كان الملمح اللافت للنظر للأزمة الاقتصادية هو أثرها المتزامن فى أنحاء العالم. فقد ترددت أصداء انهيار ليمان براذرز بسرعة من بلد إلى بلد، كما كانت الانتعاشات اللاحقة متزامنة بصورة أو بأخرى. إلا أن الرابحين والخاسرين ظهروا أثناء ذلك، ليس فقط فيما يتعلق بالاقتصادات، بل كذلك فيما بين المؤسسات والشخصيات وطرق التفكير. وسوف يوفر تحديد أماكن نقاط القوة والضعف مفاتيح تحدد الطريقة التى سوف يبدو عليها عالم ما بعد الأزمة. يتم تصنيف الاقتصاديات بسهولة نسبية. فقد ثبت أن الاقتصاديين الذين آمنوا ب«الانفصال» de-coupling وهى الفكرة القائلة بأن الآخرين يمكنهم الإفلات من آثار الأزمة المولدة فى الولاياتالمتحدة كانوا على خطأ. ومع ذلك فقد حافظت الصين على توسعها السريع. وتشير أحدث توقعات مؤسسةConsensus Economics إلى أن نسبة نمو إجمالى الناتج المحلى الصينى هذا العام مقدارها 8.3 مقابل 9 بالمائة فى عام 2008. ولا شك فى أن قدرة بيجينج على العمل بسرعة، فى غياب الجدال السياسى، قد ساعدت على ذلك. وقد قال رئيس الوزراء ون جياباو فى شهر سبتمبر: «كان للأزمة المالية العالمية غير المسبوقة أثرها الثقيل على الاقتصاد الصينى. ومع ذلك فقد تصدينا للتحديات وتعاملنا مع المشكلات بثقة كاملة». حققت الهند كذلك نجاحا، وهى ديمقراطية تزداد اتساعا، ومن المتوقع أن تحقق هذا العام نموّا قدره 6.2 بالمائة هذا العام. وتساعد الأهمية المتزايدة للصين والهند باعتبارهما قوتين اقتصاديتين فى تفسير السبب فى أن قمم مجموعة العشرين التى جمعت بين الاقتصادات الناشئة بسرعة وأكبر الاقتصادات الراسخة كانت من الرابحين الخالصين فى الأزمة. وهكذا اهتزت هيمنة الدول الصناعية الغربية. ولكن إذا كانت الاقتصادات الناشئة قد استمرت على قوتها بشكل جيد نسبيّا، فإن هناك استثناءات. فقد أصيبت المكسيك بفيروس «اتش 1 إن 1» [إنفلونزا الخنازيز] وانخفاض إنتاج النفط، وكذلك الأزمة الأمريكية. ووجد جزء كبير من شرق أوروبا أن معدلات النمو السريع فى الماضى أصبحت غير مستديمة عندما هبت العاصفة، كما أضيرت روسيا جراء انكشافها لأخطار أسواق السلع وفشلها فى تطوير الصناعات المحلية. وبالمثل، كان أداء البلدان منخفضة الدخل سيئا بعد أن ضربت الأزمة التجارة والاستثمار وميزانيات المساعدات. وقدر البنك الدولى أن الأزمة دفعت 90 مليون شخص آخرين إلى مستوى «الفقر المدقع، حيث يعيشون بأقل من 1.25 دولار فى اليوم. بينما لم تكن الولاياتالمتحدة على هذا القدر من الأداء السيئ، إذا ما قسنا على التوقعات المستقبلية لإجمالى الناتج المحلى،. وتوقعت Economics Consensus أن يكون هناك انكماش بمقدار 2.6 بالمائة «فقط» هذا العام. وأثبتت اقتصادات متقدمة أخرى أنها أكثر تأثرا بكثير بسبب انهيار الطلب على الصادرات. فمن المتوقع أن تشهد ألمانيا واليابان انكماشا فى النمو بنسبة 5 بالمائة و5.7 بالمائة على الترتيب هذا العام. وبالرغم من ذلك يمكن لألمانيا واليابان وفرنسا المطالبة بجائزة الترضية لإفلاتها من الكساد (بناء على بيانات إجمالى الناتج المحلى ربع السنوية والتى تنتهى فى يونيو) متخطية بذلك الولاياتالمتحدة والمملكة المتحدة، وهو ما قد يدل على التقشف المتزايد بين المستهلكين الأمريكيين والبريطانيين. وربما أمكن مكافأة فرنسا بوسام خاص لقوتها المملة، فقد أثبت الطلب المحلى القوى، ولكنه ليس صلبا تماما، أنه كان بمثابة ثقل موازن مفيد عندما كان سائر العالم ينهار. ومن المتوقع أن ينكمش إجمالى الناتج المحلى بما يزيد قليلا على 2 بالمائة هذا العام، وهو ما يبدو الآن محترما. أوجدت البورصات كذلك رابحين وخاسرين وبعضهم يدعو للدهشة. وكانت أسهم التكنولوجيا بين أفضل المؤدين منذ انهيار ليمان براذرز، حيث استفاد القطاع من آمال الاستقرار الاقتصادى وتوقعات المكاسب القوية فى عام 2010. وعلى النقيض، أضيرت شركات النفط والمرافق بسبب الهبوط الحاد فى أسعار