المستندات المطلوبة للترشح في انتخابات مجلس النواب 2025    محافظ دمياط يبحث تحديث المخطط الاستراتيجي لمدينة عزبة البرج    سمير عمر: القصف الإسرائيلي على غزة يُضعف الثقة.. ونتنياهو يعرقل الاتفاقات    إلى أين يتجه الصراع بين دمشق والأكراد؟ اشتباكات حلب تفتح الباب لسيناريوهات مقلقة    رئيس فنزويلا يطلب من بابا الفاتيكان المُساعدة في الحفاظ على السلام    وزير الشباب يؤازر منتخب مصر قبل مواجهة جيبوتي    توزيع درجات أعمال السنة لطلاب الصفين الأول والثاني الثانوي 2025- 2026    رئيس الوزراء: حديقة تلال الفسطاط في مرحلة اللمسات النهائية وستكون الأكبر بالشرق الأوسط    ثقافة أسيوط توثق حكايات النصر بلقاءات وورش وأمسيات شعرية    حسناء سيف الدين تكشف كواليس آخر يوم تصوير من "2 قهوة"    الطلاب الممنوعون من تطعيمات المدارس بأمر الصحة    سلة الزمالك يهزم ألعاب دمنهور في بطولة دوري المرتبط    طقس خريفي مستقر في مدن القناة غدا وفرص لهطول أمطار خفيفة مساءً    هؤلاء ممنوعون من السفر لحج القرعة لعام 2026 (انفوجراف)    اكتشاف يجعل المستحيل ممكنًا «عباءة الإخفاء الكمومية» تمنح أمريكيًا وبريطانيًا وفرنسيًا نوبل الفيزياء    أيمن الرقب لحديث القاهرة: مفاوضات شرم الشيخ تتركز على ملف الأسرى وحماس متخوفة    السجن 3 سنوات لمتهم بسرقة هاتف من سائق فى مصر القديمة    لكشف على 937 مواطنًا خلال قافلة طبية بقرية السلام بالإسماعيلية ضمن مبادرة حياة كريمة    إنتر ميلان يدرس ضم أكانجي بشكل نهائي من مانشستر سيتي    الكرملين: تسليم صواريخ "توماهوك" لأوكرانيا تصعيد خطير    شحاته السيد عضواً بتحالف اليونسكو للدراية الإعلامية والمعلوماتية    محافظ المنوفية يحيل عدداً من المختصين بالزراعة والوحدة المحلية بالبرانية وجريس للنيابة    لتطوير منظومة العمل الإداري .. الزمالك يعتمد تشكيل المكتب التنفيذي الجديد بخروج أحمد سليمان ودخول محمد طارق    عقوبات الجولة العاشرة من الدوري المصري    4 أبراج روحهم في مناخيرهم.. العصبية جزء من شخصيتهم    مدبولي: استضافة مصر لقاءات بين حماس وإسرائيل دليل على قوتنا الإقليمية    قبل مغادرته.. البابا تواضروس يُدشّن كنيسة أُنشئت بأمرٍ ملكي في عهد الملك فاروق قبل أكثر من 80 عامًا    مجلس جامعة حلوان يستهل جلسته بالوقوف دقيقة حداد على روح رئيس الجامعة الأسبق    خاص.. كيشو ممنوع من تمثيل أي دولة أخرى غير مصر حتى يناير 2028    محافظ الغربية يفتتح الملعب القانوني الجديد بنادي السنطة بتكلفة 797 ألف جنيه    فتح باب التسجيل لقبول دفعة جديدة من الدارسين برواق العلوم الشرعية والعربية بالأزهر    وزير الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات يزور مدرسة WE للتكنولوجيا التطبيقية (صور)    لمناقشة عدد من الملفات المهمة.. بدء اجتماع الحكومة الأسبوعي برئاسة الدكتور مصطفى مدبولي    توزيع جوائز مسابقة أفضل مقال أو دراسة نقدية حول الأفلام القصيرة جدًا بأكاديمية الفنون.. غدًا    أسماء جلال من كواليس «فيها إيه يعني؟»: «كل واحد يخليه في حاله»    «بصلي وبصوم وبسرق وعاوزة أكفر عن ذنبي».. أمين الفتوى يجيب    رمضان عبد المعز: الإيمان بأقدار الله يُريح الروح ويُهدي القلب    ما حكم سب الدين عند الغضب؟.. أمين الفتوى يُجيب    سوق حضارى جديد ببنى مزار للقضاء على الأسواق العشوائية بالمنيا    كشف غموض اقتحام 3 محال تجارية في قنا    تُدشّن مبادرة الكشف المبكر عن أمراض سوء التغذية لطلاب المدارس بالمنوفية..صور    «فوائد بالجملة».. ماذا يحدث لجسمك عند تناول كوب من الشاي الأخضر في الصباح؟    