بوابة شموس نيوز وقائع موت غير معلن محمد عبد الجابر يرحمه الله تابعت مع آلاف المصريين في المملكة العربية السعودية و في مصر قصة وفاة المدرس المصري محمد عبد الجابر الذي توفي قبل أيام في العاصمة الرياض وسط ظروف مأساوية بالغة التعقيد و أسأل الله سبحانه أن يتغمده بواسع رحماته و أن يلهم زوجته و صغيريه جهاد و عبدالرحمن و عائلته الصبر و السلوان و يخلف عليهم بخير . وفاة المصري المغترب في أرض بعيدة ليست كوفاة أحد في مصر وسط أهله و ناسه و معارفه , و في الحالين هي مصيبة لا شك لكن الغربة لها قانونها الخاص الذي لا يرحم , ويصبح هذا القانون صارما حين يكون المتوفى مدرسا صغيرا أو عاملا بسيطا يأكل من كدّ يده و يعول أسرة هناك في البلد البعيد . مأساة محمد عبد الجابر يرحمه الله جمعت كل مآسي الغربة بلا رحمة أو تعاطف أو رعاية فمات محمد عبد الجابر يرحمه الله مريضا مبطونا وحيدا لا يشعر به أحد وسط غياب تام للقنصلية المصرية في العاصمة الرياض اللهم إلا زيارة شكلية لمستشار منها ودون حضور فاعل لها في مرضه أو مماته رغم علم مسؤوليها بقضيته ولدي ما يثبت علمهم اليقيني بحالته بكل تفاصيلها وأن إقامته منتهية الصلاحية و بينه وبين كفيله مشاكل وقضايا وأن مرضه عضال و آلامه شديدة ولا يجد من يعالجه . محمد عبد الجابر يرحمه الله مدرس مصري بسيط من صعيد مصر – المنيا – يعمل في التدريس وتجاوز الخمسين خريفا بعامين و يعول أسرته في مصر , مرض محمد عبد الجابر يرحمه الله و تعرض لآلام رهيبة جراء هذا المرض , ورغم أن أنظمة المملكة العربية السعودية تلزم كل صاحب عمل سعودي بالتأمين الطبي على موظفيه و عماله إلا أن التأمين في غالبه صوري لا يقدم و لا يؤخر لكن يلزم وجوده الوهمي لإتمام إجراءات إصدار رخصة الإقامة والعمل و غيرها من المعاملات الأخرى , إذا لا تأمين حقيقي يفيد المريض و يفتح له أبواب المستشفيات و المستوصفات اللهم إلا إذا كان تأمينا فعالا وذلك يستلزم مبلغا كبيرا لا يقوى عليه البسطاء من العمال , أضف إلى ذلك أن رخصة إقامته النظامية كانت منتهية مما يعقد الأمور كثيرا , وعليه فلم يكن تأمين محمد عبد الجابر يرحمه الله ذا نفع أو قيمة أو فائدة فلم يستطع إدخاله إلى مستوصف أو مستشفى فاحتال و ارتمى في شارع و اتصل على سيارات الإسعاف فنقلوه إلى المجمع الطبي في حي الشميسي بالعاصمة الرياض لكن سرعان ما كتب له الطبيب خروجا رغم مرضه الشديد و آهاته العالية , خرج ليموت مبطونا و يترك ورقة صغيرة في جيبه ذكر فيها قصته الأليمة و ذكر صغيريه جهاد و عبدالرحمن أن جواز سفره في جيبه لاستخراج شهادة وفاة من بلده المنيا في صعيد مصر . وهذا نص رسالته : (معلش بقى مضطر أسيبكم واروح عند ربنا …هناك أوسع وأرحب والله ما كنت عايز حاجة /من دنيتكم غير إني أعيش بينكم …تلات أيام ومحدش راضي يستقبلني في غربتي ولا يحن عليّ بصراحة حاجة زعلتني من الناس كلها … مسامحكم والله ومسامح كل مصري في الرياض …كتر خير اللي سأل وسعى وربنا مكنتش عايز أتعب حد منكم ..أنا أديلي سنة تعبان ولادي ولا زوجتي في مصر يعرفوا عن حالتي حاجة أقولكم والله العظيم الشباب اللي كانوا معايا في السكن بمنفوحة وفي نفس الغرفة مكنوش يعرفوا ولا حبيت أتعبهم معايا شلت الوجع لوحدي سنين ..كنت بقول حتفرج ..حتروق بس يوم الاتنين اللي فات 19/2/2018 مقدرتش استحمل ..الاقامة كانت منتهية ومفيش تأمين بقى يا ناس أتعب يوم الاتنين وأموت اليوم الاربعاء صباحا .. يالا الله يسامحكم .. قالوا لي يوم الاتنين الاسعاف مش حتقبل تشيلك من البيت ..روح ارمي نفسك في شارع واتصل عليهم يجوا يشيلوك من الشارع عملت والله كده ورضيت بده كله وانا جسمي مكشوف من ورم شديد في بطني خدتني الاسعاف لمستشفى الشميسي قلت حتفرج أنا مسامحكم وكنت عايز اقول الدكتور اللي كتب لي خروج وهو عارف اني بموت …كتر خيرك كنت حتخسر ايه ..لو سبتني أعيش حتى أشوف جهاد وعبد الرحمن وأسلم عليهم في مصر مش زعلان والله مصر!! بالمناسبة حتلاقوا في جلابيتي جواز سفر لسه ساري المفعول ..ابقى خلوا عبد الرحمن ابني يروح به سجل مدني المنيا عشان يطلع بيه شهادة الوفاة حد يقول لعبد الرحمن أبوك مات فيالغربة عشانك انت والعروسة جهاد يالا بقى أستودعكم الله ..