سمعنا الكثير عن الرجل منذ جاء من المجهول، فأدهش كثيرين فى الداخل، وأغضب كثيرين فى الخارج، وقد سنحت لى الفرصة لكى أسمع منه. 1 كان الدكتور أحمدى نجاد يتأهب للذهاب إلى محافظة «آرومية»، التى يسمونها أذربيجان الغربية، لكى يتابع على الطبيعة أحوال الناس، والمشروعات التى تم الاتفاق عليها فى زيارة سابقة. لم يكن وحده، لكنه دأب على أن يصطحب معه أعضاء الحكومة، لكى يباشر كل وزير مسئوليته فى نطاق اختصاصه. لم يعد سفره هذا خبرا مثيرا، لأنه منذ تولى السلطة فى عام 2005 وهو يقوم كل أسبوعين تقريبا بمثل هذه الزيارات، يصل إلى المحافظة ويقضى هناك ما بين ثلاثة وخمسة أيام لكى يذلل للناس الصعاب التى تواجههم ويحل مشكلاتهم الحياتية، وهذه هى زيارته الرابعة بعد الخمسين للمحافظات الإيرانية الثلاثين. الذين خبروه فى طهران يقولون الرجل البالغ من العمر 55 عاما أتعب من حوله، فهو يعمل ما بين 17 و20 ساعة يوميا، ويتابع وزراءه فى أى وقت فى الليل أو النهار. ومنذ تولى منصبه حرص على ثلاثة أمور، أولها: إلغاء مختلف مظاهر الترف فى رئاسة الحكومة، الأمر الذى دفعه إلى التخلص بالبيع من السجاد والأثاث الفاخر والستائر الغالية فى مقر الحكم. ثانيا: أنه تمسك بأن يبقى مع الناس فى الشارع أغلب الوقت. أما الثالث: فإنه حول مقر رئاسة الحكومة إلى خلية نحل لا تهدأ فيها الحياة فى النهار أو الليل، حتى أزعم أن سلوكه هذا سوف يسبب حرجا شديدا لمن سيجىء بعده، لأنه بجولاته المستمرة فى المحافظات كل شهر استن سنة يصعب على غيره احتمالها، أما زهده فى الوجاهة ومباهج السلطة فهو مصدر آخر للحرج. إذ ظل متمسكا بعد انتخابه بمظهره البسيط، وبأن يعيش مع زوجته وأولاده الثلاثة فى بيته الصغير بحى «نارك» فى منطقة طهران بارس (شرقى العاصمة) الذى يسكنه منذ أن كان أستاذا لتخطيط المدن بجامعة العلوم والتكنولوجيا (علم وصنعت) وطوال انخراطه فى حرس الثورة، لكنه اضطر إلى السكن فى فيلا صغيرة بذات الحى استجابة لضغوط وزارة الأمن، وأبقى على عادته اليومية فى أن يحمل غداءه معه إلى المكتب، الذى تعده له زوجته كل صباح، واحتفظ بسيارته «البيجوبارس» السوداء التى اشتراها سنة 2000، وقبل على مضض بأن يرافقه حارسان فقط، أحدهما يجلس إلى جوار السائق، والثانى إلى جواره فى الخلف. وفى بعض الأحيان يستقل سيارته ويقودها بنفسه لكى يقوم ببعض الالتزامات الاجتماعية الخاصة، حتى إنه اختفى من العاصمة ذات مساء، وظلوا يبحثون عنه بلا جدوى، حتى اكتشفوا لاحقا أنه أراد أن يعزى أسرة صديق عزيز فى وفاة حلت بهم، فاصطحب زوجته وأولاده فى السيارة لكى يقوم بالواجب. كان بيت الصديق على بعد 200 كيلو متر من طهران. 