النفط. حتى مهنة الحطاب قدمت القليل من السلوى لهؤلاء الذين يسعون للإفلات من الاضطراب الاقتصادى العالمى فقد كان أداء أسهم شركات قطع الأخشاب سيئا، وهو ما يعكس الأزمة الهيكلية فى صناعة الورق. وبالطبع، فى القاع كانت أسهم الشركات المالية. ولكن حقيقة أن أسهم البنوك لم تعد المفضلة لدى المستثمرين لا تعنى بالضرورة أن رجال البنوك كانوا هم أكبر الخاسرين. فعلى العكس من ذلك، لم يحدث من قبل أن حصل قطاع تجارى على مثل هذا المال العام الذى تم إغداقه عليه فى أنحاء العالم، مما سمح له بالعودة إلى تحقيق الأرباح بسرعة. وبالمثل، استفادت شركات صنع السيارات من كرم الحكومة التى قدمت دعما للمستهلكين لاستبدال مركباتهم المستعملة، وهو ما يفسر السبب فى أن أداء أسهم السيارات لم يكن مفجعا. وعلى عكس المتوقع، كانت الأحزاب ذات الاتجاهات اليسارية -والتى طالما شككت فى الرأسمالية- من الخاسرين نتيجة للأزمة. فقد سرقت الحكومات من كل الألوان السياسية أفكارهم بلا خجل. يقول ماركو أنونزياتا كبير الاقتصاديين فى «يونيكريديت»: «كنا فى وضع تجد فيه أعتى الأحزاب اليمينية تضغط من أجل تدخل حكومى قوى» وكان أداء حزب «دى لينكه» فى أقصى اليسار قويّا فى الانتخابات الاتحادية التى أجريت فى ألمانيا فى شهر سبتمبر ولكن نسبة التأييد للحزب الديمقراطى الاجتماعى ذى الاتجاه اليسارى انخفضت كثيرا. يقول السيد أنونزياتا إن التجارة العالمية استفادت بدورها من الأزمة. «كان هناك قلق من أن تصبح التجارة الحرة أحد ضحايا الأزمة. ولكن حدث العكس فقد نجت التجارة العالمية وصارت التجارة هى ما يحرك الانتعاش فى الوقت الحالى». ولكن فى الوقت نفسه فإن من قالوا إن السوق الحرة كفيلة بأن تضع قواعدها لم يجدوا أزمة حميدة. فقد اعترف آلان جرينسبان رئيس بنك الاحتياطى الفيدرالى الأمريكى السابق بأنه أخطأ «فى افتراض أن المصلحة الذاتية للمؤسسات، وبشكل خاص البنوك وغيرها، هى الأقدر على حماية مساهميها». وبدلا من ذلك وجد البيروقراطيون الحكوميون، الذين كانوا يكدون غير محبوبين وراء الكواليس، أنفسهم فجأة يقررون مصير البنوك الكبرى. وفى أعمق لحظات الأزمة، ساندت الأزمة القادة السياسيين النشطين الحيويين. فقد انتخبت أمريكا باراك أوباما فى نوفمبر الماضى. واستحق جوردون براون رئيس وزراء بريطانيا المديح فى أنحاء أوروبا لمساعدته فى توجيه قادة القارة نحو حزمة إنقاذ متناسقة فى قمة باريس التى جرى ترتيبها على وجه السرعة فى منتصف أكتوبر من العام الماضى. وحتى فى الدوائر المحافظة لصنع السياسة الألمانية ، كان هناك ثناء على نيكولا ساركوزى، الرئيس الفرنسى بنشاطه الزائد الذى استضاف اللقاء. وفى الوقت نفسه، ظهر صندوق النقد الدولى كفائز خالص، حيث وجد دورا جديدا كإطفائى وشرطى اقتصادى عالمى. وربما تثبت تلك الغرائز المتحفظة على المدى الطويل جدارتها. اجتذب النموذج الاقتصادى الخاص بدول الشمال قدرا كبيرا من الاهتمام أثناء الأزمة بسبب نجاح دول مثل السويد وفنلندا فى حماية شعوبها من أثر الأزمة. إذ تتميز اقتصاديات دول الشمال بأنظمة رعايتها الاجتماعية السخية، ولكنها أيضا أفادت من دروس أزمة البنوك لديها فى التسعينيات. يقول سكستن كوركمان «من معهد أبحاث إتلا فى هلسنكى»: لم يعد النموذج الاقتصادى «الأنجلو ساكسونى الراديكالى هو الموضة، بينما من المؤكد أن نموذج دول الشمال لا يعتبر فاشلا». ولكنه ينبه إلى أن نجاح المنطقة على المدى الطويل مازال يجب أن يعتمد على النشاط الاقتصادى الذى يولد عائدات حكومية كافية. «يخفف نظام الرعاية الاجتماعية من أثر الضربة، ولكن ما لم يكن النظام قادرا على هندسة النمو من جديد، فإنه يتعرض لخطر أن يغرق فى تلك العجوزات [المالية] ». وخلقت تلك الديون الحكومية المتزايدة مجموعة أخرى كبيرة من الخاسرين المحتملين «الجيل الجديد». هم هؤلاء الذين ربما ينتهى بهم الحال وقد سددوا الفاتورة من خلال فرض ضرائب أعلى.