بعد مرور أربعة أعوام على إعلان جورج بوش نشرَ الديمقراطية مهمةَ الولاياتالمتحدة الهادفة إلى "وضع حدّ للطغيان في عالمنا"، لم تنتقل المهمة هذه إلى فريقِ خلَفِه. فمنذ تسلّمَ أوباما الحكمَ لم يأتِ لا هو ولا مستشاروه على ذكر العمل من أجل بناء الديمقراطية. وفيما لم ينكر أوباما رؤيا بوش العظيمة لا بل الجليلة، بدا مستعداً للعودة إلى سياسة أميركية أكثر تقليدية في التعامل مع العالم كما هو لا كما يمكن أن يكون. وقد لقي هذا التحوّل ارتياح واشنطن وباقي العالم الذي لم يرتَح يوماً لخطاب بوش التبشيري، ووجده إما ساخراً وإما ساذجاً. ولكنّ التحوّل هذا سلّط الضوء أيضاً على جدل حاد في الأوساط الديمقراطية إزاء المستقبل الذي ينتظر رؤيا بوش. فمن ناحية، يتّفق المثاليون، على أن يشكّل بناء الديمقراطية قيمةً أميركيةً جوهريةً يجب احترامها بتفهم أعمق للمجتمعات المعنية. ومن ناحية أخرى، يشكّك الواقعيون في الافتراضات القائلة بأنّ الأساليب الناجحة في الولاياتالمتحدة يجب أن تُصَدَّر إلى مكان آخر، أو تطغى على اهتمامات أميركية أخرى. أما التحدي الأساسي الذي يواجهه فريق أوباما فهو ما إذا كان يجب السماح لترابط أفكار بوش المتماسك بتقويض فكرة نشر الديمقراطية بحدّ ذاتها. و قد أشار كينيث وولاك، رئيس المعهد الوطني الديمقراطي الأميركي، إلى أنّ رئيسَي الحزبين –الديمقراطي والجمهوري- اعتنقا فكرة تعزيز الديمقراطية في الخارج قبل عقود من وصول بوش إلى الحكم، وإن رسّخ هذا الأخير هذه الفكرة أكثر في صلب مهمته. وأضاف وولاك قائلاً إنّ "الجدل اليوم يتمحور حول المركز الذي يجب أن تحتلّه الفكرة في تلك الأجندة". في الحقيقة، يرى العديد من الديمقراطيين أنّه يجب إيلاء هذه الفكرة أهميةً أقلّ. فلا يجوز برأيهم أن تعظ الولاياتالمتحدة الآخرين فقط لأنّ الديبلوماسية الهادئة ناجعة أكثر. ففي ظلّ ما تعانيه أماكن كثيرة في العالم من فقر، وجوع، ومرض، لا يعود التركيزُ ينصب بأكمله على الانتخابات. وأوباما يميل إلى وجهة النظر هذه على ما يبدو. وقد جاء خطابه في حفل التنصيب متبايناً كلياً وخطاب بوش منذ أربعة أعوام. ففي حين صنّف بوش نشر الحرية الهدفَ الرئيسَ للسياسة الأميركية، مرّ أوباما مرور الكرام على أولئك الذين يسكتون الرأي المعارِض، واصفاً إياهم بأنهم "إلى الجانب الخاطئ من التاريخ". ناهيك عن ذلك، رسمت وزيرة خارجيته هيلاري كلينتون ملامح سياسة سيتمّ انتهاجها، وتقوم على أسس ثلاث هي "الدفاع، والديبلوماسية، والتنمية". ولم تشِر كلينتون إلى الديمقراطية أساساً رابعاً لهذه السياسة. في هذا الإطار، قالت جنيفر ويندسور، المديرة التنفيذية لمؤسسة "فريدوم هاوس" التي تعزّز الديمقراطية والحرية في الخارج: "أشعر بالاضطراب بصفتي أنتمي إلى الحزب الديمقراطي. فأن نعتبر تعزيز الديمقراطية نهجاً جمهورياً أو سياسةً من سياسات بوش يعني أن نسيء فهم سجلّ بلادنا في السياسة الخارجية". ففي النهاية، الديمقراطيون في الكونغرس هم مَن أسّس مكتب الديمقراطية وحقوق الإنسان في وزارة الخارجية في سبعينات القرن الماضي، وجيمي كارتر تمسّك بالمبدأ جاعلاً حقوق الإنسان عقيدةً أساسيةً في