لو كان الموقع الإلكترونى دليلا على الكفاءة فى الإدارة، لما وجدنا أسوأ من هيئة سكك حديد مصر إدارة. ولكن فى حين أن كفاءة الإدارة أشمل وأعقد، فإن الموقع هو بالتأكيد إشارة إلى عدم استيعاب التطور المعلوماتى فى القرن الواحد والعشرين، ولا درجة الإلمام بطبيعة العملاء الذين يحتاجون للموقع، ولا إدراك لكيفية تلبية تلك الاحتياجات بما يعظم إيرادات الهيئة. وإذا البغيض يبرز بنقيضه، فليكن موقع هيئة اقتصادية عامة شقيقة، هى هيئة قناة السويس، مثالا على إتاحة وجودة المعلومات على موقعها. ولكن ما أبعد هيئة السكك الحديدية عن ذلك. وما عثرت عليه بالمصادفة على هذا الموقع يثير القلق فى قدرة الهيئة على تطوير نفسها، خاصة إذا ما نظرنا إلى التباين بين وصف الهيئة للتحديات الذى تواجهها، وبين تحدياتها كما جاءت فى التجارب الدولية، وفى وصف البنك الدولى وفى الدراسات القليلة المتاحة فى مصر عن الموضوع. خذ مثلا التحديات العالمية التى تواجه السكك الحديدية حول العالم: مثل ارتفاع أسعارها مقارنة بالطرق البرية أو النقل البحرى والجوى (وذلك بسبب أن التلوث الناتج عن وسائل المواصلات البديلة لا يدخل فى حساب السعر، وهو من عيوب النظام الرأسمالى الحالى). هناك أيضا الضغوط التى تمارسها الشركات الدولية العملاقة (المدعومة من الدول المتقدمة) من أجل خصخصة السكك الحديدية. ثم هناك التحديات الخاصة بسكك حديد مصر، كما تراها دراسة صادرة عن المركز المصرى للدراسات الاقتصادية، منها عدم الاستغلال الأمثل للشبكة الكاملة من خطوط القطارات التى تربط بين جميع الموانئ المصرية، بسبب طول وتعقيد الإجراءات التى تدفع الشركات إلى استخدام الطرق السريعة. أو بمعنى أشمل٬ التحدى البالغ فى زيادة حجم نقل البضائع عبر السكك الحديدية والذى لا يتجاوز 13٪ من اجمالى نقل البضائع، فى مقابل 19٪ فى الدول المتقدمة. أو انخفاض معدلات الأمان على السكك الحديدية فى مصر، وتقليص عدد الخطوط. أو قل ضعف التمويل، كما أشار الرئيس المصرى. ويمكن إضافة البعد الإقليمى لتلك التحديات، مثل غياب شبكة خطوط حديد تربط بين الدول العربية، وبين الدول العربية وإفريقيا، من شأن إقامتها أن تضاعف التجارة البينية وتحسين الموارد الدولارية لمصر. كما يتابع البنك الدولى بإحباط وقلق، برنامج الإقراض للهيئة، الذى بدأ فيه منذ 2009 وكان من المفترض أن ينتهى فى 2015، ولكن زادت قيمته وامتدت فترة القرض حتى بداية 2019. ويلاحظ فى تقرير متابعة القرض الصادر فى يونيو الماضى، أن أداء الهيئة مقبول بين بين moderately satisfactory فى تنفيذ الإصلاحات المتفق عليها (من تدريب للكوادر، وتحسين لجودة بعض الخطوط، وتحسين هيكل الإيرادات ورفع للكفاءة والأمان)، وأن درجة المخاطر من هذا القرض معتبرة substantial، أهمها ناتج عن استراتيجيات القطاع والسياسات العامة، وعن ضعف القدرات المؤسسية والقدرة على التنفيذ وعن ضعف الحوكمة. فنجد أن معدل تشغيل الخطوط لا يتجاوز 64٪ (وإن زاد إلا أنه لا يزال بعيدا عن الهدف 80٪). وأن الإشارات الالكترونية التى تم تخصيص جزء من القرض لتركيبها على خطى القاهرةالإسكندرية وبنى سويف أسيوط لم يتم تركيب أى منها بعد مرور ثمانى سنوات من الاتفاق مع البنك. وأن عدد ركاب خط بنى سويف أسيوط انخفض عدد مستخدميه إلى الربع، خلال السنوات الست الأخيرة. ولا الدراسات اللازمة لتطوير السكك الحديدية قد أعدت بعد. فما هى التحديات والإصلاحات العاجلة من وجهة نظر هيئة سكك حديد مصر؟ ●●● كلمات ومعانٍ إذا كنت قد سافرت إلى الخارج، فلعلك دخلت إلى موقع السكك الحديدية، لتحجز إلكترونيا تذكرة قطار. وبالتأكيد قد ألقيت نظرة على قسم «العروض»، حيث يمكنك أن تجد تذاكر مخفضة. ولكن فى مصر، فقسم «العروض» هو حيث وجدت المعلومة الوحيدة عن مشروعات تطوير السكك الحديدية، محشورة بين نتائج المتقدمين لمسابقة التوظيف لعام 2015، ومواعيد قطارات الوجه القبلى. وتنطبق نفس «اللخبطة» المترتبة على سوء استخدام كلمة العروض على كلمة «التحديات». ترك العرض الرسمى كل ما سبق ذكره من تحديات، وكان من أوائل التحديات المذكورة هى: نقاط العبور «غير القانونية» التى يضطر أن يستخدمها المواطنون، لغياب دور المحليات ووزارة الرى فى تمهيد نقاط رسمية آمنة. كما تأتى على رأس التحديات أيضا مجموعة من الاتهامات المبطنة للمواطنين، مثل انتشار القمامة، والباعة الجائلين فى حرم السكك الحديدية (وهو ما يمكن علاجه بتعيين جامعى قمامة، أو الاتفاق مع رؤساء الأحياء، إلى جانب تعيين مديرين محطة ونظافة أكفاء). كما جاء أيضا سرقة بعض الخطوط (قليلة الاستخدام) وعدم التزام السيارات والسائرين بتعليمات العبور عند المزلقانات (أين دور الشرطة؟ ولماذا لا يعاد توزيع العمالة الإدارية الزائدة بحيث تقوم بالإشراف على المزلقانات؟). وللإجابة عن تلك التحديات، احزر ماذا يذكر العرض الرسمى كأول العلاجات العاجلة؟ «شراء عربات وجرارات جديدة»، على غرار خطة إصلاح عام 2005 2007، حين تم إنفاق 8 مليارات جنيه لشراء 40 جرارا جديدا، ثبت أنها غير مجدية اقتصاديا، بالنظر إلى استمرار، بل تفاقم الفرق بين إيرادات الهيئة والمصروفات، ناهيك عن الشكوك التى لم يتم البت فيها بعد عن مدى نزاهة عملية الشراء. ولا يمكن بعد هذا العرض السريع المحزن لأحوال السكة الحديد، أن نتجاهل الفيل القابع فى الغرفة، أى الحل المزمع اتباعه للإجابة عن كل التحديات، الظريف منها والمخيف: خطة خصخصة السكك الحديدية التى أعطت لها الحكومة المصرية الضوء الأخضر منذ أيام. ●●● التجارب العالمية: فشل أم نجاح؟ بدأت خطط الخصخصة فى كل دول العالم المتقدم ثم النامى جراء أزمات مالية: الحكومات تريد أموالا سريعة ومتدفقة كى تعالج عجزا فى ميزانياتها. وهو ما يفسر ما تفعله مصر حاليا. وللرد على هذا الاعتبار، يكفى أن نذكر أهم تجربة فى تاريخ خصخصة القطارات والتى كانت صاحبتها إنجلترا. وعلى الرغم من أن التجربة فى عيون كثيرين إيجابية (بعد فشل مرة واثنتين، ورقابة برلمانية عريقة وعنيفة)، يكفى أن نذكر أن الدعم الذى توجهه الدولة إلى هيئة السكك الحديدية زاد ستة أضعاف إلى 6 مليارات إسترلينى سنويا عام 2007، مقارنة