قبل أسابيع كنت أتحدث مع أحد النقاشين عن سبب ارتفاع سعر متر النقاشة ليتراوح بين 15 إلى ثلاثين جنيهًا. فاجأنى هذا الصنايعى العريق فى مهنته بقوله إن التوك توك هو السبب؟ للوهلة الأولى ظننت أنه يمزح، لكنه أكمل كلامه جادا ليؤكد أن التوك توك كان له تأثير شديد السلبية على كثير من المهن خصوصا «الصنايعية» فى مجالات كثيرة. يقول هذا النقاش الذى تجاوز عمره الخمسين، أنه كان يعطى مساعده الصبى، قبل سنوات خمسين جنيها يوميا، وهو مبلغ معقول لشاب لم يتجاوز الثامنة عشرة من عمره، باعتبار أنه سوف «يشرب الصنعة»، ويصبح أسطى أو معلم كبير خلال سنوات، ويأخذ عمليات مستقلة لصالحه. مع انتشار التوك توك انصرف هؤلاء المساعدين، بل والصبية الصغار ليشتغلوا على هذه المركبة العجيبة ويحققوا ربحا يصل إلى مائة جنيه فى ساعتين فقط، من العاشرة صباحا حتى الثانية ظهرا، فى حين أنه عندما كان يعمل معه فى النقاشة فإن يومه يبدأ من الثامنة صباحا وقد يصل إلى السادسة مساء. الأمر ليس قاصرا على مهنة النقاشة. بل تكرر فى معظم المهن المشابهة خصوصا إصلاح السيارات والسباكة والنجارة وكل ما هو مرتبط ب«الصنعة» ومهنة المقاولات. سائقو التكاتك الآن كانوا فى معظمهم مساعدى معلمين وأسطوات فى مهن مختلفة، وبذهابهم إلى هذه المهنة العشوائية، تم تجريف وتجفيف غالبية هذه المهن، وانقطع الوصل بين المعلم الكبير والصبى الصغير، وبالتالى يمكن تفسير سر قلة الصنايعية فى مهن كثيرة، أو ارتفاع أسعارهم بشكل كبير. بل ربما ذلك يفسر لماذا تراجعت قيمة الكفاءة فى هذه المهن الفنية التى كانت مصر تتباهى بها وتقوم بتصديرها للبلدان العربية. نموذج الصبى «بلية» الذى يقسو عليه معلمه «ويضربه أحيانا بمفتاح رقم 9» لكى يتعلم المهنة ويجيدها ويشربها، يندثر الآن للأسف، لأن الصبيان يريدون أن يصبحوا معلمين فورا، ومن دون تلقى تدريب أو تأهيل، أو يهربون إلى مهنة سائق التوك توك. بالطبع هناك أسباب أخرى لتراجع مستوى العمالة الفنية، لكن التوك توك هو أهمها، لأن غالبية السائقين كانوا يعملون فى هذه المهن أو مؤهلين للعمل فيها. مهنة سائق التوك توك لا تحتاج إلى أى مهارات. يكفى فقط أن تعرف الشوارع التى تتحرك فيها، وبعدها ستجد نفسك غارقا فى حياة عشوائية، تكافح من أجل أن تنجو منها لاحقا. وفى المقابل صرنا جميعا تقريبا نشكو من تراجع مستوى الصنايعية. يندر أن تجد أحدهم يجيد مهنته تماما، وإذا أجادها فإنه يعمل بلا إتقان، وإذا أتقن لا يكمل المهمة. والنتيجة أن المهمة الواحدة تحتاج لأكثر من صنايعى لكى يكملها. هذه الندرة فى الصنايعية وتراجع مستواهم جعلت ثقافة غريبة تتسلل إليهم. تتفق مع أحدهم على عمل سباكة أو نجارة أو نقاشة، وبعد أن يحدثك عن «كلمة الشرف» لا يأتى فى موعده أبدا، وبعد ظهوره المفاجئ بيومين أو أسبوع، يعمل لمدة يوم، ثم يختفى أسبوعًا آخر. يأخذ منك مقدما، ويختفى أسبوعًا آخر. وبعضهم لا يظهر أبدا بعد أن «يلهف» منك المقدم، وأخيرا وبعد إنجاز المهمة ونهاية رحلة العذاب وانصرافه، تتفاجأ بأن ما أنجزه كان محض وهم، وأنك تحتاج إلى «صنايعى بديل» ليكمل ما فشل فيه الآخر. وعندما يأتى ويبدأ كلامه بالعبارة الشهيرة «مين ال.......... اللى عمل كده»، ويخبرك أنه أصلح ما أفسده زميله السابق، تكتشف أنك تحتاج إلى صنايعى ثالث!. هل نلوم الصنايعية الذين يجلسون على المقاهى لينفقوا ما حصلوا عليه، أم نلوم المناخ العام الذى تسبب فى تراجع مستواهم، أم نلوم المتهم أو «الحيتان» الذى أغرق البلاد بالتكاتك وحول حياة الملايين إلى جحيم؟!. علينا أن نلوم المنظومة بأكملها التى أوصلتنا إلى هذه الحالة البائسة. لكن علينا أن نسأل، هل سنترك هذه التكاتك بهذه الفوضى ومن دون حتى الحد الأدنى من التنظيم والرقابة والمتابعة؟!. السؤال موجه للجميع ويحتاج إلى إجابات سليمة حتى لا ندفع ثمنا فادحا.