لم تجسد ثورة 1919 نضال الشعب المصرى من أجل الاستقلال الوطنى وحسب، بل عبرت أيضا عن آماله فى الحرية والحكم النيابى والبرلمان المنتخب والفصل بين السلطات التى حملتها المطالبة بدستور ديمقراطى. بعثت ثورة 1919 وطنية مصرية حديثة لم ترد فقط إخراج المستعمر البريطانى من البلاد، بل امتلكت الخيال للعمل على إقرار حقوق المواطنة المتساوية لجميع المصريين دون تمييز على أساس الدين وعلى إعادة صياغة العلاقة بين الحكم والمجتمع بحيث يصير الملك مقيدا بالدستور وتصير الحكومة صاحبة السلطة التنفيذية مساءلة من البرلمان مستقر السلطة التشريعية ويخضع الجميع لسلطان القضاء المستقل. وقد ترجم دستور 1923 هذه المبادئ الديمقراطية دون مواربة مثلما أدرج العديد من ضمانات حقوق وحريات المواطنين. على النقيض من الحركة العرابية (1881 1882) التى ارتبطت عضويا بالجيش وقاد نضالها فى مواجهة التمييز ضد المصريين وفى مواجهة استبداد الخديوى توفيق والتدخل الأجنبى ضباط مصريون، كان المواطنون، نساء ورجال، هم قوة دفع ثورة 1919 الحقيقية وطاقتها البشرية التى خرجت إلى الفضاء العام رافعة رايات الاستقلال الوطنى ومانحة سعد زغلول و«الوفد» لشرعية التأييد الشعبى وللحق الحصرى للتعبير عن آمال المصريين فى الحرية إزاء قوة استعمارية متغطرسة وأسرة مالكة لم تتخل عن نزوعها الاستبدادى. على النقيض من الحركة العرابية أيضا، قاد ثورة 1919 مدنيون انتمى معظمهم إلى دولاب الدولة المصرية وعمل فى مؤسساتها التقليدية والحديثة، مدنيون كرسوا بتنوع هوياتهم الدينية شعار «الدين لله والوطن للجميع» وحفزوا بذلك مشاركة جميع طوائف الشعب فى التظاهرات والاحتجاجات التى عمت البلاد، مدنيون امتلكوا آنذاك رؤية واضحة لانتزاع الاستقلال الوطنى عبر التفاوض مع المستعمر وإقرار الدستور الديمقراطى المستند إلى القوة الكاسحة للثورة الشعبية. *** لم تقتصر مفاعيل ثورة 1919 على النضال ضد المستعمر البريطانى ولم تنحصر فى ميادين الحكم والسياسة وحسب، بل امتد خيال 1919 إلى جميع جوانب الحياة المجتمعية. فعلى الرغم من أن مشاركة النساء فى الثورة لم يسفر عنها حصولهن على الحق العام فى التصويت والترشح فى الانتخابات (وهو ما أقره دستور 1956) ، إلا أن أدوار المرأة فى الفضاء العام اتسعت باطراد فى السنوات والعقود التى تلت الثورة وانفتح أمامهن، خاصة فى المناطق الحضرية، مجالات جديدة للتعليم والعمل والإسهامات الفنية والأدبية والموسيقية. دفعت ثورة 1919 بشرائح الطبقة الوسطى إلى واجهة المجتمع واجتاح «الأفندية» المؤسسات التقليدية والحديثة وانتزعوا وظائفها وفرضوا ثقافتهم الخليط (خليط من التقاليد وشىء من الانبهار بالحداثة) على المدن والمناطق الريفية. خلقت ثورة 1919 حراكا فكريا وأدبيا وفلسفيا وفنيا واسعا، ومهدت السنوات التى تلتها لظهور حركات مجتمعية جديدة قومية وشيوعية وعلمانية وإسلامية وعمقت عقود التجربة الديمقراطية الليبرالية التى أرسى دعائمها دستور 1923 من حضور تلك الحركات التى حازت حظوظا مختلفة من القبول الشعبى وشكلت روافد وعى الناس بأحوال البلاد. وفى بوتقة ثورة 1919 تمصر وجود بعض الجاليات الأجنبية وصار وجود أجانب آخرين طبيعيا وغير قابل للإقصاء من النسيج المجتمعى، وظهر ذلك بجلاء فى مرآة الأدب والفن وفى صناعة المسرح والسينما التى تطورت بين 1919 و1952 على نحو مبهر. لا أنكر أن الاستقلال الوطنى ظل منقوصا بين 1919 و1952، فقد تحايلت بريطانيا على حق المصريين المشروع فى تقرير المصير بإعلان 28 فبراير 1922 وأبقت على قواتها العسكرية فى البلاد ولم تكف عن التدخل السافر فى الشئون السياسية (حادثة فبراير 1942 نموذجا) . *** لا أنكر أيضا أن البناء الديمقراطى الليبرالى الذى استند إلى دستور 1923 تكرر الانقلاب عليه من قبل القصر الذى إما حال بين حزب الأغلبية، حزب الوفد، وبين الحصول على ما تضمنه شعبيته فى الانتخابات أو حال بينه وبين الحكم موظفا أحزاب تابعة له ومناوئة للوفد. ولم يقتصر انقلاب القصر على دستور 1923 على تزوير الانتخابات ضد الوفد وتمكين أحزاب محدودة القبول الشعبى من الفوز زيفا وتفضيل حكومات الأقلية الضعيفة التى كانت دوما على استعداد للتخلى عن المبادئ الديمقراطية وتنفيذ رغبات القصر تارة بمعاقبة الوفد وأخرى بفرض الأحكام العرفية، بل امتد إلى تعطيل العمل بالدستور وإلغائه وإحلال دستور رجعى محله لبضع سنوات (دستور 1930 الذى عمل به بين 1930 و1935) . غير أن النواقص التى وردت بين 1919 و1952 على الاستقلال الوطنى والبناء الديمقراطى، فضلا عن الاختلالات الاقتصادية والاجتماعية التى عانت منها البلاد آنذاك، لا تلغى أبدا التحولات الكبرى التى أحدثتها ثورة قربت المصريين من الاستقلال خطوات حقيقية واستمر حزب الوفد الذى ولد من رحمها وعبر عن إنجازاتها ونواقصها صاحب قبول كاسح بين الناس لعقود أعقبت 1919 وظل دستورها إلى اليوم علامة فارقة فى النضال الشعبى من أجل حياة ديمقراطية عمادها الحكومة النيابية والبرلمان المنتخب والفصل بين السلطات والقضاء المستقل حامى حمى حقوق وحريات الأفراد والرقيب على السلطتين التنفيذية والتشريعية. لم تعرف مصر منذ قضى على التجربة الديمقراطية الليبرالية لثورة 1919 فى يوليو 1952 فضاء عاما اقترب فى حريته وتنوعه ولا حياة فكرية وسياسية اقتربت فى عنفوانها مما أتيح للناس بين التاريخيين. لم تعرف مصر منذ أن أنهى العمل بدستور 1923 ودخلنا فى أعقاب 1952 فى زمانية الحكم السلطوى والدساتير المؤقتة والتعديلات الدستورية وفقا لأهواء الحكام، لم تعرف مصر حضورا مستقرا لإطار دستورى يكفل الحقوق والحريات ويضمن الفصل بين السلطات وظل الأمل المشروع فى الديمقراطية إما مؤجلا أو معطلا أو محلا للتحايل تارة باسم صوت المعركة الذى لا يعلو عليه صوت آخر وأخرى باسم الرخاء المقبل وثالثة باسم الخوف من الفوضى وتقويض الاستقرار.