2 سألته عن رأيه فى علاقات إيران بالعالم العربى، فأطرق لحظة ثم قال، وقد ارتسمت على وجهه ابتسامة عريضة، إن إيران تحتفظ بعلاقات ممتازة مع الشعوب العربية، لكنها تواجه صعوبة فى الاحتفاظ بعلاقات دافئة مع بعض الأنظمة العربية. والسبب الرئيسى لذلك يرجع إلى الدور الذى لعبته السياسة الأمريكية خلال السنوات الماضية. إذ حرصت تلك السياسة على تلغيم العلاقة مع بعض تلك الأنظمة والوقيعة المستمرة بيننا وبينها. ولذلك أصبحت علاقاتنا الاقتصادية مع تلك الدول أقوى من العلاقات السياسية، وبالمجمل فإننا نسعى دائما إلى تحقيق التفاهم مع الجميع. وخلال السنوات الثلاث الأخيرة مثلا، تمت خمسة لقاءات بيننا وبين العاهل السعودى الملك عبدالله. قلت: إن الأزمة التى وقعت مؤخرا على البحرين بدأت من طهران ولم يكن للأمريكيين علاقة بها، فقال وابتسامته العريضة كما هى: إن ما صدر بخصوص البحرين لم يكن رأى للحكومة، ولكنه رأ ى شخصى لا نوافق عليه، ونحن لا نحاسب الأفراد على آرائهم الشخصية. ورغم أن هناك من أراد أن يستغل الموقف ويحوله إلى أزمة، فإن مملكة البحرين تفهمت موقفنا جيدا بعد الإيضاحات التى قدمت لهم، والاتصالات التى تمت معهم، وقد زارهم وزير الداخلية الإيرانى، وجاءنا وزير داخليتهم ولاحقا زار طهران للمشاركة فى مؤتمر دعم فلسطين، رئيس البرلمان البحرينى ونائبه وبعض أعضاء المجلس التشريعى، الأمر الذى أدى إلى طى الصفحة وإغلاق الملف. قلت ما رأيكم فى التحركات التى تمت فى دمشق خلال الأشهر الأخيرة: جسور التفاوض مع إسرائيل التى مدتها تركيا، وزيارات الوفود الأمريكيةلدمشق، وما يقال عن مصالحات بين الرياضودمشق، قيل إنها مقدمة لفك الارتباط بين دمشقوطهران. فى رده قال: إن إيران تثق جيدا فى سوريا، وهى مطمئنة إلى تحالفها الاستراتيجى معها. لذلك فإن لدى طهران تفهما وإدراكا عميقين لتوجهات السياسة الخارجية السورية. ولا يزعجنا أن تعود العلاقات طبيعية بين دمشق وواشنطن، ثم إننا نرحب كثيرا بالوفاق العربى ونعتبره دائما خطوة متقدمة تمكن العالم العربى من الانصراف إلى مواجهة العدو الحقيقى المتمثل فى إسرائيل. وترحيبنا بالمصالحة العربية لا يقل عن حفاوتنا بالمصالحة الفلسطينية، التى ظلت مصدر قلق كبير. لاحظت أن من بين الذين دعوا إلى المؤتمر الرابع لمساندة القضية الفلسطينية فى الرابع فى شهر مارس الحالى أربعة من الحاخامات اليهود الذين ينتمون إلى فئة «ناطورى كارتا» النشطة فى انجلترا وأمريكا، وقد علق كل واحد منهم على صدره بطاقة صغيرة كتبت عليها عبارة تقول «أنا يهودى ولست صهيونيا»، وهى الجماعة التى تعتبر الصيونية انحرافا عن العقيدة اليهودية وإفسادا لها، وتعارض قيام دولة إسرائيل وترفض الاعتراف بها. شجعنى ذلك على أن أطرح على الرئيس الإيرانى السؤال التالى: ألا ترى أن كلامك عن وجود إسرائيل والهولوكوست سبب مشكلات كثيرة لإيران هى فى غنى عنها، خاصة أنه أثار أصداء فى الغرب استخدمت فى الحملة ضدكم؟ استعاد الرجل ابتسامته العريضة وقال: إن ذلك ليس رأيى وحدى، وقد عبرت عن اقتناعى بأن إسرائيل كيان عنصرى واستيطانى، يستخدم الإرهاب الدولى والفكرى لابتزاز العالم، ومسألة الهولوكوست تدخل فى هذا السياق، ولاحظت أن الرئيس الإيرانى التفت إلى المترجم وكرر عليه عبارة «الكيان الصهيونى» لكى لا يفهم أنه ضد اليهود بشكل عام، ثم أضاف: إن اليهود إذا ما أرادوا أن يعيشوا فى سلام مع العرب فليس أمامهم سوى خيار الدولة الواحدة فى فلسطين، التى تضم المسلمين والمسيحيين واليهود. وقد ثبت أن خيار الدولتين الذى يتحدثون عنه أصبح وهما كبيرا بعد مضى 15 سنة من المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية، التى ظلت إسرائيل تعمل بإصرار خلالها على الحيلولة دون قيام دولة فلسطينية مجاورة، حتى لم تعد لهذه الدولة أى فرصة الآن. 3 خلال الشهر الماضى فى 24/2 كان موضوع غلاف مجلة «نيوزويك» يتحدث عن انهيار الدول النفطيةالتى تنامى نفوذها خلال السنة الأخيرة بسبب ارتفاع أسعار النفط، ولكن انخفاض تلك الأسعار أجهض أحلامها وقصم ظهورها، وكانت إيران وفنزويلا وروسيا على رأس تلك الدول. لذلك سألت الرئيس أحمدى نجاد عن مدى تأثر إيران بالأزمة الاقتصادية العالمية الراهنة، فركز رده على نقطتين، الأولى: أن إيران بسبب الحصار الذى فرض عليها منذ قيام الثورة فى عام 1979، ظلت خارج دورة الاقتصاد العالمى، وبالتالى فإنها بقيت بعيدة عن الانهيارات التى حدثت. صحيح أن الانكماش الذى حدث فى بعض الدول الأوروبية أثر على صادراتها إلى الخارج، لكنه ليس التأثير الذى يحدث هزة فى الداخل، كذلك فإن انخفاض أسعار النفط أثر على مواردها، إلا أن الأسعار الحالية للنفط توفر دخلا طيبا يحول دون وصول الوضع إلى حالة الأزمة. النقطة الثانية والأهم فى رأيه أن إيران لديها درجة عالية من الاكتفاء الذاتى تحصنها من التأثر الموجع بالأزمة العالمية، فهى تنتج 96٪ من احتياجاتها الزراعية و85٪ من احتياجاتها الصناعية، الأمر الذى يعنى أن لديها اكتفاء بنسبة 90٪ فى المتوسط وهى نسبة توفر للبلد درجة معتبرة من الأمان. ظهرت الابتسامة العريضة مجددا على وجه الدكتور أحمدى نجاد، وقال بثقة شديدة: نحن لسنا قلقين على جبهتنا الداخلية، ولا تقلقنا أى تحديات أو ضغوط خارجية، أولا لأننا منذ قامت الثورة نعتمد على الله أولا، وعلى سواعدنا ثانيا ونراهن على شعبنا وحده ثالثا. وجدت تفسيرا لتلك الثقة التى لاحت فى كلامه حين علمت بعد اللقاء أن إيران تصنع سبعة أقمار صناعية الآن، بعدما أطلقت بنجاح قمرها الصناعى الأول، بعد إطلاق صاروخها «أوميد» (الأمل)، وأنها افتتحت مفاعلها النووى فى «بوشهر»،كما حققت نقاطا مهمة فى مشروعها النووى، من أبرزها قبول الإدارة الأمريكية بحقها فى إقامة مشروعها السلمى وحقها فى تخصيب اليورانيوم، واشترطت فقط أن يخضع المشروع لإشراف الوكالة الدولية للطاقة الذرية. سألته عما إذا كان الغلاء الذى يشكو منه الإيرانيون يمكن أن يؤثر على حظوظه فى الانتخابات الرئاسية المقرر إجراؤها فى شهر يونيو القادم، فاستعاد ابتسامته وقال ما يلى: إن فى