حين تحدث وزير خارجية إسرائيل عن شطب القضية الفلسطينية من قاموس وزارته، فإنه لم يكن يهزل، ولكنه كان يعلن عن خبر تكتمه كثيرون فى حين أنه يترجم على الأرض يوما بعد يوم. (1) ليس كل الأشرار كذابين دائما، منهم من يتمتع بدرجة من الصفاقة والجموح تجعله يصرح بما لا ينبغى التصريح به، من هذه الزاوية فالفرق بين ليبرمان ونتنياهو أو غيره من القادة الإسرائيليين، أن الأول لا يكترث بتغليف أفكاره أو تزيينها، فى حين أن الآخرين يجيدون الكذب واللعب بالألفاظ وصياغة الأفكار ذاتها بعبارات فضفاضة تخدع المتلقى وتجعله يبلعها دون ألم. أغلب الظن أنها مصادفة، أن يصرح ليبرمان بكلامه هذا فى حوار نشرته له صحيفة «يديعوت أحرونوت» فى 4/9، بعد أسبوع من نشر موقع الجريدة ذاتها مقالا لكاتب مهم هو رون بن يشاى تحت عنوان: استعدوا لهزة أيلول (سبتمبر). تحدث فيه عن هزة كبيرة ستقع فى الشرق الأوسط خلال هذا الشهر، سيتم خلالها خلط الأوراق من جديد، بحيث تجلس الجهات الفاعلة فى المنطقة على الطاولة لبحث كل الملفات العالقة (من وجهة النظر الإسرائيلية بطبيعة الحال) من إطلاق سراح الجندى الأسير جلعاد شاليط إلى الملف النووى الإيرانى. فى التفاصيل تحدث عن أن إطلاق سراح شاليط سيفتح الباب لرفع الحصار عن غزة، وأن خطة أوباما لحل النزاع ستكون بمثابة خريطة طريق جديدة، وسترتكز على محورين، أحدهما تجميد الاستيطان مقابل بدء تطبيع العلاقات مع الدول العربية «المعتدلة»، والثانى بدء المفاوضات بين الطرفين الفلسطينى والإسرائيلى، وهى العملية التى يفترض أن يتم تدشينها احتفاليا فى لقاء قمة يعقد على هامش الجمعية العمومية للأمم المتحدة، يحضره أوباما ونتنياهو وأبومازن. فى هذه الأجواء تسلط الأضواء بقوة على مسألة الاستيطان، التى أصبحت حجر الأساس فى مشروع التسوية، إذ بعد جدل ومساومات حول المدة. التى سيتم خلالها وقف أو تعليق الاستيطان، تحدث الرجلان عن مدة تسعة أشهر، علما بأن الكلام يشدد على أنه وقف مؤقت. وما إن ذاع الخبر حتى بدأت إسرائيل فى التنصل منه، إذ تبين أنها تنوى الاستمرار فى بناء 5970 وحدة سكنية جديدة فى القدس والضفة الغربية، بينها 700 وحدة سيتم إقرارها خلال الأيام القليلة المقبلة قبل أن يتقرر التجميد رسميا، أما بقية الوحدات السكنية فقد تذرعت إسرائيل بأن بعضها (2500 وحدة) بدأ البناء فيها قبل عدة شهور، وأن هناك اتفاقات مع المقاولين بهذا الصدد لا يمكن التنصل منها. وما تبقى بعد ذلك من أبنية ستتم إقامتها فى القدس، التى تعتبرها حكومة إسرائيل موضوعا خارج المناقشة. (2) على السحور، أثناء الزيارة الخاطفة التى قام بها السيد خالد مشعل رئيس المكتب السياسى لحركة حماس للقاهرة على رأس وفد من أعضاء المكتب، سألته عن رؤيته لهذه التطورات، فقال إن الجميع ينتظرون مشروع أوباما الذى يفترض أن تعلن محتوياته بعد أسبوعين، تستثنى من ذلك إسرائيل التى تواصل ابتلاع الأرض وسط الجدل الدائر حول تعليق الاستيطان أو وقفه، وهى واثقة من قدرتها على الاحتيال والالتفاف. وأضاف أن قارئ التاريخ الفلسطينى يذكر جيدا أنه أثناء مفاوضات لوزان، التى جرت لتطبيق القرار 194 الخاص بعودة اللاجئين (بين عامى 49 و1950) فإن بن جوريون أفشل المفاوضات رغم الضغط الأمريكى، وفى هذه الأثناء دمر 400 قرية عربية واستقدم 800 ألف يهودى من البلاد العربية. سألته عن رؤيته للمشهد الفلسطينى الراهن، فقال إن ما يلوح فى الأفق يمكن قراءته من عدة زوايا على النحو التالى: * إسرائيل تتحرك حثيثا باتجاه تصفية القضية غير مبالية بما يقال عن ضغوط ومشاريع مطروحة، وهى سوف تتعامل مع الضغوط لامتصاصها، مطمئنة إلى أنها مع واشنطن بوجه أخص لن تصل إلى نقطة التقاطع