قوبل قرار السلطات الإماراتية بالعفو عن طالب بريطاني كانت محكمة في أبو ظبي قد حكمت عليه بالسجن المؤبد بتهمة التجسس، بالترحاب من جانب الحكومة البريطانية، ولكن مما لا شك فيه أن ميزان القوى بين البلدين في طور التغير. شكل حكم السجن الذي أصدرته الإمارات بحق طالب الدكتوراه ماثيو هيدجز اشكالية بالنسبة لبريطانيا، فقد كان عليها الاختيار بين الدخول في مواجهة مع دولة الإمارات، البلد الذي يبلغ حجم التجارة البريطانية معه 15 مليار جنيه استرليني، أو الإمتثال للخطوة الإماراتية مع كل ما يعني ذلك من تغير النظرة اليها على أنها الشريك الأصغر في العلاقة الثنائية بين البلدين. كان الموقف البريطاني القوي، والإفراج عن هيدجز وعةدته فعلا إلى كنف أسرته، تعبيرا عن الوزن الذي تتمتع به الدبلوماسية البريطانية. ففي هذه المرة، كانت الإمارات هي الطرف الذي تراجع. ولكن الإصرار الإماراتي المستمر على أن هيدجز، طالب الدكتوراه في جامعة دورهام، هو جاسوس "مئة في المئة"، وهو ادعاء ينفيه هيدجز، يشير إلى تغير جذري في العلاقة بين البلدين وذلك بعد قرن تقريبا من التفوق والغلبة البريطانية في تلك العلاقة. خطر واضح من نافة القول إن دولة الإمارات ليست إيران التي تواصل احتجاز مواطنين بريطانيين بتهم مماثلة، ومن هؤلاء نازانين زاغاري راتكليف. فالإمارات بالنسبة لبريطانيا شريك مقرب وموثوق به. لكن قضية هيدجز أعادت إلى الأذهان البريطانية الحقيقة القائلة إن الزعيم الفعلي للإمارات - ولي عهد أبو ظبي محمد بن زايد - ليس قابلا للي الذراع بسهولة، بل هو معتاد على الحصول على ما يبتغيه.
فعلى عكس نظيره السعودي محمد بن سلمان، يتمتع محمد بن زايد ببعد نظر وفكر استراتيجي. فقد حافظ على علاقة حميمة مع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، ولكن في نفس الوقت وطد علاقاته بروسيا والصين. أما بريطانيا، فتواجه خطر خسران موقعها المرموق والمفضل لدى دولة الإمارات ما لم تبرهن على أنها حليفة مفيدة وذات مصداقية وجديرة بالثقة. مما لا شك فيه أن علاقات تاريخية عميقة تربط بين بريطانيا من جهة والأسر الحاكمة في الإمارات السبع التي تشكل دولة الإمارات من جهة أخرى، ولكن طبيعة هذه العلاقات تغيرت مع مرور السنين. فالقوة الاقتصادية التي اكتسبتها دولة الإمارات مع بدء إنتاج النفط وتصديره اتاحت لحكام الدولة بناء تحالفات اقتصادية وعسكرية مع عدة دول غير بريطانيا. ولكن مع ذلك، فالقاعدة الثابتة في علاقة الإمارات مع بريطانيا - وكذلك الولاياتالمتحدة وفرنسا - اليوم ما زالت الضمانات الأمنية التي تقدمها للدولة ضد التحديات والتهديدات الداخلية والخارجية. ولكن أبو ظبي بدأت في التشكيك في صدق هذه الوعود والضمانات، خصوصا بعد الاطاحة بحليف أمريكي آخر، الرئيس المصري حسني مبارك في عام 2011. ونتيجة لذلك، بدأت الإمارات بالنأي بنفسها عن الاعتماد الكلي على القوى الغربية. لاحظ محمد بن زايد عن كثب التدخل الروسي في سوريا، وأصبح بمرور الوقت من المعجبين باستعداد موسكو على للوقوف مع حليفها السوري في السراء والضراء. وقارن ولي العهد الإماراتي ذلك بالمواقف التي اتخذتها الولاياتالمتحدةوبريطانيا أثناء انتفاضات "الربيع العربي". ويبدو أنه يغفر لهما تعاونهما مع حكومة الإخوان المسلمين المنتخبة في مصر. وفي نفس الوقت، تعلمت أبو ظبي دروسا من اخفاق الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما في فرض "خطوطه الحمراء" فيما يخص استخدام الحكومة السورية للأسلحة الكيمياوية. ويساور محمد بن زايد قلق من امكانية تلكؤ بريطانياوالولاياتالمتحدة في مد يد العون لبلاده في حال تعرضها لتهديد أمني. فالتدخل العسكري قد فقد بريقه. أثر هذا بشدة على رؤيته للحلفاء التقليديين والجدد. ولذا، ربما كان محمد بن زايد يريد امتحان تصميم بريطانيا من خلال قضية هيدجز. فهو يعلم أن حكومة تيريزا ماي تتعرض لضغوط كبيرة، وخصوصا في سعيها لابرام عقود تجارية جديدة بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي. يمكن القول إن التوازن في العلاقة بين البلدين قد استقرت، وإن بريطانيا بحاجة إلى الإمارات أكثر من أي وقت مضى. فدولة الإمارات هي أكبر سوق للصادرات البريطانية في الشرق الأوسط، وهي رابع أكبر سوق لتلك الصادرات خارج الاتحاد الأوروبي. إذ صدرت بريطانيا ما قيمته 9,8 مليار جنيها استرلينيا من السلع والخدمات لدولة الإمارات في عام 2016، أي بزيادة تبلغ 37 بالمئة عما كان الحال عليه في عام 2009. وتعمل أكثر من خمسة آلاف شركة بريطانية في الإمارات، بما فيها شركات بي بي وشل ورولز رويس وبي أي إي سيستمز وغيرها الكثير من كبريات الشركات. ولدى أكثر من 779 وكالة تجارية و4,762 شركة استثمارات في دولة الإمارات. وأوردت تقارير أن قيمة صادرات الأسلحة البريطانية إلى الدولة زادت بمعدل 94 في المئة في العام الماضي لتبلغ 260 مليونا من الجنيهات الإسترلينية، وهو مبلغ لا يشمل مبيعات الدعم الأمن الألكتروني. علاوة على ذلك، ليست دولة الإمارات سوقا للصادرات البريطانية فحسب، بل هي مقصد سياحي مهم إذ زارها 2,16 مليون سائحا بريطانيا في عام 2016. كما يقيم في دولة الإمارات 120 الفا من المواطنين البريطانيين، قد تتعرض مصادر رزقهم للتهديد في حال انهيار العلاقات بين البلدين. كانت قضية هيدجز اختبارا حقيقيا لقوة أعصاب الحكومتين. وبينما عفا الإماراتيون عن هيجز، ليس هناك أي ضمان بأن محمد بن زايد سيتراجع في أي مواجهة قد تقع في المستقبل.