البلد غلاء حقا، ولكن دخول الفقراء وصغار العاملين فى الحكومة والقطاع الخاص تمت مضاعفتها تقريبا خلال السنوات الثلاث الأخيرة، والأسواق العامرة بالبضائع والرواج الشديد للتجارة هذه الأيام «بمناسبة احتفالات النوروز (عيد الربيع)»، يشهد بأن الوضع فى الواقع أفضل من اللغط المثار حوله. من ناحية أخرى، فالناخب الإيرانى صاحب مفاجآت دائما. وهو عادة ما يصوت لأسباب وطنية وسياسية بالدرجة الأولى، ومن الصعب التنبؤ باختياره قبل أى انتخابات. 4- اعترف بأننى منذ صعد نجمه لم أفهم الرجل جيدا، ولم أجد تفسيرا لتلك الابتسامة العريضة المثبتة على وجهه عند الإجابة عن كل سؤال، خصوصا أن الابتسام ليس من القسمات الشائعة فى القيادات الإيرانية، ناهيك عن المراجع. فلم ير الإمام الخمينى مبتسما، وكذلك السيد خامنئى، وبالكاد كان الشيخ هاشم رفسنجانى يوزع نصف ابتسامة على من حوله، والوحيد الذى رأيته مبتسما بوضوح كان السيد محمد خاتمى، أما الدكتور أحمدى نجاد فإنه لم يعد يرى فى الصور واللقاءات العامة إلا وهو يوزع الابتسامات على الجميع. حين سألت من حوله نصحونى بألا استخف به، فهو رجل بسيط حقا، وجسمه النحيل وهيأته المتواضعة التى لا افتعال فيها مما يؤكد ذلك. (قال أحدهم إن السترة التى يظهر بها فى المناسبات العامة تباع فى الأسواق الشعبية بما يعادل أربعة دولارات). لكنه مع ذلك حاد الذكاء، وشديد الثقة فى نفسه، وحازم مع من حوله وليس مرنا فى عمله (أعفى عشرة وزراء من مناصبهم خلال 4 سنوات، وهو ما لم يحدث منذ قامت الثورة) نقاده يقولون إن الإنجازات الكبيرة التى تحققت فى عهده لا فضل له فيها، ولكنه جنى بها ثمار جهد آخرين، خصوصا ما بدأه الشيخ هاشمى رفسنجانى حين كان رئيسا للجمهورية (أواخر الثمانينيات). مع ذلك فإنهم لا يختلفون على أنه شديد الإخلاص والورع، وأنه يتفانى فى عمله بشكل ملحوظ. وهم لا ينسون أنه حين كان رئيسا لبلدية طهران، وترشح فى انتخابات عام 2005 منافسا للشيخ هاشمى رفسنجانى، فإن انصار الشيخ استخفوا به، ولم ينسوا له أنه ابن رجل كان حدادا «توفاه الله فى العام الماضى»، وأنه قادم من أسرة معدمة كانت تسكن بيتا من الطين فى قرية أرادان الصغيرة التى تعيش فيها 40 أسرة فقط «بمحافظة سمنان». وعلى شاشة التليفزيون قال أحدهم للمشاهدين مستهزئا به: انظروا إلى وجهه وهيأته، هل ترون فى شكله ما يرشحه رئيسا للجمهورية؟. وحين جاء دوره فى الحوار لاحقا طلب من المذيع أن يسأله فى هذه النقطة، وحين فعلها، فإن أحمدى نجاد أجاب قائلا: إن الملاحظة صحيحة لا ريب فأنا لم أرشح نفسى لرئاسة الجمهورية، ولكننى رشحت نفسى خادما للشعب، ثم سأل المشاهدين والابتسامة تملأ وجهه: ألاترون أن وجهى يصلح لوظيفة الخادم؟ وهو يتحدث لمحت أحد مساعديه يشير إليه بما يعنى أن موعد سفره إلى آرومية قد أزف، وحينئذ أدركت أن ساعة «الخدمة» قد حانت، وأن حبل الكلام يجب أن ينقطع. وهذا ما حدث.