من الأمور التى استرعت انتباهى من قراءة التاريخ ودراسة الجغرافيا هو كيف تنمو الدول وتتوسع، وقد درج معظم المؤرخين وكتاب الجغرافيا على قياس نمو الدولة بمساحة الأراضى التى تضيفها إليها، وقياس ضعف الدولة وانحدارها بما تفقده من أراض كانت فى حوزتها، وفى الأغلب كان ذلك يتم بعد حرب تخوضها الدولة تفقد فيها أرضا أو تكسب فيها أرضا جديدة. أيضا التاريخ حافل بالعديد من الأمثلة على تبادل الأراضى نتيجة اتفاقات ومعاهدات تبرم، أو انتقال الملكية نتيجة حكم قضائى دولى صادر عن هيئة تحكيم أو نتيجة لاتفاق دولتين بعد إعادة ترسيم الحدود بينهما. ولكن يظل فى النهاية النظر إلى الدولة التى تضيف أرضا بأنها حققت مكسبا، والعكس صحيح. ولا أدل على صدق هذه المقولة مما حدث بين روسيا القيصرية وأمريكا الجمهورية فى النصف الثانى من القرن التاسع عشر، عندما باعت الإمبراطورية الروسية إقليم ألاسكا البالغ مساحته أكثر قليلا من نصف مليون ميل مربع ( 586،412) والذى يعادل حوالى المليون ونصف المليون كيلو متر مربع (1،518،800) إلى الولاياتالمتحدة بمبلغ 7،2 مليون دولار ذهبى بواقع 2 سنت للفدان بعملة ذلك الوقت، وهى الصفقة التى أبرمت منذ 150 عاما فى 30 مارس 1867. وقد اختلف المؤرخون حول الأسباب التى حدت بقيصر روسيا أنذاك، ألكسندر الثانى، إلى الموافقة على هذه الصفقة لما انطوت عليه من تنازل عن جزء لا يستهان به من الأراضى الروسية، فى حين يتم الاحتفاء وتكريم وزير الخارجية الأمريكى وليام سيوارد الذى تفاوض على شراء هذه الأراضى باعتباره صاحب رؤية ثاقبة للمستقبل وأحد مهندسى بناة القوة الأمريكية الحالية. ويعزو عدد من المؤرخين أسباب تخلى القيصر ألكسندر الثانى عن أقليم ألاسكا إلى الهزيمة التى منيت بها بلاده فيما عرف لاحقا بحرب القرم الأولى بين روسيا من جانب وبين بريطانياوفرنسا والدولة العثمانية من جانب آخر خلال الفترة من 1853 إلى 1856. وكان من نتائج هذه الحرب خسارة روسيا لأسطولها البحرى وتخوفها من إقدام بريطانيا على الاستيلاء على هذا الأقليم (ألاسكا)، نتيجة لعجز الدولة الروسية عن الدفاع عنه. وقد عرضت روسيا على الولاياتالمتحدة، العدوة اللدودة لبريطانيا فى ذلك الوقت، شراء ألاسكا فى عام 1860، إلا أن اندلاع الحرب الأهلية الأمريكية فى عام 1861 أوقف المفاوضات وحال دون إتمام الصفقة. وبعد انتهاء الحرب الأهلية الأمريكية بعام جددت روسيا تقديم عرضها فى ديسمبر1866 وهو ما تلقفه وليام سيوارد وزير الخارجية الأمريكى آنذاك وبعد جلسة مفاوضات استمرت طيلة ليلة 29 مارس 1867 تم توقيع الاتفاق فى الساعة الرابعة صباح اليوم التالى بين ممثل الحكومة الروسية البارون إدوارد دى ستويكى مع وزير الخارجية الأمريكى وليام سيورد. لكن كانت هناك أسباب أخرى دفعت القيصر ألكسندر الثانى إلى المضى قدما فى إتمام الصفقة بجانب الأسباب سالفة الذكر، وهى الأزمة الاقتصادية الطاحنة التى كانت تمر بها البلاد. تلك الأزمة التى أجبرت الحكومة على اقتراض 15 مليون جنيه إسترلينى من بنك روتشيلد لدفع تعويضات لأصحاب الأملاك والضيعات من كبار النبلاء والعائلة المالكة بعد مرسوم تحرير عبيد الأرض (الأقنان) فى عام 1861. وعندما عجزت الحكومة عن تسديد القرض كان خيار بيع ألاسكا المطروح بالفعل يمثل أحد السبل للخروج من هذه الأزمة الاقتصادية. لا شك أنه بعد مرور قرن ونصف على هذه الصفقة فإنها ما زالت تثير فضول الباحثين والمؤرخين، وذلك أكثر من صفقات أخرى عقدتها الولاياتالمتحدة، مثل شراء إقليم لويزيانا من فرنسا فى عام 1803، والتى كانت تعادل فى مساحتها وما تم دفعه فيها ما يوازى ضعف ما تم مع ألاسكا أوحتى أكثر. وقد يرجع سبب ذلك إلى التنافس الموجود حاليا بين روسيا وأمريكا، وما تشعر به واشنطن من أمان جراء استحواذها على إقليم أو ولاية ألاسكا حاليا، وما كان يمكن أن يمثله استمرار بقاء هذا الإقليم جزءا من الدولة الروسية من تهديد مباشر للأمن القومى الأمريكى. فى حين يتحسر رجال الإستراتيجية الروسية على فقدان هذه الأراضى التى كانت بلا شك ستميل بميزان القوة بشدة لصالح موسكو فى لعبة التوازنات الدولية التى نعيشها حاليا. ويذهب البعض إلى تصور كيف كان يمكن لروسيا فى حال احتفاظها بإقليم ألاسكا أن تضع فيها صواريخها العابرة للقارات بدلا من كوبا كما حدث فى عام 1961، ودون أن تستطيع الولاياتالمتحدة أن تحرك أسطولها كما فعلت لمحاصرة كوبا وإجبار نيكيتا خروتشوف الزعيم السوفيتى آنذاك على سحب الصواريخ الروسية، فكان هذا أحد الأسباب التى أدت إلى الإطاحة به بعد ذلك. أسئلة كثيرة بلا شك، ولكن حكم التاريخ فى النهاية واضح حول من حقق المكسب الأكبر ومن صاحب الخسارة الأكبر.