ونشوفكم على خير في الجنة حبيبكم / محمد جابر ). هذا نص رسالته و آثرت تركه كما هو بلا تصحيح أو مراجعة .. رسالة محمد عبد الجابر يرحمه الله شهادة أليمة تدين الجميع بلا استثناء , كتبها بدمه النازف قبل أن يكتبها بحبر أزرق قان , قرأت رسالة محمد عبد الجابر يرحمه الله وبكيت وبكى كل مصري مغترب يظن الناس أن هذا المغترب لا يفعل شيئا غير تعبئة الفلوس في شوال أو زكيبة وأن هذا المغترب لا هم لديه و لا شغل إلا تعبئة الفلوس في زكايب و خزائن ليست موجودة إلا في خيال الناظرين للمغترب تلك النظرة البائسة و لا يعلم هؤلاء أن كل أموال الدنيا لا تعدل دمعة تسيل في صمت من عين مغترب شوقا لصغاره أو حبا لزوجته أو شفقة على والديه الكبيرين هناك في المحروسة البعيدة . مات محمد عبد الجابر يرحمه الله و دفن في مقابر النسيم في العاصمة الرياض , مات محمد عبد الجابر يرحمه الله لكنه مات قبل موتته الأخيرة مرات عديدة … مات يوم خرج من مصر بحثا عن لقمة عيش لم يجدها في وطنه القاسي المثقل بالسياسات الغبية التي جعلت مصر وطنا طاردا و بالديون و الفساد و المحسوبية و الرشاوي وكل سوء . مات يوم وصل أرض غربته فلم يجد صديقا ناصحا و لا زميلا مشفقا و لا جارا أوصي به حتى ظن الوراثة لا محالة تدركه . مات يوم تخلت عنه قنصليته الفاشلة و تركته يواجه كل شيء وحيدا مفردا بلا سند من وطن بعيد و لا قنصل فاشل وصلته كل تفاصيل قصة محمد عبد الجابر كاملة لكن كل همّه كم دولارا راتبه الشهري وكم مقابلة تليفزيونية سيجري للحديث عن المصريين و إنجازاتهم ولا ينسى في نهاية المقابلة توجيه الشكر للسيد الرئيس و لمعالي رئيس الوزراء و لمعالي السفير و للجميع إلا لهذا العامل البسيط الذي لا يشعر به أحد ,وتلك القنصلية اللعينة تجمع مع كل معاملة يجريها المغترب أموالا مضاعفة تكفي رعاية و احتواء لكل المصريين , ويوم كان للمصريين في الغربة صندوق رعاية اجتماعية يرعى أمراضهم و أوجاعهم و مشاكلهم كانت الأمور أفضل قليلا مما هي عليه بعد إغلاق هذا الصندوق و تجميد ملايينه بقرار غبي من مسؤول جاهل بعدما تشبث جماعة الإخوان الفاسدة به . مات محمد عبد الجابر يرحمه الله حين لم يعلم به رفاق الغرفة والسكن ولم يقدموا له عونا أو مساعدة أو علاجا ولهم بعض عذر لكن اللوم طائلهم لا شك في ذلك ومن الإنصاف ذكر موقف الشاعر الصديق هشام أبوخلاد الذي رافق الشهيد محمد عبدالجابر في لحظاته الأخيرة و وقف معه موقفا نبيلا غير مستغرب من شاعر مثله . مات محمد عبد الجابر يرحمه الله يوم علم بمرضه و لم يغادر فورا عائدا لمصر مهما كانت النتائج فلن تكون أسوأ من موت في غربة قاسية وسط رفاق عندهم ما يشغلهم من همومهم ومشاكلهم و ذواتهم و قنصلية لاهية و قنصل فاشل أولى اهتماماته المصري في بلاد الغربة حسبما تنص عليه مهام وظيفته ولن أذكر مواقف مشرفة لسفارات الفلبين و الهند في مواقف مشابهة حدثت لعمالتهم هنا فالمقارنة لا تصلح أساسا . مات محمد عبد الجابر يرحمه الله يوم دفن غريبا في أرض غريبة و شيعه غرباء ليس فيهم مسؤول قنصلي أو شبه قنصلي و غاب اللذين صدعوا رؤوسنا بالجالية و رعايتها و ممثليها اللذين يملؤون الفضاء ضجيجا و صورا و جعجعة ولا نرى طحنا . مات محمد عبد الجابر يرحمه الله و سيموت غيره لكنها وقفة تستحق التأمل , لم تعد ديار الغربة كسابق عهدها لظروف كثيرة متشابكة , ومصر المشغولة عن نفسها و أبنائها لا تعي حجم المشكلة فلا تعولوا على أحد هنا أو هناك إلا أنفسكم و أنفسكم فقط لا غير , التفكير في البدائل صار فرض عين على كل مغترب و العودة أولى البدائل مهما كانت الظروف هناك .. فمصر لا ينام مصري بها جائع مهما بلغت الأمور سوءا , أعلم علم اليقين أن القرار صعب و الخوف منه أصعب لكن لو دامت ديار الغربة للمغتربين فحدها الأقصى عاما أو عامين على أحسن تقدير وعلى مصر رئيسا و حكومة و شعبا أو يدركوا أن مال المصريين و تحويلاتهم من الخارج إلى بدأ في التناقص و أنه إلى زوال و أن عليهم التخطيط لاستيعاب ملايين العائدين بأمراضهم و همومهم و مشاكلهم و بعض مال قليل قد يفيد لزمن قليل . رحم الله محمد عبد الجابر و رحم كل غريب و رحم الله وطنا أردناه خير بلاد الله , و حلمنا به جنة و نيلا أبيا و دلتا خصيبة فلم يكن بردا و لا سلاما .