كان العالم الإسلامى فى الربع الأخير من القرن الخامس الهجرى الذى تقف أحداثنا على أعتابه الآن قد وصل إلى درجة من الضعف والتشرذم والتقاتل والتناحر حدا لم يبلغه منذ نشأت الدولة الإسلامية الأولى بالقيادة النبوية الشريفة فى المدينةالمنورة، وقد ترتب على ذلك أن غدت الدولة مطمعا لأعدائها وهدفا لمؤامراتهم ولغزواتهم المتكررة، وهكذا سقطت مصر تحت حكم الفاطميين الذين أقاموا بها دولة تمدد نفوذها حتى الشام والحجاز ثم تحالفت مع البيزنطيين لضرب الخلافة العباسية فى بغداد وهو ما شجع عددا من الدويلات على الانفصال عن الخلافة فتمزقت منطقة آسيا الصغرى إلى دويلات متصارعة وتشظى الشام فى إمارات مستقلة كدمشق وطرابلس وتوزع اليمن بين ثلاث طوائف متحاربة هذا فضلا عن أحوال الأندلس المنقسمة بين ملوك الطوائف وسقوط عاصمتها طليطلة فى أيدى القشتاليين، فإذا ما تذكرنا أن الأندلس لم تكن حتى ذلك الحين جزءا من الخلافة العباسية وإنما ظلت إمارة ثم خلافة أموية حتى بعد سقوط الدولة الأموية فى دمشق إلى أن تمزقت بين ملوك الطوائف كما رأينا سابقا.. وإذا ما تذكرنا كيف كانت أحوال المغرب حتى سنوات قليلة مضت قبل قيام حركة ابن ياسين للإحياء الإسلامى فى الصحراء.. إذا ما تذكرنا ذلك كله لأصبح واضحا أمامنا ما كانت تعانيه الخلافة العباسية وقتئذ من ضعف وهوان ومن قلة حيلة إلى الحد الذى دفع الخليفة القائم بأمر الله إلى الاستنجاد بطغرل بك السلجوقى لإنقاذه من المتآمرين ولإعادة توحيد بعض الأجزاء المتشرذمة من دولة الخلافة. فى تلك الأجواء التى صارت فيها الخلافة العباسية الضعيفة فى بغداد أقرب للرمز المعنوى منها للحقيقة الواقعة بدا اقتراح رجال الدولة المرابطية على القائد المنتصر وموحد دول الشمال والغرب الأفريقى يوسف ابن تاشفين بأن يتسمى باللقب الخلافى «أمير المؤمنين» اقتراحا أقرب إلى المنطق، غير أن الأمير المسلم الذى أسس نظام حكمه على عقيدة ثابتة راسخة كان مدركا تماما لمعنى الولاء فى الإسلام وأنه أصل من أصول العقيدة وسبب من أهم أسباب النصر الذى لا يتحقق إلا بوحدة المسلمين تحت راية واحدة، هذا الولاء الذى تعلمه من كتاب الله سبحانه ومن سنة رسوله صلى الله عليه وسلم وهذا الاتحاد الذى جعله الله تعالى سببا للنصر وجعل ضياعه فقدانا للطريق (ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم) هو الذى أنطق ابن تاشفين بقولة حق لا ينطقها أبدا من كان مبتغاه دنيا أو سلطة أو زعامة: «حاشا أن أسمى بهذا الاسم إنما يتسمى به خلفاء بنى العباس وأنا رجلهم والقائم بدعوتهم»، وهكذا فوض ابن تاشفين رغم قوته وتمكنه الأمر إلى خليفة المسلمين رغم ضعفه وتهافته وأرسل له سفارة إلى بغداد ومعها هدية رمزا للطاعة وطلبا للولاية الشرعية فعادت السفارة بهدية من الخليفة وبخلع أميرى وبكتاب تقليد يوسف ابن تاشفين ولاية المغرب وما فتحه من بلاد أفريقيا، ومع توالى الأحداث والبطولات والفتوحات حصل ابن تاشفين بإجماع العلماء على لقب سلطانى وليس