر الوسيلة. يعبر معنا القاص بشاعرية عبر خيوط سردية مؤكدا شجاعة المرأة الفلسطينية ويوصلنا إلى مادة معرفية يصح أن تختصر وتكون مادة تعليمية، فهى تتكون من معارف متعددة حول الانثروبولوجيا وجغرافيا المكان وذاكرة التاريخ التراثية وكمية دسامة المعلومات التاريخية الموزعة فى الرواية بشكل زمنى متراص بحرفة رفيعة تميز بها الكاتب يحيى يخلف فهى رحلة معرفية ممتعه للقارئ ومادة ثقافية حول فلسطين هى كتاب العصر لكل شاب عليه العودة إليه لمعرفة المزيد، ولعلنا نشير إلى أن الكاتب قد خط هذا المشروع حول الهوية فى ثلاث روايات أخرى لعل يسعنا المجال فيما بعد لتقديمها للقارئ، وهى «بحيرة وراء الريح»، و«ماء السماء»، و«نهر يستحم فى البحيرة» فهو كاتب يسعى لحلم التغيير.