أو التصادم، وما حدث مؤخرا فى شأن تسريع عملية الاستيطان، يؤكد ذلك. فقد أعربت واشنطن عن «قلقها» و«عتبها» إزاء موقف حكومة نتنياهو ثم نقلت الإذاعة العبرية عن مسئول مكتب رئيس الوزراء الإسرائيلى قوله إن التعقيب الأمريكى لم يكن شديد اللهجة، وإنما كان منضبطا واتسم بلهجة إيجابية، وذكرت صحيفة يديعوت أحرونوت على موقعها على شبكة الإنترنت أن إسرائيل لم تفاجئ واشنطن بما أقدمت عليه، لأن الإدارة الأمريكية كانت على علم مسبق بخطوات حكومة نتنياهو، بما يعنى أن كل شىء يتم بشفافية وتنسيق. * الإدارة الأمريكية تعد الآن أفكارها لإطلاق المفاوضات وتحقيق التسوية السلمية، ورغم أن هذه الأفكار لم تعلن رسميا بعد، فإن القدر الذى عرف منها حتى الآن لا يبعث على التفاؤل أو الاطمئنان، وإذا ما وضعنا فى الاعتبار أن السياسة الأمريكية ترسم فى الكونجرس التى تملك إسرائيل نفوذا قويا فيه وليس فى البيت الأبيض، فإننا نعتبر الاتجاه إلى مقايضة الاستيطان (المؤقت!) بالتطبيع يمثل انقلابا حتى على المبادرة العربية، التى أعلنتها قمة بيروت (2002)، وهى التى تحدثت عن الانسحاب الكامل مقابل التطبيع، وإذا تذكرنا أن عدم التطبيع هو خط الدفاع الأخير، الذى تملكه الحكومات العربية فى دفاعها عن القضية الفلسطينية، فإن انهيار ذلك الخط يعد أحد قرائن تصفية القضية وشطبها. * الدول العربية لم تحدد موقفا رسميا حتى الآن، ومن الواضح أنها تتعامل بحذر مع الأفكار الأمريكية التى يجرى الحديث عنها. ومعلوماتنا أن مصر تحفظت أثناء زيارة الرئيس مبارك لواشنطن على فكرة مقايضة تجميد الاستيطان بالتطبيع، واعتبرت أن ذلك لن يحقق أى تقدم فى التسوية السلمية، كما أن السعودية رفضت أن تدخل فى الصفقة، التى أريد بها إشراكها فى إجراءات التطبيع عن طريق السماح للطيران الإسرائيلى بعبور مجالها الجوى أثناء الرحلات المتجهة إلى آسيا. فى الشق المتعلق بالسلطة الفلسطينية هناك شواهد تدل على أن الرئيس أبومازن وفريقه لم يعودوا راغبين فى المصالحة مع حركة حماس، وإن هناك اتجاها لإبقاء الوضع كما هو عليه حتى نهاية العام، بحيث يحين موعد الانتخابات الرئاسية والتشريعية فى شهر يناير المقبل فى ظل استمرار الخصام. وفى هذه الحالة تجرى الانتخابات فى الضفة الغربية دون غزة، بحيث تصبح الضفة هى قاعدة الدولة الفلسطينية والممثلة لمشروعها، بما يؤدى إلى إخراج غزة وحركة حماس من الصورة تماما. وفى ظل انتخاب مجلس تشريعى جديد تهيمن عليه قيادة فتح، يمكن الانطلاق بعد ذلك نحو التسوية التى تستجيب للشروط والمواصفات الإسرائيلية. وقد تمت مناقشة هذا «السيناريو» أثناء اللقاء مع السيد عمر سليمان فى القاهرة، وكان موقف مصر واضحا فيه، إذ تحفظت على إجراء الانتخابات فى الضفة الغربية وحدها، ودعت إلى ضرورة إجراء المصالحة قبل الانتخابات، حتى إذا أدى ذلك إلى تأجيل موعد إجرائها. وهو يختم هذا العرض قال أبوالوليد إنه إزاء هذه الصورة فإن المراهنة الوحيدة، التى يطمئن إليها والصخرة التى يمكن أن تتحطم عليها تلك الطموحات هى صمود الشعب الفلسطينى وقدرته التاريخية على الثبات ورفض التنازل عن حلمه المشروع. (3) الذى تحت السطح أخطر وأفدح بكثير مما فوق السطح فى الساحة الفلسطينية، ذلك أنه فى حين يشغل الرأى العام ووسائل الإعلام بالضجيج المثار حول ملف الاستيطان، فإن الحكومة الإسرائيلية ما زالت ماضية على نهج بن جوريون، الذى سبقت الإشارة إليه، المتمثل فى الإقدام على هدم مئات القرى واستقدام مئات الآلاف من المهاجرين فى حين كان الجدل مستمرا فى لوزان حول عودة اللاجئين الفلسطينيين الذين طردوا من ديارهم. ما أعنيه هو أن الجدل الراهن حول الاستيطان صرف الانتباه عن أخطر سرقة