يتعجب كثيرون لإطلاق لقب «الحاج فلان» على من يقوم بأداء فريضة الحج ويتفاكه البعض متسائلا: ولم لا يطلق على من يصلى أو يصوم لقب المصلى فلان أو الصائم فلان؟ والحقيقة أن لقب الحاج له فى التاريخ أصل، ففى الأزمنة السابقة على اختراع وسائل المواصلات الحديثة من سيارات وقطارات ثم طائرات كان القاصد لأداء فريضة الحج يحتاج عدة أشهر للانتقال من موطنه إلى بيت الله الحرام ذهابا ومثلها إيابا سائرا فى البرية راجلا أو راكبا دابته حتى يصل إلى مبتغاه، فعدت تلك الرحلة بحق بمثابة رحلة عمر لا يرجع منها إلى وطنه قبل مرور عام أو عامين على الأقل هذا إن رجع، فهو يمر فى الطريق إلى مكة بعدد من البلدان فيبقى فيها لأسابيع أو لشهور قبل استئناف رحلته، فإن كانت البلدة إسلامية ففيها مساجد وعلماء يجلس إليهم ليستمع وليتلقى العلم الذى ينقله من مستوى دراسى إلى مستوى دراسى أعلى كل حسب اجتهاده.. بتعبير عصرى يمكننا القول إن الدراسة الشرعية الأولية التى يتلقاها الشخص فى موطنه استعدادا لرحلة الحج تلحقها دراسة جامعية ذهابا ثم دراسات عليا إيابا يجيزه عليها العلماء فإن حصل على لقب «حاج» فهو يشبه اللقب الأكاديمى الحالى كلقب دكتور مثلا. وكذا فعل الأمير الحاج يحيى ابن إبراهيم الجدالى الذى أدرك خلال رحلته لأداء الفريضة حقيقة الحال التى وصل إليها بربر صنهاجة والذى يتراوح بين جهل مطبق بأحكام الدين وخروج بالكلية عن الملة فعقد العزم على استنقاذ نفسه وعشيرته من ظلمات الجاهلية، فعرج فى طريق عودته على القيروان العاصمة الثقافية لأفريقيا والتى استقر بها من بقى من علماء السنة والجماعة بعد مذبحة المالكية حيث أسسوا مدرسة كبرى كان يتزعمها عند وصول الأمير الحاج رجل من خيرة علماء المذهب اشتهر بغزارة العلم الذى ارتحل شرقا وغربا لتحصيله من مصادره فدرس فى أكبر جامعتين فى العالم فى وقته «قرطبة» و«بغداد» قبل أن يعود إلى القيروان ليتولى زعامة المدرسة المالكية فيجعلها قبلة الباحثين والدارسين... ذاك هو الإمام أبو عمران الفاسى فقيه عصره الذى قدر الله أن يلقاه الأمير يحيى الجدالى فيحدثه عن أحوال قبيلته جدالة وسائر القبائل الصنهاجية مفضيا إليه برغبته فى أن يرسل معه أحد تلاميذه ليعلم الناس أصول دينهم ويأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر. لم يكن الإمام الفاسى ليتردد فى مد يد العون للأمير الجدالى بل إن واجبه الدينى يحتم عليه أن يرسل معه من يدعو الناس للعودة إلى دين الله الحق، غير أن المفاجأة كانت فى اعتذار جميع تلاميذه عن القيام بهذه المهمة فى تلك المجاهل الصحراوية البعيدة عن العمران والتى لايعرفون لغة أهلها الأمازيغية، ولما تعهد الأمير بحماية وإكرام من يذهب معه أجابه أحد المرشحين بأن أهل الصحراء وقد عادوا لعاداتهم الجاهلية فإنهم إن طالبهم أحد بخلاف ذلك قتلوه! لم يجد الإمام الفاسى بعد رفض علماء القيروان القيام بالمهمة إلا أن يبعث برسالة مع الأمير الجدالى إلى واحد من قدامى طلبته الذى أصبح فقيه بلاد السوس المتاخمة لساحل المحيط الأطلسى بالمغرب الأقصى ويدعى وجاج بن زلوا من بربر لمطة إحدى فروع صنهاجة يطلب إليه فيها أن يرسل مع الأمير أحد تلاميذه العالمين العاملين ليقوم بدوره المأمول، وقد أحسن الإمام الاختيار كما أحسنه فقيه السوس إذ وقع اختياره على رجل ممن تزدان صفحات التاريخ بأسمائهم.. بل قل إن الإمام الفاسى وتلميذه اللمطى قد اجتهدا إلا أن الله سبحانه قدر لهذا الرجل العظيم.. عبدالله ابن ياسين.. أن يقوم بدور من أعظم الأدوار فى تاريخنا الإسلامى.. عبدالله ابن ياسين الجزولى من قبيلة جزولة الصنهاجية.. بربرى أسمر من جنوب الصحراء الغربية، ذو جسد ضامر قوى سريع الحركة ذكى ذو مهابة وفطنة ووقار، عالم فقيه درس فى المدرسة المالكية بالمغرب وارتحل إلى الأندلس زمن ملوك الطوائف فبقى فيها سبع سنين يستزيد من العلوم قبل أن يعود للاستقرار مع وجاج ابن زلوا على ساحل المحيط الأطلسى، وإذ ألقى فقيه السوس على عاتقه المهمة الثقيلة للدعوة داخل الصحراء هب الرجل ملبيا غير وجل ولا متردد متوكلا على الله واهبا نفسه وحياته لوظيفة الأنبياء والأولياء.. أن يخرج الناس من الظلمات إلى النور.. مهمة تهون فى سبيلها الحياة كلها. خرجت قبيلة جدالة تستقبل أميرها الحاج يحيى وضيفه الكريم وما أن عرفوا أنه أحد علماء المالكية حتى التفوا حوله فرحين وأحاطوه بهالة من التوقير جديرة بحامل سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فاطمأنت نفس ابن ياسين وشعر بيسر مهمته وبأنه سيمضى فى ديار جدالة أياما مليئة بالخير فى نشر تعاليم الدين وتدريس أحكام الشريعة، وقد قام الأمير الجدالى بحملة دعائية للشيخ الداعية أسفرت عن حشد أفراد القبيلة للاستماع إليه وتلقى العلم عنه فبدأ فى إلقاء الدروس على الناس وتذكيرهم بالآخرة وترغيبهم فى الجنة وترهيبهم من النار فتأثر الناس به وتكاثروا من حوله، واتسع نطاق شهرته حتى بلغ أرض لمتونة المجاورة فوفد منها المريدون والأنصار ثم خرج إليهم ابن ياسين يصحبه الأمير الجدالى حتى إذا اقترب من مضارب لمتونة نزل الأمير عن جمله وأمسك بزمام جمل ابن ياسين إجلالا له وخرجت القبيلة لاستقباله على رأسهم أميرها، وأخذ ابن ياسين يتنقل بين جدالة ولمتونة يلقى دروسه الشرعية والناس منصتون... حتى ذلك الوقت لم يكن الداعية قد خرج بدروسه عن تعليم الناس شعائر العبادات من صلاة وصيام وزكاة فأطاعه أكثرهم، إلا أنه عندما حدثهم عن ضرورة تطبيق أحكام الشريعة على سائر أمور حياتهم أجابوه قائلين : «هذا أمر لا يلزمنا ولاندخل تحته»!