حين يصبح السؤال هو: متى تغرق دلتا مصر، وليس هل ستغرق أم لا ؟، فإننا حين نستخف بالمسألة ونقف متفرجين على ذلك الحوار بغير أى حراك، نرتكب جريمة لن تغفرها لنا الأجيال القادمة. 1 ثمة حالة من البلادة مهيمنة على مجمل التفكير المستقبلى فى مصر، تثير الدهشة وتبعث على الحيرة. وقضية مصير الدلتا (عشرة آلاف ميل مربع يسكنها ثلثا أهل مصر وتزود البلد بستين فى المائة من احتياجاتها الزراعية) تمثل بندا واحدا فى قائمة قضايا المصير المهدد التى يبدو أنها لا تحتل ما تستحقه من اهتمام وجدية، فالمشكلة السكانية التى تتردد كل حين على ألسنة كبار المسئولين، معروفة ومشهورة فى كل الدراسات السكانية والاقتصادية منذ أكثر من أربعين عاما، ووصول عدد سكان مصر إلى 80 مليون نسمة بداية الألفية الجديدة ليس فيه أى مفاجأة. وارتفاع هذا الرقم إلى أكثر من 90 مليونا فى سنة 2020، لا يحتاج إلى عراف أو قارئ كف، لأن هذا تقدير ثابت فى سجلات الجهاز المركزى للتعبئة العامة والإحصاء. ورغم أن الأمر بهذا الوضوح فإن المسئولين فى الحكومة يتعاملون معه باعتباره مفاجأة لم تكن فى الحسبان. «ولا يكتفون بذلك، وإنما هم لا يكفون عن تقريع الشعب المصرى واتهامه بعدم المسئولية وقصر النظر، مع أن هذا الاتهام ذاته ينبغى أن يوجه أولا إلى الذين احيطوا علما بالمشكلة منذ عقدين أو أكثر، ومع ذلك لم يتحسبوا لها ولم يحاولوا التعامل بجدية مع تداعياتها. نفس الشىء حاصل فى موضوع آخر بالغ الخطورة هو مياه النيل، التى «اكتشفنا» هذا العام أننا يجب أن نقيم علاقات تعاون إيجابية مع دول حوضه، تحقق المصالح المتبادلة بين الطرفين، وقد أفاقت مصر على تلك الحقيقة حين اجتمعت دول الحوض فى الكونغو خلال شهر أبريل الماضى وبحثت عقد اتفاقية إطار جديدة، تتجاوز الاتفاقيات الثنائية التى كانت موقعة فى الماضى، دون الأخذ فى الاعتبار طلب مصر الحفاظ علي حقوقها التاريخية فى مياه النيل، استيقظت مصر من سباتها، حين أدركت أن هناك خطرا يهدد شريان الحياة الرئيسى لها، فى حين لم تتحرك طيلة السنين التى خلت لضمان الحفاظ على حقوقها، حتى بدا أن الحضور الإسرائيلى فى دول حوض النيل أقوى من الحضور المصرى. 2 الحديث عن احتمالات غرف دلتا النيل هو الذى قلب هذه المواجع، ذلك أننا فوجئنا ذات صباح بعنوان رئيسى فى صحيفة «الشروق» «عدد 22/8» يقول: إن احتمال غرق الدلتا، يهدد بكارثة كاملة، وكانت تلك النبوءة ضمن عدة خلاصات انتهى إليها تقرير اللجنة الحكومية للتغير المناخى، التى يرأسها نائب الرئيس الأمريكى الأسبق آل جور، وأبرزتها صحيفة «الجارديان» البريطانية، التى أكدت أن دلتا مصر بين أكثر ثلاث مناطق فى العالم معرضة للغرق بسبب ارتفاع منسوب مياه البحار نتيجة ذوبان الجليد من القطبين جراء ارتفاع حرارة كوكب الأرض، توقع الخبراء أن تفقد مصر 20٪ من مساحة الدلتا خلال المائة عام المقبلة، فى حال ارتفع مستوى مياه البحر المتوسط لمتر واحد فقط، أما السيناريو الأكثر تشاؤما فيضع فى الاعتبار احتمال زيادة مستوى البحر لحده الأقصى المتوقع، مما يعنى غرق الدلتا بالكامل لا قدر الله ووصول البحر المتوسط إلى الضواحى الشمالية لمدينة القاهرة. فى عدد «الشروق» ذاته «22/8» علق على التقرير الدكتور سامى المفتى، خبير البيئة العالمى والأمين العام السابق لمركز بحوث الصحراء، إذ قال إن الملف مفتوح منذ التسعينيات، حين أشارت