قامت بها إسرائيل لتغيير ملكية أراضى الفلسطينيين، ونقل هذه الملكية إلى اليهود، الذين يتسابقون على شرائها الآن من مختلف أنحاء العالم. وهو ما يعد خطوة بعيدة المدى باتجاه محو فلسطين من الوجود، وليس فقط شطب القضية. وكان التقرير الاستراتيجى الفلسطينى عن عام 2008، الذى صدر قبل عدة أسابيع قد ذكر أن إسرائيل صادرت نحو 900 ألف دونم من أراضى الضفة الغربية، استنادا إلى قانون صدر سنة 1858 (فى العهد العثمانى) يقضى بالاستيلاء على الأراضى التى لا تزرع طوال ثلاث سنوات، وأثار الموضوع الدكتور سلمان أبوستة رئيس هيئة أرض فلسطين فى مقال نشرته له «الحياة» اللندنية (فى 24/8/2009) حين نبه إلى أن الكنيست وافق فى جلسة 3/8 الماضى، ولأول مرة منذ عام 48 على مشروع لبيع أراضى اللاجئين إلى أفراد وجهات يهودية من أى بلد. وكانت إسرائيل طوال الفترة السابقة تتولى «إدارة» تلك الأراضى فقط، مدركة أن الاستيلاء على الأراضى وبيعها مخالف للقانون الدولى بشكل قاطع، كما أنه مخالف لاتفاقية لاهاى عام 1907، ومخالف لاتفاقية جنيف الرابعة التى تمنع الاستيلاء الجماعى على الممتلكات. وكانت الأممالمتحدة قد أصدرت عدة قرارات فى الأعوام 96 و97 و1998 منها القرار 52/62 بعنوان «ممتلكات اللاجئين والحق فى الدخل الناشئ عنها». وقد فرض على إسرائيل المحافظة على أراضى اللاجئين وتوثيقها وتقديم معلومات عنها. وأكد حق اللاجئين فى الدخل المستوفى منها منذ عام 1948. ذلك كله داست عليه إسرائيل وأطاحت به، فى جرأة وتحد مدهشين، وفى ظل صمت وتستر مريبين من جانب الأمريكيين والأوروبيين والحكومات العربية أيضا. وهو ذات الصمت الذى قوبل به طرد أهالى القدس من بيوتهم، دون أن يرتفع صوت للاستنكار من أى طرف. لقد أصدر قاضى محكمة الرملة حكما أشارت إليه جريدة هاآرتس (فى 2/8/2009) يقضى بتطبيق قانون أملاك الغائبين على الضفة الغربية ذاتها. ومن ثم اعتبرت إسرائيل مالكا لأراضى الغائبين، فى انتهاء صارخ لقرارات مجلس الأمن وحكم محكمة العدل الدولية، التى تعتبر الضفة الغربية أرضا محتلة. (4) إذا لم يكن الصمت على كل ذلك تواطؤا على شطب القضية وتمهيدا لمحوها، فماذا نسميه؟ وإذا سكت القادة العرب على هذا الذى يجرى، فهل نلوم الأمريكيين والأوروبيين؟ وإذا أدار السيد أبومازن وجماعته القابعون فى رام الله ظهورهم لما يجرى وشغلوا بتوفيق أوضاعهم مع الإسرائيليين والأمريكيين وبالاستعداد للقبول بأى شىء يستر العورة مقابل الاستمرار والتمكين، فبماذا نسمى موقفهم ذاك؟ لقد أجرت صحيفة التايمز البريطانية فى 25/8 الماضى حوارا مع رئيس حكومة رام الله الدكتور سلام فياض قال فيه إنه يسعى فى الوقت الراهن إلى تأسيس واقع فلسطينى فى الضفة يقوم على ثلاثة عناصر هى: إنشاء أجهزة أمنية محترفة وقادرة، وتوفير خدمات عامة جيدة للفلسطينيين، وإقامة اقتصاد مزدهر. ولم يشر بكلمة إلى التحرير أو الحدود أو السيادة، وإنما اكتفى فقط بمهام «المجلس البلدى»، الذى تسعى إسرائيل لحصار الدولة الفلسطينية فى حدوده. وبعد أيام قليلة (فى 2/9 الحالى) قالت هاآرتس إن نائب رئيس الوزراء الإسرائيلى سليفان شالوم عقد اجتماعا مع وزير الاقتصاد فى حكومة رام الله باسم خورى، فى أول لقاء معلن بين ممثل لحكومة رام الله وبين مسئول فى حكومة نتنياهو، وكان ذلك تطبيقا عمليا لدعوة نتنياهو إلى إقامة سلام اقتصادى مع الفلسطينيين، وليس تسوية سياسية. هذا التآكل المستمر للقضية الفلسطينية يستدعى السؤال التالى: ما العمل إذن؟ وهو سؤال كبير ينبغى أن نفهم الحاصل أولا قبل أن نحاول الإجابة عنه. وأرجو أن أكون قد أوصلت شيئا فيما خص مسألة الفهم، أما الإجابة المرجوة على السؤال فإننى أحيلها إلى حديث آخر.