سياسته الخارجية. كذلك أنشأ رونالد ريجن الصندوق الوطني للديمقراطية الذي يشجّع على الإصلاح في أرجاء العالم، وجعل بيل كلينتون تعزيز الديمقراطية واحداً من الأعمدة الأربعة لاستراتيجية التنمية الدولية. فعلى أوباما أن يجد سبيله الخاص للمضي قدماً بالقضية كما تعتبر ويندسور أنّ "التحدي الذي ينتظر فريق أوباما يكمن في إيجاد الكلمات والمفاهيم التي تتيح للإدارة تمييزَ نفسها عن إدارة بوش، لا التقليلَ من دعم الديمقراطية والحقوق المدنية والسياسية. غير أنّي إلى الآن لم أرهم يحاولون حتى". ومما لا شكّ فيه أنّ الشرق الأوسط هو ما أودى بجورج بوش إلى سلوك هذا الدرب أصلاً. فبعد أن فشل اجتياح العراق في العثور على أسلحة دمار شامل، وضع بوش نصب عينيه ترسيخ الديمقراطية هناك قاعدةً للحرية في منطقة يسودها القمع. وبحلول تنصيبه الثاني رئيساً، قرّر نشر فكره في أرجاء العالم، معتبراً ذلك ركناً فلسفياً للحرب على الإرهاب هو أكثر إيجاباً من مجرّد مطاردة الأشرار. وفي الواقع، كانت تلك الفكرة فكرةً محفّزةً. فلقد استمدّ بوش ومستشاروه الوحي من الثورات الشعبية التي شهدتها جورجيا، وأوكرانيان ولبنان، والتي أطاحت بحكومات متجذّرة. وفي حين كبُرَت شجاعتهم إثر انتخابات الأصابع البنفسجية الأولى في العراق، ازدادت جرأتهم عندما أطلقت مصر من السجن المعارض أيمن نور، بعد أن ألغت وزيرة الخارجية كوندوليزا رايس زيارتها احتجاجاً على توقيفه. على الرغم من ذلك، لم تتَرجَم دائماً رؤيا بوش إلى سياسة. لقد أطلق برنامج تحدّي الألفية لتحويل المساعدات الأجنبية إلى الدول التي تعزّز الحرية وتطوير حكم القانون. كما التقى بالدلاي لاما، واستضاف منشقّين صينيين وكوريين شماليين في المكتب البيضاوي. ولكنه في المقابل لطّف من انتقاده الحلفاء والدول التي يحتاج إليها لأولويات أخرى، مثل السعودية، وروسيا، وكازاخستان. كما قوِّضَت "أجندةُ الحرية" التي وضعها بعد أن حثّت إدارتُه السلطات الفلسطينية على إجراء انتخابات فازت بها في النهاية حماس التي يعتبرها الغرب مجموعةً إرهابيةً. ونظر العالم بمعظمه إلى تعزيز الديمقراطية من منظار العراق، لا ليجده موقفاً يستند إلى مبادئ، بل شيفرةً لتغيير الأنظمة التي لا تروق للولايات المتحدة وإن بالقوة. في هذا السياق، يرى ويليام إنبودن، المستشار الاستراتيجي السابق في مجلس الأمن القومي، والعضو الحالي في "معهد ليغاتوم" في لندن، أنّ فكرة الديمقراطية تعرّضت للأذى. " فكلمة الديمقراطية بذاتها مثيرة للجدل إلى حدّ ما، وقد تلطّخت سمعة الديمقراطية لسوء الحظّ. ومع ذلك، حينما نتكلّم عن معنى الديمقراطية، وعن المفاهيم الكامنة وراءها، نجمع كلّنا على الرغبة في تحقيق هذه الأمور". ويعتقد إنبودن أنّ أمام أوباما الفرصة لتحسين سمعة الديمقراطية. فانتخاباته بحدّ ذاتها ولّدت كمّاً هائلاً من النوايا الحسنة في أرجاء العالم، ما يعكس تصريحاً قوياً جداً عن الديمقراطية الأميركية. ولهذا السبب يرى أنه "ثمة فرصة فعلية هنا". ولربما آخرون أيضاً ينظرون إلى الأمر من المنظار عينه. فهذا الشهر أعادت مصر إطلاق أيمن نور في ما اعتبره البعض بادرة حسن نية تجاه أوباما.