الدراسات إلى أن التغيرات المناخية أدت إلى ارتفاع درجة الحرارة فى العالم بمعدل درجتين مئويتين، وهذا يعرض للغرق منطقتين هما دلتا النيل وبنجلاديش. وأضاف أن احتمالات مواجهة هذا الخطر فى الدلتا لن تظهر قبل نحو 30 أو 40 عاما وإنه بحلول عام 2100 سوف يصل ارتفاع منسوب المياه إلى 90 سنتمترا، وهذا من شأنه أن يغرق بعض المناطق فى دلتا النيل. وتحدث عن ضرورة تحرك الدولة لتدارك هذا الخطر والتحقق من مداه وحدوده، وشدد د. المفتى على أهمية أن يكون ذلك التحرك على مستوين، أحدهما محلى يشمل رفع مستوى الطريق الدولى الساحلى مذكرا بأن سور أبوقير الذى بناه محمد على باشا حمى الدلتا من الغرق. المستوى الثانى إقليمى ويتمثل فى الأخذ باقتراح قدمه فى سنة 90 خبير البيئة العالمى الدكتور عبدالفتاح القصاص، ودعا فيه إلى إقامة قنطرتين، إحداهما عند مضيق جبل طارق، والثانية عند باب المندب، لمنع تأثير ذوبان الجليد وتمدد المحيطات على البحر المتوسط والأحمر والأسود. الخبير الاستشارى الدكتور ممدوح حمزة، اتفق على أن هناك مشكلة خطيرة، وانتقد المبالغة فى حجمها، ولديه مشروع دعا فيه إلى محاسبة قضائية للدول التى تسببت فى ارتفاع درجة حرارة الأرض، ومن ثم سوء المناخ العالمى. وعلى رأس هذه الدول الولاياتالمتحدة واستراليا والاتحاد الأوروبى، إذ اعتبر أن العالم العربى يدفع ثمن أخطاء دول أخرى هى المسئول الأول عن الاحتباس الحرارى، ولذلك طالب بأن تسهم تلك الدول فى نفقات إنقاذ الدلتا من الغرق، وذكر أن لديه مشروعا للإنقاذ أعلنه فى 2007، ينفذ على مراحل خلال 20 سنة، كما نبه إلى أن الخطر الذى يتحدث عنه الخبراء، بدأت ملامحه تظهر فى الأفق، ودلل على ذلك بأنه أثناء حفر الآبار فى الدلتا لوحظ خروج مياه البحر منها، وهو ما يعنى أن التهديد بغرق الدلتا ليس سطحيا فحسب، لأن تربتها ليست طينية فقط، ولكنها رملية أيضا، وعن طريق الحياة تنفذ المياه وتتسرب إلى باطن الدلتا. 3 الأمر ليس تهويما أو افتراضا فقط، لكن التهديد قائم ونذره لاحت بالفعل. ويبدو أن مصادر التهديد متعددة، آية ذلك أن جهات أخرى عدة مابرحت تدق أجراس التنبيه والإنذار، داعية الغافلين والنائمين للإفاقة من سباتهم العميق، خذ مثلا تلك الدراسة التى أعدتها الهيئة المصرية للاستشعار عن بعد، التى حذرت من احتمال اختفاء الأراضى الزراعية فى مصر بعد نحو 60 عاما، إذا ما استمر التوسع العمرانى العشوائى بمعدلاته الحالية المرتفعة، فقد ذكر الدكتور عباس زغلول رئيس شعبة التطبيقاب الهندسية والمياه فى الهيئة أن عمليات الرصد التى استخدمت الأقمار الصناعية اثتبت أن ثمة تراجعا مستمرا فى مساحة الأراضى الزراعية، فمحافظة كفر الشيخ فى شمال الدلتا تراجعت بنسبة 20٪ خلال العقدين الأخيرين، وفقدت منطقة شرق الدلتا نحو 34٪ فى أراضيها الزراعية خلال الفترة ذاتها. أضاف أن بعض العلماء يتوقعون أن تخسر مصر بحلول عام 2050 نحو 17٪ من مساحة الدلتا نتيجة الزحف العمرانى العشوائى على الأراضى الزراعية، الذى تمثل فى الانتشار السرطانى للقرى والمراكز والمدن وتغوله المستمر على الأراضى الزراعية. ولا يرى أولئك الخبراء مناصا من إعلان الوادى والدلتا محمية طبيعية يحظر البناء عليهما، مع إعادة تخطيط وتقسيم خريطة المحافظات فى مصر، بحيث تكون لكل محافظة مساحة من الظهير الصحراوى تسمح لها بالتمدد العمرانى لصالح السكان أو مشروعات