خلافيا اشتهر به فى التاريخ الإسلامى ولم يُطلق على أحد سواه وهو لقب «أمير المسلمين وناصر الدين» الذى ما إن تسمعه حتى تتداعى إلى مخيلتك صورة ذلك الفارس البربرى الشجاع النبيل التقى الورع الزاهد العادل الصالح الذى تحقق فى عهده من الإنجازات ما لم يتحقق طوال التاريخ المغاربى والذى تأسست تحت زعامته الدولة المثل التى نرد بذكرها على ما يعرف به الجاهلون والكذابون والخونة والظلاميون والمنهزمون فى دواخلهم الفارون ذعرا من ذواتهم والمتوارون خجلا من هوياتهم أولئك الذين يزعمون أن دولة الإسلام ما قامت إلا فى فترة النبوة ومطالع الخلافة الراشدة على أحسن تقدير ثم انهارت فلم تقم لها قائمة ولا تصلح لأن تقوم مرة أخرى، نرد عليهم بما يرطب ألسنتنا من ذكر دولة المرابطين وغيرها من دول الإسلام التى أُسست على صرح مستقى من ذلك النموذج الأول الذى بلغ عنان السماء والصالح دوما للاقتداء به كلما استيقظ المسلمون من سباتهم وعادوا إلى عقيدتهم السليمة وعرفوا أنهم لم يُبعثوا لمجرد إقامة دولة قوية وصالحة على قطعة من الأرض وإنما لقيادة الدنيا كلها ولتحرير البشر كافة ولإخراج الناس جميعا من الظلمات إلى النور، لأنهم للناس ابتعثوا وليس لأنفسهم فقط (كنتم خير أمة أخرجت للناس) نعم للناس كافة ولو كرهت الجرذان المذعورة. عودة لأمير المسلمين يوسف ابن تاشفين لنلقى نظرة سريعة على النظام الإدارى لدولة المرابطين التى أصبحت أكبر وأهم وأقوى الدول الإسلامية فى تلك الفترة حيث يثير العجب والإعجاب مدى ما وصلت إليه تلك الدولة فى ولايته وهو ربيب الصحراء وسليل رعاة الإبل من تقدم ومدنية: أقام أمير المسلمين دواوين الإنشاء والمال ووضع نظاما للضرائب ونظاما لإنفاقها فى التعمير والخدمات حقق من خلاله التنمية والعدالة الاجتماعية فى البلاد. حول ابن تاشفين الجنود المتطوعين إلى جنود نظاميين وأنشأ لهم ديوانا مستقلا ينظم شئونهم المالية والإدارية. أنشأ ديوانا لضرب النقود «دار السكة» وتوجد بمتحف النقود بالرباط حاليا نماذج للنقود المرابطية بينها الدينار الذهبى وكسوره والدراهم، ومنها دينار يحمل الكتابة التالية: الوجه الأول: سطر (1) لا إله إلا الله، سطر (2) محمد رسول الله، سطر (3) أمير المسلمين يوسف ابن تاشفين، وحول السطور دائرة مكتوب بها (ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو فى الآخرة من الخاسرين)، الوجه الثانى: الأمير عبدالله العباسى، والدائرة المحيطة مكتوب بها تاريخ الضرب ومكانه: مراكش. نشأ فى عهد ابن تاشفين نظام للوزارة وتكونت هيئة استشارية من العلماء لإقامة منهج الشورى الإسلامى كما نشأ نظام قضائى حرص أمير المسلمين على دعمه بأفضل العناصر والإمكانيات لإقامة العدل وشريعة الله فى البلاد. وإذ تهيأت الدولة المرابطية فى المغرب وأفريقيا للاستقرار وفتح الله عليها من بركاته صكت أسماع الأمير يوسف صرخات استغاثة انطلقت من هناك، من الجانب الآخر لمضيق جبل طارق، من الأندلس الجريحة، أفتراه يلبى النداء؟