بسبب معاكسة فتاة.. إصابة شخصين في مشاجرة بالأسلحة البيضاء في أوسيم    وزير الخارجية يلتقي رئيس الأكاديمية العربية للعلوم والتكنولوجيا والنقل البحري    سكرتير عام المنيا يتابع معدلات تنفيذ المشروعات التنموية    بورسعيد الدولية لحفظ القرآن الكريم: أحمد عمر هاشم خدم كتاب الله وساند المسابقة    اليونيسيف: أطفال غزة يعيشون رعبا ينبغي ألا يواجهه أي طفل    مدبولي يوجه بتوفير التغذية الكهربائية للمشروعات الزراعية الكبرى    قطاع الأمن الاقتصادي يضبط 2691 قضية متنوعة خلال 24 ساعة    مواقيت الصلاه اليوم الثلاثاء 7 اكتوبر 2025 فى المنيا    كيروش: مواجهة قطر صعبة.. ونطمح للانتصار في بداية مشوار التأهل    محافظ بورسعيد للطلاب: عليكم بالتمسك بالأخلاق الحميدة التي يرسخها الأزهر الشريف    جامعة القناة تنظم مهرجان سباق الطريق احتفالًا بذكرى انتصارات أكتوبر (صور)    أغلقوا المدرسة قبل موعدها، تحويل العاملين بابتدائية قومبانية لوقين بالبحيرة للتحقيق    الأهلي يحيل ملف ثلاثي الفريق إلى لجنة التخطيط لحسم مصيرهم    وكيل صحة بني سويف يشيد بدور التمريض: العمود الفقري للمنظومة الصحية    ضبط 99 ألف مخالفة مرورية متنوعة خلال 24 ساعة    وزير الخارجية: نثق في قدرة الرئيس ترامب على تنفيذ خطة غزة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



السيدة تيفود!
نشر في الشروق الجديد يوم 01 - 10 - 2009

عندما أنهيت مقالة الأسبوع الفائت بعبارة «وللتيفود عودة»، لم أكن أتصور إلا أن أعود لإكمال الموضوع الذى بدأته وطال أكثر مما ينبغى، وخشيت أن يتم ضغط حروفه وسطوره فتصعب قراءته. كما أن الجزء المتبقى كان يحتوى على قصة طريفة وغريبة، رأيت وأرى أنها تنطوى على مغزى مدهش، ولطالما كان مثل هذا المغزى دليلى الحافز للكتابة التى أكتبها، فعندى هاجس يقارب اليقين بأن هناك قانونا حاكما يتكرر فى كل ظاهرة، من أصغر مكوناتها وحتى أكبر المكونات، وأن العثور على هذا القانون يضىء خفايا الظاهرة كلها، ويلقى بمزيد من الضوء على خبايا ظواهر مشابهة أو مجاورة، وهكذا رأيت فى السلوك المراوغ لعُصيَّات بكتريا التيفود وليدة القذارة، تمثيلا مصغّرا لمراوغات سياسية واجتماعية أكبر وأشمل، تكون حيث يكون التيفود، وتنتمى للقذارة مثله، وإن بأشكال مختلفة.
فوجئت بعد يومين من نشر المقال، أن العودة التى أومأت إليها تتجسد فى اتجاه مختلف لم يخطر ببالى، وإن كان واردا من واقع مراوغات التيفود التى أشرت إليها، فثمة عودة فعلية تمثلت فى ظهور 300 إصابة فى 4 قرى فى محافظة القليوبية، وكان المنشور فى الصفحة الأولى من جريدة «الشروق» عدد السبت 26 سبتمبر يكشف عن ملابسات غريبة لإغلاق معامل تحليل كشفت تداعيات الوباء، وتحويل طبيب إلى التحقيق بزعم أنه نَشر أسرار المرضى الذين تأكدت إصابتهم بالتيفود!
والتيفود، فى اعتقادى، وباء ربما أخطر من وباء إنفلونزا الخنازير التى تروِّعنا به منظمة الصحة «العولمية» التى يبدو أنها تحولت إلى منصة إعلامية لا هيئة علمية، وباتت قناة لبث الرعب ودعم التسويق الدوائى أكثر من كونها مصدرا للطمأنينة العلمية وكبح جماح شركات الأدوية العالمية العملاقة عابرة القارات والمسعورة على الربح. أوقفتنا هذه المنظمة «الدولية» فى موقف الحيرة، وزودت حكوماتنا العشوائية بمزيد من مبررات الهرجلة والتخويف لمآرب قد تكون الصحة آخرها أو خارجها، بينما التيفود سارح تحت أقدامنا وبين أيادينا، ليس فى مياه الشرب المختلطة بمياه المجارى فى القرى المنكوبة وحدها، بل فى الزراعات الإجرامية المروية بمياه الصرف والتى لم يتوقف ظهورها عند حدود العاصمة، بل كشفت الصحافة والإعلام المستقلَّين عن وجودها فى أكثر من مكان من الدلتا حتى الصعيد.
