بوابة شموس نيوز – خاص "سميح القاسم" أكبر حياة من "محمود درويش"، فقد ولد عام 1939 قبل مولد رفيقه بعامين، و "محمود درويش" أكبر موتا من "سميح القاسم"، فقد مات قبل موت صديقه بستة أعوام، وقد يظن ظانٌّ أن "سميح القاسم" أكثر خبرة من رفيقه، فالعامان اللذان ينضافان لعمره يزيدانه معرفة بأحوال البلاد والعباد والغزاة، هذا غير الأعوام الستة التي عاشها بعده، هذا على اعتبار أن الموتى لا يزدادون خبرة من موتهم، هم لا يعرفون طبيعة الشعراء، فالشعراء أكثر خلائق الله حاجة للصمت التام، والسكون الأبدي، استنباطا لخطوات ملائكة طيبين، سَيُصَعدونهم إلى مدارج ومعارج، واستجلاء لكل ما اقترفته أيادي بشر مناوئين هبطوا بالأناشيد إلى الأخاديد، وقد كان "محمود درويش" راغبا في الاستزادة بهذه الخبرة الإضافية، وقد كان يؤكد أن أحدا لا يموت تماما، وإنما الأرواح تغير أشكالها ومقامها، وبالرغم من أنه قد أجل موته أكثر من مرة، ألا أنه كان مشوقا لأن يغترف من أسرار انغلاقة العين. مثل الموت هاجسا شديد الأهمية للشاعرين معا، منذ قصائدهما الأولى، وكأنهما يخافانه جدا، أو يحبانه جدا، ويبدو أن الفلسطيني بطبيعته، من كثرة مشاهداته للموت العابر والمجاني والمتكرر، صار يألفه، ويقتسم معه حياته وخبزه وحبه، وصار يمشي معه هروبا منه أو وصولا إليه. وقد رأينا هذا الموت، يحكم علاقة "درويش" في شعره بوالديه، أكثر خلائق الله التصاقا به، فأبوه لا يوصيه ببناء بيت أو زرع حديقة، لكنه يشير له على مقبرة، وكأن المقبرة هو العنوان الثابت لحياته، أو لكأنها المؤشر الحقيقي على أنه حي: غض طرفا عن القمر وانحنى يحضن التراب وصلى لسماء بلا مطر وأبي قال مرة الذي ماله وطن ما له في الثرى ضريح ونهاني عن السفر. وهو يحن إلى أمه بتجلياتها كلها، خبزها وقهوتها ولمستها، ووسط هذا كله، يقفز إذ فجأة لسيرة الموت، بدون أي مبرر موضوعي أو فني يوافقه عليه النقاد وقارئو الشعر، ليعلن أنه راغب في الحياة، فقط لكي لا يجعل أمه تبكي: أحن إلى خبز أمي وقهوة أمي ولمسة أمي وتكبر فيّ الطفولة يوما على صدر أمي وأعشق عمري لأني إذا مت أخجل من دمع أمي. حتى يحين موعده مع جداريته الفخيمة التي يمكننا أن نتعامل معها على أنها مديح للموت العالي، أو سيرة ذاتية لموته كما رآه بعينيه الاثنتين: فيا موت انتظرني ريثما اُنهي تدابير الجنازة في الربيع الهش حيث ولدت حيث سأمنع الخطباء من تكرار ما قالوا عن البلد الحزين وعن صمود التين والزيتون في وجه الزمان وجيشه سأقول: صُبُّوني بحرف النّون حيث تعبُّ روحي سورة الرحمن في القرآن وامشوا صامتين معي على خطوات أجدادي ووقع الناي في ازلي ولا تضعوا على قبري البنفسج. أما "سميح القاسم"، فهو يقيم أحيانا كثيرة في مقام الفلسفة وهو يتفرج على الموت، وكأنه يريد أن يُبَصِّرنا بتصاوير الغياب كلها، هو أيضا خبر الموت كما خبره رفيقه، واستدل به على الحياة كما استدل رفيقه به عليها، لكنه يندب حظ الأحياء الموتي أكثر مما يراقب هذا الخط الفاصل بين موت الروح وموت الجسد: يا أيها الموتى بلا موت تعبت من الحياة بلا حياة وتعبت من صمتي ومن صوتي تعبت من الرواية والرواةِ ومن الجناية والجناة ومن المحاكم والقضاة وسئمت تكليس القبور وسئمت تبذير الجياع على الأضاحي والنذور. حتى إذا اقتربت أنفاسه أنا لا احبك يا موت أنا لا اخافك وأدرك أن سريرك جسمي وروحي لحافك أنا لا احبك يا موت. في كتاب الرسائل المتبادلة بين الشاعرين، ثمة نثر عن الموت، وثمة شعر، في الشعر يقول "سميح القاسم" ل "محمود درويش": ولم يبق في الأرض غير الذين يحيوننا ميتين. ويقول له "محمود درويش": لو كان قلبي معك وأودعته خشب السنديان لكنت قطعت الطريق بموت أقل. وهكذا، يسير الشاعران من موت إلى موت، لكن "محمود درويش" غافل صديقه، وتأخر في القدوم إلى الدنيا بعده بعامين، و"سميح القاسم" احتسبها مجرد صدفة، فلم ينتبه، حتى عاود صاحبه مغافلته مرة أخرى، وسبقه إلى الموت بستة أعوام كاملة، ولما انتبه "سميح" إلى مكر صاحبه، كان صاحبه قد اختطف خبرة الموت كلها، ونام في هدوء.