إلى هنا يتضح جليا أن القول والعمل يدلان من عهد التشريع على أن التعدد مباح ما لم يخش المؤمن الجور فى الزوجات، فإن خافه، وجب عليه تخليصا لنفسه من إثم ما يخاف أن يقتصر على الواحدة. ويتضح أيضا أن إباحة التعدد لا تتوقف على شىء وراء أمن العدل وعدم الخوف من الجور، فلا يتوقف على عقم المرأة. ولا مرضها مرضا يمنع من تحصن الرجل، ولا على كثرة النساء كثرة ينفرط معها عقد العفاف. نعم يشترط فى الزوجة الثانية ما يشترط فى الأولى من القدرة على المهر والنفقة. هذا وقد وضعت الآية تعدد الزوجات فى موضع الأصل فى طريق التخلص من عدم القسط فى اليتامى، ثم ذكر الاقتصار على الواحدة عند طروء الخوف من عدم العدل بين الزوجات. ومن هذا كان لنا أن نقول: إن الأصل فى المؤمن العدل، وبه يكون الأصل إباحة التعدد، وإن الجور شىء يطرأ على المؤمن فيخافه وبه يوجد ما يوجب عليه أن يقتصر على الواحدة. ويلتقى هذا مع ما قرره الباحثون فى تعليل ظاهرة التعدد فى الزوجات كما سلف، وأن التعليل فى جملته وتفصيله يقضى بتعدد الزوجات، بالنظر إما إلى حاجة الشخص، وإما إلى حاجة المرأة. ولو كان الأمر على عكس هذا لكان أسلوب الآية هكذا: وإن خفتم ألا تقسطوا فى اليتامى فانكحوا واحدة من غيرهن فإن كان بها عقم أو مرض، واضطررتم إلى غيرها فمثنى وثلاث ورباع. ولفت بذلك الغرض الذى ربط به تشريع تعدد الزوجات من قصد التوسعة عليهن فى ترك اليتامى حين الخوف من عدم الإقساط فيهن. ولكان الأسلوب على هذا الوجه هو الأسلوب الذى عهد للقرآن فى إباحة المحرم عند الضرورة الطارئة، وذلك كما نرى فى مثل قوله تعالى: «حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير» إلى أن قال: «فمن اضطر فى مخمصة غير متجانف لإثم فإن الله غفور رحيم» (المائدة: 3). ولدلت الآية بهذا على أن التزام الواحدة هو الأصل والواجب، وأن إباحة التعدد إنما يكون عند الضرورة. ولكن شيئا من ذلك لم يكن، فإن أسلوب الآية كما ترى، وضع التعدد أولا طريقا للخلاص من التحرج فى اليتيمات، ثم علقت الواحدة على طروء حالة هى الخوف من عدم العدل. وعليه فلا دلالة فى الآية على أن المطلوب فى الأصل هو التعدد أو الواحدة. وهذا إذا لم نقل إن الأصل والمطلوب هو التعدد، تلبية للعوامل التى طبع عليها الرجل والاجتماع البشرى والتى قضت بظاهرة تعدد الزوجات فى قديم الزمن وحديثه. وبعد، فلو كان التعدد مقيدا بشىء مما يذكرون وراء الخوف من عدم العدل، والمسألة تتعلق بشأن يهم الجماعة الإنسانية، وتمس الحاجة إلى بيان شرطها وبيانها، لما أهمل هذا التقييد من المصادر التشريعية الأولى الأصلية، ولكان للنبى صلى الله عليه وسلم مع الذين أسلموا ومعهم فوق الأربع موقف آخر وراء التخيير فى إمساك أربع ومفارقة الباقى. وللزم أن يبين لهم والوقت وقت وحى وتشريع أن حق إمساك الأربع أو الزائد على الواحدة مشروط بالعقم، أو المرض أو القدرة على تربية ما قد يولد للرجل من زوجاته المتعددات، وعلى الإنفاق على من تجب عليه نفقته من أصوله وفروعه وسائر أقاربه. ولكن شىئا من ذلك لم يكن. فدل كل هذا على أن التعدد ليس مما يلجأ إليه عند الضرورة، وليس مما تتوقف إباحته على شىء غير أمن العدل بين الزوجات، فيما يدخل تحت قدرة الإنسان من النفقة والمسكن والملبس.