هذه الزراعة الملعونة، والتى تدل على حال الزراعة المصرية التى يجرى وأدها بتسارع أحمق واندفاع غبى، ليست جريمة الحكومة وحدها وإن كانت الحكومة مجرمها الأكبر، فهناك مجرم مشارك هو المزارعون الذين نامت ضمائرهم عن تسميم وإمراض الناس، بإطعامهم من حقول مروية بمياه واضحة التلوث، وليمت من يمت ويمرض من يمرض مادام هؤلاء المزارعون سيعيشون، وهى عيشة خسيسة بلا شك، لكنها لا تعدم التبرير وراء التبرير، فى عصور انحطاط الأمم، وتدهور أخلاقيات الحكومات والشعوب.
وها هو التيفود بالفعل يعود، وسواء كان عدد المصابين ثلاثمائة أو ثلاثين، فإن الأمر خطير، لأن هذا المرض لاينقضى بعلاج المصابين به، بل يظل 3% منهم حاملين للميكروب فى حويصلاتهم وقنواتهم المرارية، ويصيرون مصادر مستمرة للعدوى، إن لم يتلقوا علاجا مكثفا بمضاد حيوى قوى ومناسب لمدة تصل إلى ثلاثة أشهر. فلو حسبنا هذه النسبة من حاملى الميكروب لبدا الأمر خطيرا بالفعل، فحالة واحدة من حالات الأصحاء حاملى الميكروب روّعت الولايات المتحدة منذ ما يقارب القرن، وهى صاحبة القصة التى وعدت بالعودة إليها، والتى أعرضها الآن، دون تعليق..
اسمها «مارى مالون»، وهى مهاجرة أيرلندية كانت تشتغل طباخة فى البيوت بمدينة نيويورك، ولما تكرر ظهور حالات تيفود بالجملة بين أفراد الأسر التى تنقلت للعمل بينها، ثارت الشكوك لدى السلطات الصحية بالمدينة، ورفضت مارى أن تخضع لتحليلات تؤكد أو تنفى هذه الشكوك. وبقوة القانون أُخضِعَت لإجراء التحليلات، وثبت عام 1907 أنها حامل لميكروب التيفود وناقل نشط له برغم بقائها فى صحة جيدة.
كانت بذلك أول حالة فى الولايات المتحدة يتقرر أنها حامل للتيفود Carrier، وفُسِّر هذا بقوة بنيتها الأيرلندية الأصل، واكتسابها للمناعة ضد الميكروب كونها أصيبت به وهى فى بطن أمها التى مرضت بالتيفود فى أثناء حملها.
كان عدد من نشرت بينهم مارى المرض يُقدَّر بالمئات، لهذا خيَّرتها السلطات الصحية بين أمرين، إما أن تكف عن العمل كطباخة، أو تُجرَى لها جراحة لإزالة مرارتها التى يختبئ فيها الميكروب ويرسل طلائعه لنشر العدوى حيثما حلّت. واختارت مارى أن تكف عن الطبخ. لكنها لم تَصْدُق وعادت تطبخ. وبالتعقُّب الصحى للمصابين الجدد وصلت السلطات مرة أخرى إلى مارى، وتم إيداعها فى الحجر الصحى الإجبارى بمستشفى فى جزيرة «نورث برازر» لثلاث سنوات.
لم تغادر مارى الحجْر إلا بعد تعهدها بتغيير مهنتها، واشتغلت كواءة، لكن دخلها من كى الملابس كان أقل من دخلها السابق، فاختفت عن الأنظار! غيرت اسمها إلى «مارى براون» وانتقلت إلى منطقة بعيدة وعملت طباخة من جديد، بل طباخة فى مستشفى «سلوآن» لأمراض النساء، فكان أن ظهرت 25 حالة مصابة بالتيفود توفت منهم واحدة، وتم ضبط مارى، وأُعيدت إلى الحجْر الصحى فى مستشفى جزيرة «نورث برازر» تحت رقابة مشددة، وأُعطيت عملا يحميها من ثقل الشعور بالمهانة، وبالضجر، لكنه كان عملا أبعد ما يكون عن المطبخ.
استمرت مارى محتجزة فى الحجْر 23 عاما حتى وافتها المنية بين أسواره. ماتت بالتهاب رئوى بعد جلطة بالمخ وشلل نصفى، وكان عمرها تسعة وستين عاما، وبموتها مات التيفود القابع فى مرارتها، لكنه لم يمت فى اسمها الذى صار فى تاريخ الطب، وفى سيرة التيفود: «مارى تيفود»!!


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.