المساكين بالرّوح وابتهاج الكمال الرّبّانيّ (4) في موعظة الجبل تجتمع الأضداد لتبرهن حياة أرضيّة سماويّة يحياها أبناء الملكوت على رجاء الاتّحاد بها نهائيّاً. (المساكين/ الحزانى/ الجياع/ العطاش/ المطرودون)، كلّها دلالات لفظيّة لا تتماهى ولفظ (الطّوبى) إذا ما اقتصرت قراءة النّصّ الإنجيليّ على عجز اللّغة عن تبليغ الفحوى الإلهيّ لأهمّيّة ارتباط الغبطة والفرح بألم المحبّة. "طوبى للمساكين بالرّوح، لأنّ لهم ملكوت السّماوات" (متى 5:3). فالمساكين بالرّوح ليسوا أولئك المتخلّين عن فعاليّة الجسد والزّاهدين به وحسب. وإنّما هم الّذين وجّهوا الكيان الإنسانيّ جسداً وروحاً إلى الله. فأتى كلّ فعل لهم مقدّساً لمجد الله. لأولئك ملكوت الله، لأنّ الّذي خلق الإنسان لم يفصل بين روحه وجسده، بل إنّه خلق الشّخص بكلّيّته. والرّوح والجسد متّحدان في عمليّة الخلق، لكنّ الإنسان يفصل بينهما إذا ما اختار أن ينصّب الجسد إلهاً يستحكم بروحه. والجسد يأخذ أبعاداً خاصّة في هذا الانفصال إذ إنّه يسمح للعقل أن يتمرّد عليه وعلى الله فيتّجه نحو الموت. وأمّا الحياة فهي في اشتعال الرّوح وشوقها المتجدّد المستمرّ للمحبّة الإلهيّة. فالرّوح في الإنسان هي أنفاس الله الّتي تحيي هذا الجسد. "جبل الرّب الإله آدم تراباً من الأرض، ونفخ في أنفه نسمة حياة. فصار آدم نفساً حيّة." (تكوين 7:2). ما يعني أنّ الحياة الإنسانيّة ترتبط حميميّاً بخالقها، ودونها موت حتّى وإن كان الإنسان حيّاً بالمعنى البشريّ. جبل الرّبّ الإنسان من صلابة الأرض ورقّة السّماء، فاجتمع فيه هذان الضّدّان ليكون نفساً حيّة. إلّا أنّهما يفقدان ماهيّة التّباين إذا ما حافظا على الاتّحاد الّذي خلقا عليه. بمعنى آخر، بقدر ما يتّحد الجسد بالرّوح، أي نسمة الحياة، أي الله، يكون له الملكوت، قلب الله. والمساكين بالرّوح يعاينون هذا الاتّحاد ويفهمونه ويسعون جاهدين للحفاظ عليه ليحيوا أبداً. فالنّقص البشريّ الحقيقيّ هو ذلك المتّسم بانفصال الجسد عن الرّوح فيحييان بمعزل عن بعضهما ما يفسّر الخلل الحاصل في النّفس الإنسانيّة المولّد للخلل النّاتج في العالم. ما يقودنا إلى فهم أكبر لقول بولس الرّسول في رسالته إلى فيليبي (4:4): "افرحوا في الرّبّ كلّ حين، وأقول أيضاً افرحوا". فالفرح المتأتّي من الرّوح التّائقة إلى الله يؤكّد اتّحادها بالجسد، لأنّها تستمدّ من الفرح الإلهيّ قدرتها على عيش حقيقة الملكوت وإظهاره للعالم. المسكين بالرّوح يحمل الحقيقة وبها يستنير فيشعّ جمالاً جسديّاً شهدناه ونشهده في آبائنا القدّيسين الّذين استخدموا الجسد في سبيل اتّقاد نسمة الحياة فيهم. والإنسان المجبول بالتّراب في البدء جبله المسيح بجسده فمنحه إيّاه على الصّليب ليكون له الملكوت. فلا بدّ لذلك المسكين بالرّوح من أن يفرح ويبتهج إذا ما انغمس بجسد الرّبّ وتاق إليه كلّ حين.