بأيام كانت هيئة حكومية، بحسب تقرير مقدم إلى مجلس العموم البريطانى. أى ينتفى الهدف الأهم لدى الحكومة المصرية وهو توفير الموارد الحكومية. وللمفارقة، صار الدعم الذى يتكبده دافع الضرائب البريطانى، يذهب إلى خزائن مجموعة من الشركات الأجنبية العملاقة (ألمانية وفرنسية غيرهما)، والتى بدورها تحول أرباحها خارج بريطانيا. ولن نتكلم عن أسعار التذاكر التى زادت، ولا عن الوظائف التى فقدت فى هيئة السكك الحديدية، وتدهور ظروف العمل، ولا عن الخطوط التى أغلقت رغم أهميتها لساكنى الأماكن البعيدة عن المراكز الحضرية حيث الوظائف، ولكنها غير مربحة بالنسبة لتلك الشركات. أما عن قلة الانضباط والحوادث، فأخبارها صارت تملأ نشرات الأخبار العالمية. أى أن الخصخصة أفادت فقط الشركات العالمية الكبرى على حساب موازنات الحكومة ودافعى الضرائب والفقراء من المواطنين. وما يعتبر تجربة ناجحة فى بريطانيا، أو فرنسا أو ألمانيا أو أمريكا أو اليابان وكلها بها ما بالتجربة البريطانية من عيوب لا يقارن بالتجارب الفاشلة فى الدول النامية. ففى الأرجنتين مثلا، انتهى الأمر بأن أعيدت خطوط السكة الحديد فى 2015 بعد عقدين من الفشل إلى أحضان الحكومة، بعد أن فشل القطاع الخاص (نفس الشركات الدولية العملاقة المدعومة من ميزانيات الدول المتقدمة). وفى إفريقيا جنوب الصحراء حيث بدأ مشوار الخصخصة قبلنا بعشرين عاما أيضا، باءت الأمور بالفشل، فلم تتحسن الخدمة ولا زادت الخطوط. وحين تقرأ دليل البنك الدولى لإصلاح السكك الحديدية، تلمح تغييرا فى موقفه. فقد صار أكثر تواضعا فى توصيته بالخصخصة كطريق وحيد لإصلاح السكك الحديدية، بعد أن دقت على رأسه الطبول. نعم، يصر البنك على أن التنافسية التى يخلقها دخول القطاع الخاص فى نشاط تشغيل الخطوط والصيانة تجب مشكلات أخرى. إلا أنه أولا، يضع عدة مقترحات (درجات من الخصخصة والشراكة، مع ذكر عيوب كل نوع). والأهم، صار البنك الدولى أكثر إدراكا لأهمية دور الدولة والذى أفرد له ثلاثة أبواب فى الدليل. ويشدد على أن هذا الدور هو مفتاح النجاح فى إصلاح السكك الحديدية. وهو إدراك حرى بأن ينتقل إلى الدولة المصرية قبل أن تفكر فى بيع سريع لهذه الأرض أو حق استغلال لهذا الخط أو ذاك. من تلك الأدوار الضرورية للدولة وضع القوانين، والرقابة على حساب التكلفة والتسعير، ويد قوية ضد الممارسات الاحتكارية، وضد (التجنب الضريبى) وحين تقرأ تفاصيل تلك الأدوار فى ضوء واقع السكة الحديد الحالى، تدرك أننا فى مصر بعيدون كل البعد كمؤسسات عن القيام بالأدوار المنشودة. فإذا كان هدف التوفير غير متحقق، وإذا كان التوسع فى الخطوط غير مفيد للفقراء وغير ذى جدوى لنقل البضائع، والدور المطلوب من شبه الدولة أصعب من أن تقوم به فى الوقت الحالى. وإذا كانت عشرات التجارب حول العالم باءت بالفشل، حتى استقرت معظم الدول على إبقائها فى يدها، فلماذا تصر الحكومة على تكراره؟ لا أعرف لماذا يطرأ على البال نكتة عن الصعايدة: حين قال أحدهم، اسكت مش حسنين داسه القطر؟ فرد بلدياته مستغربا: تااااانى؟