التنمية. خذ أيضا تلك الأجراس التى أطلقتها ورشة العمل التى عقدها فى شهر يوليو الماضى مركز معلومات الأمن الغذائى التابع لوزارة الزراعة مع منظمة الأغذية والزراعة «الفاو» التابعة للأمم المتحدة. إذ تحدث الخبراء فيها عن ارتفاع سلة الأغذية الأساسية بنحو 47٪ خلال السنوات الثلاثة الأخيرة. الأمر الذى أوصل نسبة الذين أصبحوا يصنفون عند الحد الأدنى من خط الفقر المدقع إلى 6٪، وهو ما أدى إلى تدهور وضع الأطفال أقل من خمس سنوات، حيث أصبحوا أكثر من يعانون من مشكلات نقص التغذية فى مصر، حيث ارتفعت نسبة سوء التغذية من 18٪ سنة 2005 إلى 25٪ فى سنة 2008. حسب تقدير خبراء «الفاو» فإن مستوى الاكتفاء الذاتى من الحاملات الزراعية تراجع بشكل ملحوظ خلال السنوات الثلاث الأخيرة رغم الزيادة المستمرة فى عدد السكان، فقد كانت نسبة الاكتفاء الذاتى من الحبوب فى بداية السبعينيات 68٪، وهذه النسبة تراجعت فى سنة 2006 لتصل إلى 62٪، مما جعل مصر المستورد الأول للقمح فى العالم، كما انخفض الاكتفاء من اللحوم فى الفترة ذاتها من 95٪ إلى 74.9٪، بينما تراجع الاكتفاء الذاتى من الزيوت النباتية بنسبة 50٪. 4 لا وجه للمقارنة بين هذا التراخى الذى نلمسه فى مصر وبين التعبئة واسعة النطاق الحاصلة فى دول الاتحاد الأوروبى للحفاظ على البيئة ومواجهة آثار الاحتباس الحرارى، ذلك أن من يطلع على الإجراءات الحازمة والاحتياطات التى اتخذت فى دول الاتحاد لمواجهة احتمالات المستقبل. يدرك أن الفرق بين ما يحدث عندنا وعندهم هو عين الفرق بين الجد والهزل. يكفى أن تعلم مثلا أنه منذ ثلاثين عاما (سنة 1979) أصدرت المجموعة الاقتصادية الأوروبية أكثر من 300 توجيه وتعليمة لحماية البيئة، الأمر الذى دفع الدول الأوروبية إلى تعديل نظمها وممارساتها التزاما بتلك التعليمات، حتى إنهم فى فرنسا، واعتبارا من أول نوفمبر عام 2006، أصبح من شروط بيع أى مسكن تقديم شهادة لتقييم أداء الطاقة، يقوم بتحريرها خبير يحدد قيمة استهلاك الطاقة المتوقع للمسكن، وهو أحد الإجراءات التى تقررت لمواجهة التغيرات المناخية، وهناك حملة واسعة النطاق فى مختلف الدول الأوروبية لحث المواطنين على استخدام الدراجات فى الانتقال بديلا عن السيارات لتخفيف التلوث والحد من استهلاك الطاقة، وقد حققت هذه الحملة نجاحات ملموسة فى فرنسا وإنجلترا وهولندا والنمسا. إن المرء لا يستطيع أن يخفى دهشته وانزعاجه من تفشى عدم الاكتراث بالمؤشرات والانذارات الخطيرة التى يتحدث عنها العلماء، خاصة بالدلتا ومستقبلها، بما يوحى بأن هذا الملف لا يمثل أولوية فى تربية اهتمامات السلطة، وأرجو أن أكون مخطئا فى ظنى أن الانشغال بانتقال السلطة فى مصر أصبح الشاغل الأساسى لأولى الأمر فى البلد، الذى صرف الانتباه عن أمور كثيرة، بعضها كما رأيت يتعلق بمستقبل البلد ذاته. أدرى أن مشكلات مصر كثيرة وثقيلة الوطأة، لكننا نفهم فى السياسة أمرين، أولهما أن المشكلات ينبغى أن ترتب حسب أولوياتها، بحيث تحتل القضايا الحيوية والمصيرية رأس تلك الأولويات، الأمر الثانى أن من لا يستطيع أن يتصدى لحل مشكلات البلد، عليه أن يرفع يده عنها، بحيث يخلى موقعه لغيره لكى يجرب حظه فى حلها، لكن الحاصل أن مسئولينا الذين احتكروا السلطة فى البلد فشلوا فى ترتيب الأولويات وعجزوا عن حل المشكلات الكبرى، فلا هم رحموا ولا هم انسحبوا لكى تنزل رحمة الله على الخلق.